الفيلموغرافيا الوطنية خلال مرحلة الحماية “1912- 1956”

إذا كانت الفيلموغرافيا الوطنية لم تسجل، بعد 30 سنة من الاستقلال “1956- 1986″، أكثر من 63 فيلما روائيا طويلا، وذلك بمعدل فيلمين في السنة تقريبا، فإننا لا نكاد نعرف شيئا كثيرا عن فيلموغرافيا مرحلة الحماية “1912- 1956”. وهنا نتساءل: هل تم بالفعل إنتاج أشرطة مغربية في هذه المرحلة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو مصيرها؟ وبالتالي هل يمكن مشاهدتها؟
إن البعض من هذه الأسئلة تجيب عليه المقالة التي نشرها بوزيان الداودي ونظام العبدي في الجريدة الفرنسية “ليبراسيون” (عدد 8/9 نونبر 1986 – ص. 30 و31)، على هامش الملتقيات الثامنة لسينما البحر الأبيض المتوسط المنعقدة في شهر نونبر من نفس السنة بمونبوليي بفرنسا. ونظرا لأهمية المعلومات الواردة في هذه المقالة، ارتأيت ترجمتها إلى العربية قصد المساهمة في إلقاء المزيد من الضوء على تاريخ السينما المغربية.
ومعلوم أنه سبق لي نشر الترجمة العربية لهذه المقالة منذ حوالي 33 سنة بالملحق الثقافي لجريدة “أنوال” (أنوال الثقافي- عدد السبت 3 أكتوبر 1987- الصفحات 8و9و14و15)، وأعيد نشرها هنا بعد تنقيحها وتعزيزها بصور مناسبة. وغايتي من هذا كله هي تبيان أن هناك إنتاجات سينمائية مغربية فرنسية مشتركة “بأشكالها المختلفة” قد سبقت تجربة فيلم “أبناء الشمس” (1961) لجاك سيفيراك، خلافا لما ذهب إليه صديقي السينفيلي الأستاذ آيت عمر المختار في مقال له بعنوان (فيلم “أبناء الشمس” أول إنتاج مشترك مغربي فرنسي سنة 1961) منشور بالمجلة الإلكترونية “رواق” يوم الأحد 20 يوليوز 2020. فهذا الفيلم المغربي- الفرنسي الروائي الطويل سبقته أفلام روائية طويلة مشتركة أخرى من بينها “الطبيب رغم أنفه” (1955) لهنري جاك وما أنتج من أفلام بأموال مغربية وفرنسية من 1946 إلى 1948 وغيرها.
من المعروف أن المغرب يعتبر من بلدان العالم الثالث الأولى التي شهدت تصوير الأفلام السينمائية على ترابها منذ الانطلاقة الأولى للفن السينماتوغرافي على يد مجموعة من الرواد من بينهم الأخوان لوميير من فرنسا. وإذا كان هناك شبه إجماع من طرف بعض المهتمين بالثقافة السينمائية داخل المغرب أو خارجه حول اعتبار فترة أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين بمثابة منعطف في تاريخ السينما المغربية، لكونها تمثل البداية الحقيقية للسينما الوطنية من خلال إنجاز أفلام طويلة بعضها متميز شكلا وموضوعا (1)، فهذا لا يعني أن المغرب لم يعرف إنتاجات سينمائية قبل هذه الفترة، بل المعروف تاريخيا أن فيلموغرافيا ما اصطلح على تسميته بالسينما الاستعمارية “أو الكولونيالية” تتضمن مجموعة من الأفلام التي تم تصويرها في المغرب وساهم في تمويلها مغاربة وشخّص أدوارا رئيسية فيها مجموعة من فناني المغرب الكبير وغيرهم. وتجدر الإشارة إلى أن فترة ما بين 1946 و1948 كانت من أخصب الفترات بالنسبة للإنتاجات السينمائية داخل المغرب الذي شهد قبل ذلك بقليل إنشاء مؤسسة “المركز السينمائي المغربي” سنة 1944. ومن المؤسف حقا أننا لا نكاد نعرف الشيء الكثير عن فيلموغرافيا فترة الحماية بسبب ضياع عدد من الأفلام التي أنتجت أو صورت قبل 1912 وطيلة فترة الحماية “44 سنة” أو بسبب عدم مطالبة المغرب باسترجاع نسخ منها من أرشيفات الشركات الأجنبية (الفرنسية والإسبانية والبريطانية…) وغيرها.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أشير إلى أن بعض أفلام هذه المرحلة موجودة بخزانات الأفلام الأروبية وغيرها، ولا علم لي هل يتوفر مركزنا السينمائي وخزانته على بعضها أم لا؟ ولهذه الأسباب كلها أدعو إلى ما يلي:
أولا، ضرورة قيام المركز السينمائي المغربي بجرد دقيق لكل الأفلام التي تم تصويرها أو إنتاجها بالمغرب منذ ظهور السينماتوغراف إلى حدود سنة 1956، مع الإشارة إلى ما ضاع وما هو متوفر منها في خزانته وخزانات الدول الأجنبية.
