الـتـقـطـيـع 2

تغير الكاميرا مواقعها داخل مشهد معين وتعدده دون أن ينتبه الجمهور لذلك وفق قاعدة 180 درجة التي يضمن تطبيقها احترام اتجاهات المكان وتقطيعه. لكي أقرب القارئ من هذه القاعدة يمكن أن أعطي مثال تصوير مقابلة في كرة القدم: حيث كل الكاميرات توضع في جهة واحدة من الملعب للحفاظ على اتجاه اللعب. الكاميرات لا يحق لها أن تقفز على الخط الذي يرسمه الفريقان أي زاوية 180 درجة. إننا هنا نتحدث عن السينما التي تقدم الأحداث على أنها واقعية وليس عن السينما التي تخرج عن هذه القواعد وتؤسس لتلقي مغاير
لتصوير مشهد لشخصين يتحدثان مثلا، اللذين يرسم تواجدهما داخل مكان ما زاوية 180 درجة أي خط مستقيم، نبدأ بتصوير الزاوية الأولى وعندما ننتقل لتصوير الزاوية الثانية دائما لنفس الموقف، نحرك الشخصيتين معا قليلا غالبا لهدف الحصول على تكوين معين للإطار. المتفرج لا ينتبه لهذا التحوير الذي يطال علاقة الشخصيات بالمكان لأن تغيير موقع الشخصيات بين زاويتين أو اللقطتين تم باحترام قاعدة 180 درجة التي تحافظ على اتجاه النظرات والمسافة بين الشخصيتين. انطلاقا من هذا المبدأ تقوم السينما من خلال التقطيع التقني باعتبار المكان مادة خام يمكن تشكيلها وإعادة صياغتها كيفما شئنا لخدمة غرض درامي أو سردي. تمطط المكان، تضيقه، تخلق المسافات أو تمحيها تعيد تشكيله، ليتحول من معطى فيزيائي إلى مكان متخيل وأبعد من ذلك إلى مجاز.
في غياب التقطيع التقني واعتماد كتابة الفيلم على اللقطة الواحدة plan-séquence يمكننا أن نتحدث عن تقطيع داخلي يعيد صياغة المكان ويحوله إلى فضاء متخيل داخل وحدة المكان والزمان. اللقطة  تقسم المكان إلى الحقل CHAMPS  وخارج الحقل  HORS CHAMPSوالاقتصار على اللقطة الواحدة يعطي لهذا المكون أي جزء المكان اللامرئي / خارج حقل الرؤية مساحة أكثر لدلالة عن جزء المكان المرئي. عمليا في حالة اللقطة المشهد نختار مكان / ديكور يسمح بحركية كبيرة للممثلين والكاميرا (ثابتة أو متحركة) ويسمح بإمكانية خلق لعبة الظهور والتخفي وللكاميرا أن تنتقل من الداخل إلى الخارج، من مكان إلى آخر  وأن تختفي وتظهر دائما في نفس اللقطة. في تقاليد سينما الأستوديو يتم  تصميم الديكور وفقا لمتطلبات الميزانسين أي أننا أمام سينما تنطلق من مكان متخيل وتنتهي إليه دون أن ينفي ذلك من واقعيتها.
الكاميرا من المفروض أن تنتقل بمنطقها الداخلي وأن تبلور شبكة من العلاقات والتقاطعات بين مساحات زمنية (مدة اللقطات) ومسافات (سلم اللقطات) لتخلق في النهاية لنفسها بنية خاصة وموسيقاه الداخلية. يمكن أن يكون التسلسل سلسا منسابا بجمل طويلة، عفوا بلقطات طويلة أو ليس كذلك أي أسلوب متواتر بلقطات قصيرة أو خليط بين الأسلوبين…
إن وجود هذه البنية الداخلية للتقطيع التقني مستقلة عن الدراما والسرد  تجعل التمتع بالفيلم يصل إلى مستويات عميقة ولا يقتصر على الحكاية فقط وإنجازات الشخصيات وبطولاتها ومواقف إيديولوجية آنية.. ولكن إلى مستوى يحاكي متعة سمفونية بصرية من الأشكال والأحجام والمسافات الزمنية والأصوات، أي متعة تنفد إلى الروح بدون أية وساطة.
يشبه التقطيع التقني إلى حد بعيد الموسيقي، التي هي فن الزمن بامتياز. فوحداته، أي اللقطات  التي هي مسافات زمكانية، تتوالى في مستوى معين باستقلالية نسبية عن الدراما والسرد وبمنطق زمني موسيقي: من جانب تتحدد المدة الزمنية للقطة كوظيفة درامية ومن خلال ذلك زمن قراءة عناصر اللقطة وكذلك تتحدد المدة الزمنية بشكل قبلي كاختيار فني عام لا يهم مشهدا بعينه…
 يتبع..
بقلم: محمد الشريف الطريبق

الوسوم ,

Related posts

Top