الفيلم التلفزيوني “العد العكسي” للمخرج المغربي إدريس المريني

عرضت التلفزة المغربية (قناة “الأولى”) مؤخرا فيلما تلفزيونيا جديدا بعنوان “العد العكسي 48 ساعة” من توقيع المخرج المخضرم إدريس المريني عن سيناريو لعبد الإله زيرات. أدار عادل أيوب تصويره وأشرف سيمو السي محمد على الصوت فيه وقامت مريم الشادلي  بتركيب صوره ووضع له عادل عيسى الموسيقى كما تكلف بالميكساج.
هذا الفيلم من إنتاج الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون سنة 2020 ومدته حوالي 90 دقيقة، شارك في تشخيص أدواره كل من فاطمة الزهراء بناصر (سليمة: أستاذة الفلسفة ورئيسة خلية الإنصات) وكريم النوري (التلميذ ريان) وعبد الحق بلمجاهد (مدير الإعدادية) ومحمد خربوشي (أب ريان) وسعد الله فؤاد (الأستاذ لطيفي) وحاتم الصديقي (زوج الأستاذة سليمة) وزكرياء تملدو (أستاذ بالمؤسسة) والشرقي ساروتي (الأستاذ حميد) وفاطمة بوجو (زوجة الأستاذ لطيفي) وزياد فضيلي (رئيس جمعية آباء التلاميذ والتلميذات) وهاجر بوزاويت (سميرة كاتبة المدير) وشفيق بسبيس (حارس بالإعدادية) وإدريس بنعويس (الأستاذ لكريني) ومصطفى خويا (الأستاذ مهدي).
يتمحور موضوع فيلم “العد العكسي” حول مشاداة وسوء تفاهم حصل بين تلميذ وأستاذه داخل القسم ، تسبب لهذا الأخير في كسر يده اليسرى. على إثر ذلك دعا مدير المؤسسة إلى اجتماع عاجل لمجلس القسم بغية اتخاذ إجراء تأديبي في حق التلميذ. تتعاطف الأستاذة سليمة مع ريان وتطلب من المدير التروي قبل إصدار أي قرار قد تكون عواقبه وخيمة على مستقبل تلميذها، فيمنحها مهلة 48 ساعة للبحث والتحري في ظروف النازلة وملابساتها.
تقترب الأستاذة من عينة من التلاميذ لمعرفة أسباب سوء التفاهم الذي حصل بين ريان وأستاذه لطيفي، كما تتحاور مع بعض الأساتذة وتنصت إلى ريان وتزور والده في منزله.. وفي الأخير تصل إلى حقيقة مفادها أن ريان يعيش ظروفا اجتماعية غير سوية مع والده السكير بعد وفاة والدته وهو في السابعة من عمره وأن الحادث وقع بسبب استفزاز الأستاذ لطيفي له أمام زملائه التلاميذ. زد على ذلك أن ريان تلميذ مهذب ومجد وله مواهب في الرسم والغناء والرياضة لكنه لا يجد من ينصت إليه.. ولمساعدته على اجتياز هذه الظرفية الصعبة تقرر الوقوف إلى جانبه والاتصال بأعضاء مجلس القسم واحدا واحدا لإحاطتهم علما بظروفه وبملابسات ما وقع، فهل ستنجح في هذه المهمة الإنسانية التربوية؟
يذكرنا “العد العكسي” بفيلم تلفزيوني تربوي آخر بعنوان “القسم 8” أخرجه جمال بلمجدوب وأنتجته القناة الثانية سنة 2003، وهو عبارة عن دراما اجتماعية حققت نجاحا كبيرا في أوساط المتتبعين لحظة العرض وبعدها بفضل الدعاية التي قامت بها الجهة المنتجة له. أما فيلم “العد العكسي” فقد تم عرضه “حسي مسي” دون دعاية مكثفة له من قبل الجهة المنتجة.
تجري بعض وقائع الفيلمين معا داخل مؤسسة تعليمية، وقد اختلف فيلم المريني، بتركيزه أساسا على معاناة التلميذ ريان، عن فيلم “القسم 8” الذي ركز فيه مخرجه على معاناة أستاذة مع تلميذ مشاغب داخل القسم وخارجه.
نحن في حاجة ماسة إلى هذا النوع من الأفلام الدرامية التربوية ذات المنحى الإجتماعي، لأنها تمكننا من الانفتاح على مشاكل التلاميذ والتلميذات بمختلف مؤسساتنا التعليمية عبر مساءلة قضايا التدريس وطبيعة العلاقات القائمة بين التلاميذ وأولياء أمورهم من جهة، وبين الأساتذة والإدارة التربوية من جهة أخرى. فحقل التعليم بمختلف مستوياته حافل بالمشاكل والقضايا التي يمكن لكتاب السيناريوهات والمخرجين أن يتناولوها في أفلامنا التلفزيونية والسينمائية ويثيروا نقاشا مجتمعيا مثمرا حولها.