ثانيا، العمل على تنظيم عروض سينمائية لهذه الأفلام (أو على الأقل لما هو متوفر وأساسي منها) في إطار تظاهرات ثقافية وفنية أو داخل النوادي السينمائية تحت إشراف المركز السينمائي المغربي والجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب والجمعية المغربية لنقاد السينما وغيرها من المؤسسات المعنية، حتى يتسنى للباحثين والمهتمين بتاريخ السينما المغربية أن يشاهدوها ويقفوا على حقيقتها، وحتى يتسنى كذلك للمشتغلين بالنقد السينمائي أن يقيموها تقييما موضوعيا.
ثالثا، العمل على إخراج الخزانة السينمائية المغربية من سباتها العميق لتقوم بمهمتها الثقافية والتوثيقية بالشكل المطلوب. (2)
رابعا، تخصيص برامج تلفزيونية لعرض ومناقشة نماذج من هذه الأفلام بغية التعريف بها على نطاق واسع.
خامسا، انتقاء المركز السينمائي المغربي لعينة من هذه الأفلام، المتوفرة بأرشيفه، لعرضها على منصة إلكترونية في إطار برنامجه الخاص بحالة الطوارئ الصحية.
في المغرب ومنذ أربعين سنة بالضبط “1946 – 1986” أرادوا صراحة إنشاء “هوليوود إفريقية “، وهذا يدفعنا إلى التساؤل: ما هي الشياطين والأحلام التي كانت تسكن آنذاك المغاربيين والفرنسيين المهووسين بهذه المغامرة العجيبة؟
لم تدم هذه المغامرة إلا سنتين “1946- 1948″، لكنها أثمرت 12 فيلما طويلا، وكان هذا الرقم قياسيا في تلك المرحلة حيث لم تتمكن سينما المغرب الكبير المستقل من تجاوزه بعد “أي إلى حدود 1986”. لقد تطلب الأمر، أحيانا، الاستعانة بممثلين مغاربيين ينتمون لهذه المرحلة دون أن يكون لهم شيء يذكر في ماضيهم، واليوم أصبحت هذه المحاولة الأولى لإقامة سينما مغربية عبارة عن ذكرى سارة (أو مؤلمة) أو عبارة عن دافع للتنكر والنسيان. ليس هناك حاضر بدون ماض، ولهذا ذهبنا لمعانقة قصة هؤلاء الرجال والنساء الذين مضوا لصنع السينما مجتمعين، لقد تطرقوا لكل المواضيع: كوميديا موسيقية، مغامرات بطولية، هزلية، بوليسية …إلخ…
لقد أرادوا صناعة سينما “شعبية عربية” في إفريقيا الشمالية، فما هو النموذج المقتفى آنذاك؟ إنه هوليوود طبعا، لكن قبل كل شيء الأخ المصري الكبير الذي كان يمثل في تلك المرحلة أحد أكبر منتجي الأفلام في العالم. إن هذه السينما المصرية التي عرفت كيف تملك وتستأثر ببصر وسمع المتفرجين “العرب” من الرباط إلى بغداد بواسطة الأغاني والسيناريوهات المبسطة، استطاعت أن تتكيف تماما مع نجوم الأغنية في الشرق الأوسط وتظهر على الشاشة أصوات أسمهان وأم كلثوم وفريد الأطرش. وفي هذا السياق فإن الافتراض الجديد بخلق سينما مغاربية كان من شأنه أن يزعج القائمين على السينما المصرية، ولهذا أخذت المعركة بسرعة مسلك المضاربة. ويظهر أن فيلم “معزوفة مهداة إلى مريم” للمخرج نوربير جيرنول، الذي صور بفاس سنة 1946، شكل، ربما، الكوميديا الموسيقية الوحيدة التي أقلقت المصريين. وهذا ما أدى بهم إلى شراء هذا الفيلم بمبلغ أربعة ملايين فرنك (بعملة ذلك الوقت) بدعوى العمل على توزيعه في الشرق الأوسط كله، لكنهم لم يخرجوه أبدا من علبه. وتجدر الإشارة إلى أن نسخة من هذا الفيلم قد وضعت في أرشيفات الفيلم ب”بوا- دارسي” من طرف الخزانة السينمائية الفرنسية (ورقة الدخول من رقم 10440 إلى رقم 10710). فهل يمكن مشاهدته؟ إن الأمر هنا يتعلق بمسألة أخرى.
