الفنان التشكيلي حسن المقداد: تجريد يتوحَّد في الامتداد

برز الفنان التشكيلي حسن المقداد -المزداد بالدار البيضاء عام 1952- مكوِّناً ومؤطراً تربويّاً سابقاً بشعبة الفنون التشكيلية والتطبيقية في الدار البيضاء (1978- 2012) وأستاذاً لتاريخ الفن بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بنفس المدينة (1998- 2000) وظلَّ طيلة هذه السنوات يمثل نموذجاً بيداعوجيّاً كان له الفضل الكبير في تكوين أفواج عديدة من التلاميذ والطلبة..
مثلما برز أيضاً مبدعاً خلاَّقاً نحت مساره الفني والجمالي بألق وتميُّز مستحق قام أساساً على إنتاج اللوحة التجريدية بميسمها الحداثي الذي ظهرت في ضوئه المهارة الصباغية العالية التي يتمتع بها والتي منحته مكانة إبداعية متفرِّدة..

عتبات البداية الفنية

انبثقت الميُولات الفنية الأولى عند الفنان حسن المقداد منذ فترة طفولته التي عاشها شغوفاً بالفن وبعالم الألوان التي كانت تستهويه وتشدُّ نظره وتخطف إحساسه كلما شاهدها في أي مكان، وتفتَّق هذا الشغف تدريجيّاً إلى أن وجد صداه لمَّا قرَّر الانخراط الكلي في المجال التشكيلي الذي صار شغله اليومي..
وقد تعزَّزت هذه البداية بتدريس شعبة الفنون التشكيلية لسنوات عديدة انطلقت بثانوية الخنساء في الدار البيضاء خلال الموسم الدراسي 1984ـ1985، ليواصل العمل عقب ذلك بثانوية جابر بن حيان حتى إحالته على التقاعد عام 1912، وكذلك اشتغاله أستاذاً لتاريخ الفن بمدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء طيلة الفترة الممتدة بين عامي 1989 و2000.
هذا بالإضافة إلى مساهماته ومشاركاته المتميِّزة في مجمل المعارض التشكيلية صحبة نخبة من الفنانين ممن يعيشون ويشتغلون في الدار البيضاء والرباط، والذين أقاموا عدة أنشطة مشتركة، أبرزها المعرض المتجول بالرباط وخريبكة والدار البيضاء..هذا إلى جانب مشاركته مرتين في موسم أصيلة الثقافي، حيث أنجز جداريتين بأسلوبه الصباغي المعروف، فضلاً عن المعرض الوطني للفنانين التشكيليين في كل نسخه ودوراته..وغير ذلك كثير.
وقد منح هذا التفرُّد المهني والإبداعي للفنان المقداد التألق بيداغوجيّاً حيث مثل نموذج المربي الناجح والأستاذ المبدع والباحث الذي سخَّر كل جهوده وطاقته لفائدة الطلبة وخدمة لمادة تخصًّصه، وإبداعيّاً بتميُّزه ضمن كوكبة من أصدقائه الفنان الذين تقاسم مهم همَّ الدرس الجمالي وكذا قلق الإبداع الذي كان يتغلب عليه بالإنتاج المستمر الممتد لجدِّيته والتزامه الإبداعي. وقد ظلَّ معجباً ومشدوداً نحو التجريدات اللونية لكبار الفنانين التي كان يُوثقها بجمع المجلات والملاحق الثقافية التي كانت تُنشر فيها والتي دأب على اقتنائها والاحتفاظ بها تماماً كما كان يفعل زميله التاريخي المبدع الرَّاحل عمر أفوس.
من ثمَّ، عدا الفنان المقداد أحد ألمع فناني جيل الثمانينات وساهم في تفعيل الحداثة التشكيلية في المغرب من خلال إبداع اللوحة الحروفية بتجريدية حسية ولونية نادرة. ضمن هذه السلالة المبدعة والمجدِّدة في حقل الفنون التشكيلية في المغرب “حرص الفنان حسن المقداد على تأصيل وتأثيل منجزه البصري الخاص، إذ عمل على تنويع مفردات مدونته الإيقونوغرافية، ومنح أسانيده الصباغية محمولات جمالية ثرة، وضخها بفيوضات بوليسيمية لامتناهية.وما توسل مقداد بضرب من الاقتصاد الكروماتي، وتنويعه للكتل والفصوص والسطوح والتهويمات، وما استثماره السينوغرافي الخالص للحروف..غير تعلات فنية للقبض على الإيقاعات اللامرئية، و الإمساك بالمعاني الإنسانية المنفلتة واللامفكر فيها، بغيةإعادة تشكيلها في نص بصري بوليسيمي حمَّال كنايات واستعارات بالغة التوهج والألق”، كما يقول الباحث الجمالي محمد الشيكَر.
هذه المعاني الإنسانية كانت ولا تزال تشكل السمة الغالبة والمتجذرة في سلوكيات حسن المقداد مبدعاً خلاَّقاً..وفنَّاناً ودوداً متواضعاً يحب الخير للنَّاس أكثر من نفسه، أصيل ونادر يحمل صفة المبدعين الكبار.