ما أثارني في فيلم “العد العكسي” هو المجهود المبذول فيه على مستويات عدة، فمخرجه لم يستسهل الأمر بل اختار طاقما فنيا وتقنيا متمكنا، الشيء الذي جعل الفيلم يحظى بمتابعة شرائح مختلفة من المواطنين وعلى رأسهم المرتبطون بالتعليم من أسر ومربين وغيرهم.
قصة الفيلم بسيطة، لكنها محبوكة بعناية من خلال سيناريو كتبه عبد الإله زيرات بعد تجربة معتبرة على مستوى كتابة وإخراج مجموعة من الأفلام التربوية القصيرة التي شارك بها في العديد من التظاهرات السينمائية يأتي على رأسها “المهرجان الوطني للفيلم التربوي بفاس”. أما إدريس المريني، المخرج المخضرم، فقد تمكن من اختيار وإدارة ممثلين، خصوصا في الأدوار الرئيسية، كانوا مقنعين بدرجة كبيرة وعلى رأسهم فاطمة الزهراء بناصر، التي شخصت بتلقائية واقتدار دور سليمة، أستاذة الفلسفة، وكريم النوري في دور التلميذ ريان ومحمد خربوشي في دور الأب المقصر في حق إبنه.
بعد احتكاكها بريان وتعرفها عن قرب على واقعه الإجتماعي المأساوي والضغوطات النفسية التي يعيش في ظلها مع والده الذي لا يهتم به، دخلت في حوار متواصل مع هذا الأخير ومع ريان والأستاذ المتضرر من سلوكه المشين ومع كل أعضاء مجلس القسم قبل انعقاده وأفلحت في الأخير في إقناع نصف أعضاءه.
لم يكن تحري الأستاذة سليمة سهلا أو دون انعكاسات سلبية على علاقتها بزوجها وبعض زملائها في المدرسة الإعدادية، لكنها أفلحت أخيرا في إحداث تغيير في علاقة الإبن بأبيه وفي قبول هذا الأخير الحضور يوم اجتماع مجلس القسم لمآزرة إبنه. كما أفلحت في التخفيف من العقوبة التي كانت تنتظر ريان. ولعل تعاطفها مع هذا الأخير يرجع إلى كونها عاشت مع والدها وهي طفلة نفس الظروف تقريبا.
بالإضافة إلى تشخيص الممثلين، الذي كان مقنعا أو مقبولا في الغالب مع تفاوتات من ممثل لآخر، أمتعنا عادل أيوب، مدير التصوير، بلقطات مضبوطة من زوايا مختلفة، خصوصا اللقطات المقربة التي تظهر معاناة الشخصيات الرئيسية (ريان وسليمة بشكل خاص)، حيث لمسنا كمتتبعين نجاح كريم النوري إلى حد كبير في ترجمة معاناة ريان النفسية والإجتماعية من خلال تقاسيم وجهه وكلامه وحركاته… ويمكن القول وبدون مبالغة أن الممثل الشاب كريم النوري قد تجاوز بكثير المستوى الذي ظهر به في مسلسل “هاينة” (2020) من إخراج محمد علي المجبود.
إيقاع الفيلم المتوازن نسبيا يرجع الفضل فيه إلى مجهودات الموضبة مريم الشادلي. أما الموسيقى التصويرية التي وضعها للفيلم عادل عيسى فقد تم توظيفها كعنصر من عناصر التعبير، حيث كان لها حضور قوي في مشاهد الذروة والتوترات النفسية وتنوعت مقاطعها من مشهد لآخر. زيادة على ما سبق اهتم مخرج الفيلم بالتفاصيل الخاصة باللباس والديكور وغير ذلك، كما انفتح على ثلة من الممثلين المحليين بمدينة بوزنيقة التي صورت بها أغلب لقطات ومشاهد الفيلم الداخلية والخارجية، إلى جانب أخرى قليلة صورت بالرباط حيث يوجد مقر الشركة المنفذة لإنتاجه.
تجدر الإشارة إلى أن ما لم أستسغه في الفيلم هو وقوع مخرجه وكاتب سيناريوه في الخطأ التالي وهو أن مادة الفلسفة لا تدرس بالمؤسسات الثانوية الإعدادية وإنما بالمؤسسات الثانوية التأهيلية.
وبغض النظر عن هذه الهفوة وغيرها، يمكن القول إجمالا أن “العد العكسي” فيلم تلفزيوني محترم جدا، شكلا ومضمونا، بل يمكن اعتباره، إلى جانب أفلام أخرى قليلة، علامة ضوء في إنتاجات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية.
لقد نجح هذا الفيلم فنيا في تبليغ رسالة مفادها أنه لا ينبغي علينا الحكم على التلاميذ ومعاقبتهم، قبل أن نفهمهم بالإنصات إليهم والانفتاح على ظروفهم النفسية والاجتماعية وغيرها.

> أحمد سيجلماسي

Related posts

Top