ابتداء من فترة ما بين الحربين كانت فكرة إنشاء صناعة سينمائية بالمغرب معلقة في الهواء. لقد أجلت الحرب مؤقتا هذه الأماني. لكن الأمور تحركت ابتداء من 1946 حيث بدأ العمل في عدة أفلام خلال بضعة شهور. كانت الظروف تبدو ملائمة حيث تدفقت الأموال بوفرة وتم استثمار أموال كثيرة من طرف البورجوازيين والإقطاعيين المغاربة وكذا الإقامة الفرنسية “الحكومة الاستعمارية” في هذا المشروع السينمائي، إضافة إلى وصول رساميل مهمة من فرنسا لم تكن موظفة هناك. لقد تم التفكير في تشييد مدينة سينمائية في أكادير، وبسرعة شيدت استوديوهات ومختبرات بعضها لا يتجاوز أحيانا حجم دكان أو قفص للأرانب، إلا أن أكبرها وأكثرها حداثة شيد في منطقة السويسي بالرباط على مساحة تقدر ب 17 هكتارا. لقد تم تمويل هذه المنجزات من طرف البنك المغربي للتجارة والصناعة، وهي مؤسسة مالية فرنسية مهمة طلبت منها الإقامة تجهيز الأستوديوهات القديمة والمختبرات القليلة التي تم تشييدها من طرف الجيش الأمريكي من أجل إعلامه الحربي. باختصار، كانت هناك إرادة لخلق هذه السينما المغربية بأي ثمن.
وفي مارس 1946 بالدار البيضاء وداخل استوديوهات سينيوفون الجديدة بدأ العمل في فيلم “إبن القدر” للمخرج مارك مايلاركي، وهو أحد صناع السينما المصرية، بناءا على موضوع مأخوذ من حكاية شرقية. لقد تم الإعلان عن هذا الفيلم- الإنطلاقة- كولادة للسينما العربية بإفريقيا الشمالية. لكن الرقابة أعملت مقصها في هذا الفيلم بدعوى احترام تقاليد وعادات المسلمين، رغم أن هذا الأخير تم إنتاجه بالإشتراك بين مجموعة من الأروبيين الذين كان لهم تأثيرهم الكبير داخل الإقامة الفرنسية. وأكثر من ذلك فقد تأخر تصوير المناظر الخارجية للفيلم بسبب رداءة أحوال الطقس. تجدر الإشارة إلى أن هذا الفيلم يعتبر مفقودا حاليا. ويجب التأكيد كذلك على أن فيلم “إبن القدر” قد فتح الطريق أمام النجوم الصغار ليتبوؤوا (بسرعة فائقة) المكانة الأولى على الملصقات. فالتركية نصيرة توفيق (الجائزة الأولى لكونسيرفاتوار باريس)، زوجة أحد تجار الدار البيضاء المغاربة، لعبت دور إبنة أحد الملاكين الأغنياء وأصبحت بعد ذلك وجها مألوفا في الأفلام المغربية لهذه المرحلة. مع العلم أن هذه الأفلام كانت تشكو من نقص مهول في عدد الممثلات الكوميديات. وفي فيلم “كنزي”، الذي صور بمدينة مراكش من طرف المخرج فيكي إيفرنيل، لعبت نفس الممثلة نصيرة توفيق دور إبنة أحد الأغنياء البخلاء (من تشخيص الجزائري محي الدين باشطرجي) وظهرت كذلك في الفيلم الأسود الوحيد لهذه المرحلة كلها، ويتعلق الأمر بفيلم “منتصف الليل، زنقة الساعة الحائطية” للمخرج جان لورديي. إلا أن هذا الفيلم، الذي أتلف لاحقا، لم يعرض أبدا. وبالفعل كانت تنقصه الموسيقى لأن منتجي شركة “شريف فيلم” ألغوا طلب الأركسترا في اللحظة الأخيرة. فهل يتعلق الأمر هنا بأسباب فنية محضة أم باختلاس المال؟ لا يمكننا أبدا معرفة السبب.