إفرازات زرقاء

باطلاع سريع على اللوحات الصباغية التي ينفذها الفنان المقداد، لاسيما الأخيرة منها، نكتشف شرائح وتكوينات ملوَّنة تكسوها خطوطيات” سريعة التنفيذ وتتعاضد فيها آثار وبصمات جمالية سوداء وزرقاء داكنة (أنديغو) تعتريها حمرة وصفرة في بعض الحواشي تقرِّرها تحريكات فرشاة مشبعة ومقدرة على إيقاعات كاليغرافية حرَّة..متطايرة تمنح اللوحة صفة “الحروفية النَّصية” Textuelle الأقرب إلى الترميز بدل الإفصاح، الأمر الذي يجعلها -اللوحة- لا ترسم حضور الأشياء بقدر ما ترسم غيابها..
من ثمَّ تظلُّ التشكيلات الكاليغرافية (التجريدية) التي يوظفها الفنان المقداد تعطي لقارئها انطباعاً بأنها تتزحلق..وبأنها تعيش في عمق الذاكرة الأثرية..الذاكرة التي يتمُّ الاشتغال عليها كثيراً بعمق إشعاعات اللون الأزرق السائد والأشكال المكوَّرة المتراكبة وشرائط الألوان الغليظة وأشياء أخرى أمست تشكل العلامات الرئيسة المكوِّنة للقطع التشكيلية التي تختزل مشاعر الفنان المقداد. أما المشاعر الأخرى التي تبعثها اللوحة إلينا -كقراء بصريين- فلها طبيعة مغايرة. من هنا يبدأ فن تشكيل اللوحة بما تفرزه المخيلة للمبدع (أو الإفرازات الرزقاء Sécrétions bleues بتعبير الفنان المفضل) انطلاقاً من تاريخ الطفولة وذاكرة البداية..
امتداداً لذلك، وبرؤية تجريدية حداثية، تتواشج بعض لوحاته -قليلاً- مع العوالم الصباغية عند الفنان العراقي الرَّاحل شاكر حسن آل سعيد مستوى المحو وتعضيد التلوين وانسيابيته في حدود حركات فرشاته وفي عفوية تلوينه الذي تمتزج فيه الفاتخ والغوامق اللونية، مع بعض التفرُّد هو أن الصيغ التعبيرية عند الفنان المقداد لها بناؤها الخاص ومنطقها الجمالي الخاص أيضاً، إذ يصحُّ القول بأن اللوحة عنده ليست سنداً ماديّاً تتجمع فوقه وحوله الخطوط والآثار اللونية المتناثرة فحسب، قدر ما هي فضاء جمالي Espace esthétique يتحوُّل فيه الصامت إلى ناطق..والناطق إلى صامت بالشكل الذي تتفاعل فيه المفردات التعبيرية/العلامات الخطية داخل مضمون صباغي أصيل ومبتكر يرُوم الارتقاء بالمستوى البصري للمادة، أو الواقعية الشيئية، بتوصيف الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد.