أما فيما يتعلق بفيلم “كنزي”، ثاني كوميديا موسيقية في إطار الإنتاج المغربي، فقد انتقل بين أياد عديدة بحيث لم نعد نعرف مصيره. لم تكن مديرة هذا الفيلم الفنية شخصا آخر غير سيمون بيريو التي لعبت، قبل ذلك بثلاثة عشر سنة، وباللهجة الأمازيغية، الدور الرئيسي في فيلم “يطو” (1934) للمخرجين جان بونوا ليفي وماري ابستين. ومن الملاحظ أن سيمون لم تطبع هذه المرحلة من تاريخ السينما المغربية بعشقها للفن السابع أكثر مما طبعتها بمغامراتها العاطفية. لقد كتبت في سيرتها الذاتية ما يلي: “لقد كنت متألقة وحصلت على نجاح مؤكد، لكن السينما لم تكن تستهويني أبدا”.
لقد أشرفت سيمون على إدارة مسرح أنطوان لمدة 40 سنة وماتت عام 1984 وعمرها يناهز 88 سنة. لقد أصبحت أرملة في سن 18 بعد وفاة زوجها الكولونيل بيريو “مدير قديم للشؤون السياسية في عهد ليوطي، السيد الحقيقي للمغرب آنذاك”، وبحكم أنها مغنية محترفة في الأوبرا الهزلية، عرفت كيف تغري مديرها ألبير وولف الذي أنجز موسيقى فيلم “يطو”. إلا أن ضحيتها الأكثر أهمية تمثل في الحاج التهامي لكلاوي، باشا مدينة مراكش، فهذا الأخير، علاوة على أراضيه الشاسعة ومشاريعه المتعددة، كان يراقب ما يمثل آنذاك “أكبر ماخور في العالم”، حيث كان بإمكان الفتيات أن يمارسن العهارة ابتداء من سن العاشرة. “كانت تبعث له من باريس مجموعة منتقاة من النساء بطريقة منتظمة”، هذا ما صرح به اليوم الذين قاربوا لكلاوي من بعيد دون أن يخالطوه مخالطة خاصة. لقد أصبح عشقها يسري في عروقه، وبذلك “وضعته في جيبها”. وبعد ذلك أصبحت سيمون بيريو أيضا عشيقة لإيف ميراند (76 سنة آنذاك)، كاتب سيناريو فيلم “كنزي” (1948) بمشاركة محي الدين باشطرجي، انطلاقا من مسرحية “ثقب في الحائط”. لقد كان فيلم “كنزي”، الممول من طرف شركة “سلامة”، يمثل بالفعل مصالح لكلاوي (إبنه القائد إبراهيم كان عضوا في مجلسها الإداري) ومصالح الإقامة (ممثلة في شخص الجنرال بوسكا، رئيس سابق للقيادة العامة للقوات الجوية). لقد وضع لكلاوي قصوره وحدائقه رهن إشارة المصورين وبدون مقابل.
بعد تجربة “كنزي” دخل الميدان مغاربة آخرون ويتعلق الأمر ببعض البورجوازيين الوطنيين من فاس كانوا، بصفة عامة، أعضاء في حزب الاستقلال، حيث عملوا على إنشاء مجموعة من شركات الإنتاج من بينها “مغرب فيلم”، التي مولت الكوميديا الموسيقية الأخرى “معزوفة مهداة إلى مريم” المتضمنة لسبع أغاني كتبت من طرف المطرب التونسي المعروف علي الرياحي، ومن بين هؤلاء المنتجين نجد محمد الغزاوي، عضو حزب الاستقلال ومدير المكتب الشريف للفوسفاط، والجزائري محمود منصلي، موزع الأفلام المصرية بإفريقيا الشمالية. لقد أسندت كتابة حوارات الأفلام إلى جزائري آخر وهو المؤرخ والكاتب عوليما أحمد توفيق المدني الذي سيصبح وزيرا فيما بعد إبان حكم بن بلا. أما الممثلون الرئيسيون فكانوا: السورية أمال فوزي والجزائريان جمال بدري ومحي الدين باشطرزي والتونسي محمد الجاموسي.
لقد كان الدافع إلى إنتاج كل من فيلمي “كنزي” و”معزوفة مهداة إلى مريم” هو نفس الجسارة (الحمقاء) المتمثلة في منافسة الأفلام المصرية في عقر دارها. وقد ذهب الأمر إلى حد التحقق من مدى قدرة المشارقة على فهم اللهجة العربية المغاربية. فباشطرزي، في مذكراته، يتذكر بأن أحد منتجي فيلم “كنزي” كان قد بعث بنسخة من حوار الفيلم إلى أصدقائه في المشرق قصد التأكد من إمكانية فهم الفيلم هناك، يقول: “لقد توصل بإجابات
مطمئنة، ولسوء الحظ هناك فرق بين ما هو مكتوب وكيفية النطق به، وبعد الانتهاء من الفيلم كان نفس النص “أي الحوار المكتوب” غير مفهوم بسبب طريقتنا في النطق”. وبالفعل لم يتمكن واقعيا من عرض هذا الفيلم في الشرق الأوسط، بينما كان عرضه يتم في الباكستان بفضل السيد ألكساندر كوردا. تجدر الإشارة إلى أن ضرورات إنجاز فيلم “كنزي” قد دفعت باشطرزي إلى إلقاء دروس في كيفية النطق بالألفاظ العربية “الدارجة”، وذلك في باريس، وكان المستفيد منها أحد ممثلي الأدوار الرئيسية في الفيلم وهو موريس باكي، المولود بباريس (نوع من “ما قبل الجيل الثاني” للمهاجرين العرب بفرنسا) والذي لا يتكلم إلا الفرنسية مع صديقه إبراهيم “حبيب رضا”، وفي الأخير ونظرا لضيق الوقت تحول الدور إلى عربية صامتة.
بعد ذلك بأربعين سنة، صرح لنا موريس باكي بطريقة ضاحكة: “لقد اتفقت مع محمد توري، الذي كان يمثل دور العاشق القديم المنبوذ، على ما يلي: عندما يلمس كتفي يجب أن أتظاهر بالسعادة وعندما يلمس ذراعي ألعب دورا حزينا وعندما يلمس يدي يجب أن أتوقف عن التمثيل”.
لقد كان تصوير الأفلام يعتمد غالبا على الخداع الفني وتوظيف مواهب العاملين، فكثير من الممثلين المغاربيين لم تكن لهم تجربة كبيرة أمام الكاميرا. أما العثور على ممثلات من إفريقيا الشمالية فكان أكثر صعوبة إذا ما استثنينا الممثلة ليلى فريدة، المشاركة في فيلم “المجنون” الذي أخرجه جان باستيا سنة 1946، وهي قادمة من المسرح والإذاعة، وكذا الممثلة العجيبة كلثوم الجزائرية القادمة هي أيضا من المسرح. لقد كان أداؤها الطبيعي، حسب نقاد تلك المرحلة، أعلى بكثير من تمثيل ماريا كازاريس في النسخة الفرنسية من فيلم “الباب السابع” (1947) لأندري زووبادا، المأخوذ عن حكاية سمعها جان أورانش في أحد مواخير الدار البيضاء. أما في النسخة العربية، فنجد أحد الممثلين المغاربة القلائل جدا في تلك المرحلة ونعني به الكابسي، وهو مثقف رقيق من الدار البيضاء كان أداؤه أكثر تعبيرية، هذا بالإضافة إلى من كانوا آنذاك مجرد مبتدئين، نذكر منهم على سبيل المثال يطو بنت لحسن، وهي أمازيغية من مواليد تافيلالت “بالجنوب المغربي” تم اكتشافها أثناء تصوير فيلم أندري زووبادا “أعراس الرمال” (1948)، حيث مثلت دور معتوهة. وبعد ذلك مثلت إلى جانب أورسون ويلز وتيرون بويير وجاك هاوكينز في فيلم “الوردة السوداء” (1949) للمخرج الأمريكي هنري هطوي. تجدر الإشارة إلى أن زووبادا كان ينظر إليها بكل دقة، أثناء تصوير “أعراس الرمال”، وهي تقرأ دورها (في السيناريو المكتوب) حتى انتهى به الأمر في الأخير إلى ملاحظة أنها كانت تمسك الورق مقلوبا: إنها كانت أمية.