أثريات لونية

يشتغل الفنان المقداد داخل المرسم ويُبدع بحسٍّ “أثريٍّ” Archéologique -إذا جاز التعبير-، ذلك أنه يبحث في ثنايا اللون وتضاريس المادة الخفيضة بالتركيز على اندماجهما فوق السند. فهو يستهويه التلاعب بخلائط الألوان والصبغات المستعملة التي يقوم بعجنها وفق التركيب المنشود، وهي ةاحدة من السمات القوية في تجربته الصباغية. فالتركيب Composition، هو مفهوم تشكيلي أساسي يقوم عليه فعل الإبداع لديه، مع مراعاة التوازنات البصرية المطلوبة التي أضحى يقتضيها التجريد اللوني بمعناه الحديث والمعاصر.
ولأن “كل العلامات تميل لأن تكون وظيفية”، كما يقول بودريار Baudrillard، فإن حضورها في التجربة التشكيلية عند الفنان المقداد لا يمكن أن تصير إلاَّ أكثر من ذلك، بحيث تجنح إلى تجاوز وظيفتها الأولية لتكتسب وظيفة أخرى ضمن النسق الأيقوني العام للوحة. فهذه العلامات تشتغل داخل بنية النص التشكيلي كنظام بصري يتوحَّد في الامتداد، وذلك وفق أسلوب صباغي مائل إلى الإقلالية والاختزال. من ثمَّ تحيلنا اللوحة على صمت الأثر، وتتجه نحو الكشف عن المخفيات والممحوات داخل مساحات معتمة بنور. إثر ذلك تغدو اللامرئيات معادلاً لأجواء لونية ضامرة منسجمة مع البواطن الداخلية للتوليف والتكوين الخاضعين للمواد المستخدمة في أداء العمل الفني.
إن الفنان المقداد وبمدركاته الفنية الرَّاقية وبفكره الرَّاكض عمَّق هذا الاشتغال بالبحث والتجريب الجمالي المعاصر، حيث أضحى يعتمد الكتابة العربية في تكويناته الجمالية بعد أن يجرِّدها من دلالاتها اللغوية لتصير علامات ورموز ومفردات تشكيلية عصية على القراءة تتجسَّد في تجريد صوفي مطلق. وعبر تكثيف المعنى للمضمون، يرسم للتصوير التجريدي أثره ضمن تدشينات لونية متتالية قائمة على استحالة الإفصاح بفعل تداخل الروافد وعناصر الخبرة التلوينية.
هكذا، وعبر الكتل والمقطعات المساحية التي يشكلها الفنان داخل فضاء اللوحة، تستوقفنا هذه العلامات والآثار التي دأبت على التحوُّل في جوهر هوائي واسع، وقد وجد فيها الفنان طاقة صوفية تعبيرية إضافية لما تتضمنه من نزوع إبداعي نحو المطلق واللامحدود..وميول صباغي يرسم في تمفصلاته المتعدِّدة تأرجح اللوحة بين ذاكرة الأثر..وأثر الذاكرة التي يعبَّر عنها بألوان بصرية كثيراً ما تتعرَّى لتلبس أخرى ممزوجة بمؤثرات مادية ملمسية.
في هذا المقام التخييلي، وبتعبير الناقد الفني عبد الله الشيخ.، فإن الفنان حسن المقداد “يرسم آثار العلامات والرموز التخطيطية المشبعة بالإيقاعات الحرَّة التي تأخذ شكل كتابة تلوينية آسرة ومحيرة. إنها عبارة عن رسائل مفتوحة غير خاضعة لقواعد ثابتة ولمقاييس متناسبة. فنحن أمام تسنين جديد للآثار كطاقة صوفية تعبيرية إضافية تسعى إلى تعزيز النص البصري وتزويده بطاقة جمالية محايثة : فالفنان يمارس وظيفة الوساطة بين العلامة المتخيلة (التي هي وسيط لفكر ومتخيَّل ما) والمتلقي البصري. هكذا، تشكل الوحدة الرمزية للعلامة غاية في ذاتها تفرغ متن اللوحة من معاني ومقصديات القراءة الحرفية. لم تعد هناك قراءة بل مشاهدة”.
وبقد ترسُّخ الآثار التجريدية وانفتاحها على ألوانه الاشراقية، فقد شهدت خلال اللوحات الأخيرة ميل الفنان المقداد نحو المجموعة اللونية الرمادية التي سادت مَلْوَنَتَهُ الرَّاهنة باحثاً في بنياتها وجمالياتها الطيفية الناتجة عن استخدام مواد صلصالية تحيل على الذاكرة الجمعية والارتباط العضوي والرمزي بالأرض وبالتربة النقية التي نشأ في أحضانها.
فبفضل كل هذا المنجز الجمالي الرَّاقي، يظلُّ من المؤكد جدّاً أن الفنان حسن المقداد يُشكل نموذج المبدع المثالي الذي يعمل بصدقية خالصة ترسم طقوسيته Ritualité وانسجامه التام مع إبداعاته التي تستحق تقديراً واسعاً بفعل قوَّتها التعبيرية وبلاغتها التشكيلية العميقة والمفعمة بحيوية بصرية نادرة تُمَيِّزُ مُدَوَّنَتِه الأيقونوغرافية التي تتناغم فيها الألوان والآثار التي تحدثها تيمُّناً وأخذاً بنصيحة الشاعر ستيفان مالارميه S. Mallarmé: “لا ترسم الشيء..بل أرسم التأثير الذي يُحدثه”.
ومن المؤكد جدّاً أيضاً أن المبدع حسن المقداد أفاد كثيراً الدرس الجمالي في المدرسة المغربية بإخلاصه المهني المفيد والمؤثر والنادر، بمقدار إفادته للمحترف التشكيلي العربي والمغربي بفضل إنتاجاته الصباغية الرَّاقية والمشرِّفة تقنيةً وبحثاً وتجريباً، والتي جعلته ضوءاً مضيئاً ووضَّاءً ونبراساً للاقتداء ضمن كوكبة من الفنانين التشكيليين الذين ميَّزوا الجيل الثمانيني في المغرب..
فكل التحايا والورود لهذا المبدع الكبير الذي ندَّخر له الكثير من المحبَّة والتقدير..والاحترام أيضاً..

بقلم: إبراهيم الحَيْسن

فنان وناقد

Related posts

Top