من بين الممثلين المغاربيين كان يتم، خاصة، استدعاء كوميديين جزائريين وتونسيين نظرا لكونهم الأكثر عددا والأكثر تمكنا من الصنعة. وفي الأربعينات أصبح يلاحظ وصول عدد من الشباب للقيام بأدوار أولى في التشخيص ذي النكهة المصرية ومجموعة من أصحاب الأدوار الثانية في الكوميديا الفنية الذين كان أداؤهم التمثيلي أكثر مغاربية بالفعل، وأشهرهم كانوا جزائريين قدم جلهم من المسرح حيث كان مظهرهم الجسماني يشكل في الغالب مؤهلهم الرئيسي، فمحي الدين باشطرزي، أحد رواد المسرح الجزائري وصوت الموسيقى الأندلسية الصداح، قد استنفد كل إمكانيات شخصه البدين. لقد كان، ربما، بمثابة الخيط الرابط الأكثر نشاطا بين الفرنسيين والمغاربيين. أما نقيضه الجسماني، محمد توري، الكشاف السابق، المولود بالبليدة، فقد كان شكله النحيف باستمرار، في حد ذاته، مدعاة للضحك. وفيما يتعلق بجلول باشدجراه فنشاطه المسرحي بدأ منذ سنة 1936.
ويمكننا أن نتعرف على سحنة جلول المعبرة عن معاناة الألم إلى جانب المطرب الفرنسي رضا كير، الذائع الصيت آنذاك، في فيلم “شداد العادل”، وهو شكل من أشكال الويستيرن على الطريقة العربية صوره المخرج شارل بولي سنة 1947 في كوليمين. وفي نفس السنة صور شارل بولي في المغرب أيضا فيلمه “بطل العالم” بمساعدة الشاعر والكوميدي بطل العالم في السباحة تحت الماء مومو، واسمه الحقيقي حيمود براهيمي، الشخصية الهزلية في فيلم “أعراس الرمال”. لقد كان مومو، من مواليد القصبة بالعاصمة الجزائرية وصاحب الوجه الذي يوحي بالتنور العقلي، أحد المتعودين على أوساط سان جرمان الوجودية وصديقا لألبير كامو وبوريس فيان، وسنشاهده فيما بعد في فيلم المخرج بيير كاردينال “في قلب القصبة” إلى جانب فيفيان رومانس وبتير فان إيك، كما سنشاهده سنة 1971 في فيلم المخرج الجزائري محمد زينات “تحيا يا ديدو” في دور جعله يصل أخيرا إلى الشهرة.
إن أصحاب الأدوار الأولى من الشباب كانوا جميعا مطربين على قدر من الشهرة في أوساط الشباب المغاربي آنذاك. ففي الخمسينات كان الجاموسي، ربما، أول أستاذ للموسيقى العربية بكونسرفاتوار باريس، وإلى جانبه في فيلم “معزوفة مهداة إلى مريم” نجد “باريسي” آخر هو الجزائري محمد الكامل، واسمه الحقيقي محمد حامل، وهو موسيقي ومطرب وملحن وكوميدي ومنشط إذاعي في ظل الاحتلال الفرنسي. لقد ظل هذا الأخير ولمدة طويلة ينشط الليالي الشرقية بكباريهات “الكتبية” و”الجزائر” بباريس، حيث أخرج فيلمي “قدور في باريس” (1930) و”في الفندق” (1940). وفي سنة 1939 دفع إلى الشهرة بجمال بدري، أو تينو روسي الجزائري، الذي شاركه الحوار في فيلم “منتصف الليل، زنقة الساعة الحائطية” مع كل من نصيرة توفيق وجينا مانيس. لقد شارك جمال بدري هو أيضا في فيلم “معزوفة مهداة إلى مريم”، كما كان في الواجهة الأولى في فيلم “ياسمينة” للمخرج جان لورديي، هذا الفيلم الذي كان من أكثر الأفلام رواجا في تلك المرحلة. أما المطرب الأكثر مشاركة في المسرح، وخاصة في مغامرة هذه “السينما المغربية” التي ذاع صيتها، فكان جزائريا آخر هو الشاب الجميل والغامض حبيب رضا، واسمه الحقيقي محمد حطاب، الذي شخص الأدوار الأولى في فيلمي “ابن القدر” و”كنزي”. لقد كان مطربا في الأوركسترا التي كان يديرها فريد باي ثم رضا باي من بعد، ومن 1939 إلى 1954 ظل يعمل على خشبة المسرح مع فرقة محي الدين باشطرزي.
لقد صرح المخرج زووبادا، اليوم، بأنه ” كان يصر بصدد فيلمه “أعراس الرمال” على الجمع بين الفرنسية دونيز كاردي والمغربية يطو بنت لحسن والتونسي العربي التونسي والجزائري حيمود براهيمي.. “لقد شهد هذا الفيلم فشلا ذريعا في بلدان المغرب الكبير، لكن المنتج الغزاوي قال لي بأن الأمر ليس خطيرا وذلك لأن المهم هو روجان الفيلم في الخارج.. لقد كان نظره صائبا لأن الفيلم حصل على ميدالية في مهرجان البندقية. ويمكن بسهولة الحصول على النسخة الفرنسية من هذا الفيلم، التي تتضمن تعليقات جان كوكتو، إلا أن النسخة العربية تعتبر مفقودة.
واليوم لا يزال المخرج زووبادا يتذكر تعليقات الجمهور السوري عندما عرض فيلمه هذا في دمشق: “لكن، هذه هي العصور الوسطى، إننا نريد مشاهدة الفتيات والسيارات، إن هذا الفيلم يعود بنا إلى الوراء”. لقد كانت الجماهير العربية تنتظر الحلم والقصص الغرامية على الشاكلة التي مثلها أصحاب الأدوار الأولى الشباب في إطار السينما المغربية الناشئة. ففي الأربعينات أعلن بيير بولانجي، متحمسا، عن ميلاد “هوليود إفريقية”. لقد كان بولانجي أنذاك يعمل في الصحافة المغربية، أما اليوم فهو مراسل ل”الباريزيان ليبيري”. وبعد ذلك بعشر سنوات، وداخل قاعة سينمائية شعبية بأحد أحياء مدينة الدار البيضاء، أدرك فجأة خيبة هذا الوهم: قاعة شبه غاصة بالمتفرجين الذين ينفجرون ضحكا وهم يشاهدون فرنانديل يشخص “علي بابا والأربعين لصا” باللهجة العربية الدارجة.

هوامش:

1، يتعلق الأمر بأفلام “6 و 12″ (1968) و”شمس الربيع” (1969) و”وشمة” (1970) و”الغابة” (1970) و”أبناء الحوز” (1970) و”الذاكرة 14″ (1971).. وغيرها.
2، انطلقت أنشطة الخزانة السينمائية المغربية، بعد إحداثها، في منتصف تسعينيات القرن العشرين وكان يديرها السينمائي الراحل عبد الله بايحيا وإلى جانبه الناقد والمؤرخ السينمائي أحمد عريب، إلا أن الجمود طالها بعد ذلك ولم يفلح لا المدير الحالي للمركز السينمائي المغربي، ولا الذي سبقه، في إخراجها من سباتها العميق.

> بقلم: أحمد سيجلماسي

Related posts

Top