الفينومينولوجيا ومسألة اللغة عند مارتن هايدغر

نعلم أن القرن 18م شهد محاولات عدة لإعادة إحياء التراث اليوناني وقد تابع جميعً الفلاسفة الإطار العام للنزعة الانسانية اللّهم “هولدرلين” الذي كان مضادًا للنزعة الإنسانية، ومع ذلك، ولأنه فكر في ماهية قدر الإنسان، فقد فهم النزعة الانسانية الحقّة، “ماركس” أيضا الذي وجد إنسانية الإنسان في الاجتماع البشري، “سارتر” الذي حاول البحث والربط بين الوجودية والنزعة الإنسانية وإن كانت محاولته لا تسمح بالعودة إلى الأصول الصحيحة للنزعة الانسانية، بمعنى أن العلوم هي المتحدث الرسمي لهذا العصر مادامت تولي اهتمامها بجسم الإنسان ومع ذلك لا تستطيع أن ترى في جسم الإنسان شيئا ماهويا يفوق اعتبار الجسم، ومن تم لم يفلح أحد سواء على مستوى الميتافيزيقا أو العلم في تقديم تعريف لماهية الإنسان يقبله “هيدغر” الذي يرى بشكل عام أن الناس تفهم تحت مفهوم النزعة الإنسانية… يعني كفاح الإنسان لكي يصبح حرا ويحقق كرامته وهي ضروب مختلفة للنزعة الإنسانية بقدر تعدد فهمنا للحرية وطبيعة الإنسان (1).
إن “هيدغر” يرى أن ماهية الإنسان أو بالأحرى ما سمته اللغة التقليدية للميتافيزيقا ماهية الإنسان تتأسس على تخارجه الذي يتيح له تجاوز ذاته والوقوف في تكشف الوجود ورعايته وذلك لأن هيدغر يرى أن الإنسان راعي الوجود.
على أي حال ليس هناك شك أن “هايدجر” قد غير منهجه الفلسفي عما كان عليه بداية حياته فقد كان منهجه قبل “الوجود والزمان”، هيرمينوطيقا لوقائعية الوجود الإنساني بيد أن “هايدجر” في بداية كتابه “الوجود والزمان” أعلن أنه سيستخدم المنهج الفينومينولوجي لتحليل الموجود الإنساني، إذ يؤكد أن البحث في الوجود والزمن ينشأ مع السؤال الأساسي للفلسفة بشكل عام وطبيعة معالجته هذا السؤال هو الفينومينولوجيا، وبذلك فإن هذه المعالجة لا تقر بوجهة نظر معينة ولا باتجاه لأن الفينومينولوجيا لا تقر بها ولا يمكنها أن تفعل ذلك طالما كانت ذاتها (2)، كما يلفت “هايدجر” انتباهنا لأهمية الدازاين أو الموجود الإنساني الذي يوجد كواقعة، يعني بالنسبة “لهايدجر” أن الموجود الإنساني يلقى به في العالم دون أن يكون له اختيار في ذلك وما يلتقي به للوجود الإنساني الملقى في عالمه الخاص هو قدره الذي لا حيلة له على دفعه ولا اختيار له فيه، فما أن يولد الإنسان حتى يجد أن أباه فلان وأن أمه فلانة وأنه ينتمي لدولة كذا…إلخ (3)، ومن تم فإن اللجوء هناك نفسه من حيث هو ملقى يسكن في رمية الوجود بوصفها قدرة المقدور، لكننا لا يجب أن نفهم من هذا أن الإلقاء حقيقة فعلية منتهية كما أنه ليس واقعة مغلقة بمعنى أنه ليس تعبيرا عن وضع نهائي للإنسان يقهره في كل أمره ووجوده (4).
صحيح أن هناك من الأمور ما لا نملك له دفعا، لكنها أن تكون عقبة أمام تحقيق الموجود لوجوده الأصيل والذي هو دائما وجود، هناك نحققه عندما نمارس الاستباق ولا نبقى رهنًا لما كان، أي الذي تعبر عنه الوقائعية، ولعل وصف “هيدغر” للآخر على هذا النحو يجعله في منأى عن وصف سارتر للآخر إذ إن العلاقة مع الآخرين عند “سارتر” تتخذ طابعا تشاؤميا كما تشهد بذلك العبارة الشهيرة “الجحيم هم الآخرون” (5).
وإذا كان “سارتر” قد وجه نقدًا عنيفًا لفهم “هيدغر” للآخر واعتبر أن “هيدغر” لم يبرر على الإطلاق الانتقال من الملاحظة بالتجربة للوجود بالاشتراك إلى حالة التعايش باعتباره تركيبا أنطولوجيا للوجود في العالم وحتى إذا كان هذا التركيب قد قام عليه البرهان فإنه لا يمدنا بأي تفسير للوجود مادام الآخر غير محدد أصلا (6).
وإذا تساءلنا من هم الآخرون الذين يجبرون الموجود الإنساني على أن يتنازل عن وجوده ويخضع لهم، فإننا سنجد أن الآخرين ليسوا محددين بل على العكس كل آخر يمكنه أن ينوب عن الآخر بل إن الموجود الإنساني وبما هو وجود {مع} يجد نفسه من حيث لا يدري يستعير سلطة الآخر (7) فمن هم هؤلاء الناس؟ وأين هم؟ وفي أي مكان يقبعون؟
إنهم في الحقيقة كائن وهمي لا وجود له، ومن تم فإن الناس ينتمون إلى هذا الآخر ويعززون قوته وذلك لأن مفهوم الناس عبارة عن مفترق طرق مفتوح لكل قادم، بيد أن هؤلاء الناس الذين لا وجود لهم هم في الوقت ذاته يملكون طرقا عدة لكي يمارسون وجودهم الزائف، وعندما يتحقق وجودهم بشكل يملك على الموجود كل تصرفاته وأفعاله يصبح الوجود مع الآخرين بوصفه كذلك مهموما بحياة التوسط وفي مثل هذا النمط من الحياة كل واحد يكون الأخر ولا أحد يكون نفسه (8).

التأسيس الفينومينولوجي:

لم يعد اكتشاف مناطق جديدة للتفكير هو مقصد التفلسف، فالمنهج والأسلوب في التطرق إلى موضوعات الفلسفة هما المقصد منذ أن بدأ “هوسرل”، تجربة التفكير حيث نجده يسأل دائما وقبل كل شيء كيف يمكنه أن يجد منهجا يعطيه خيط السير الذي يسير عليه لكي يصل إلى العلم اليقيني؟ (9)
إن لكل تجربة أسلوبها الخاص ونظرتها المنفردة في رؤية مشكلات عصرها ورغم ذلك لم يتعارض “هوسرل” مع اختلاف الأساليب وتعدد الطرق مع وحدة الموضوع وأساليب العلم الكلي (10) فلاستئناف التفكير في الميتافيزيقا فإن من دواعي التفلسف أن تكون الفينومينولوجيا للميتافيزيقا مع التراث وهذه في الآن ذاته.
إن الاشكال المطروح هو عجز الفلسفة عن إدراك بعض الحقائق للوجود في كليته وشموليته لأنها لم تنتهج طريقا واحدا بسبب تعدد موضوعاتها الجزئية واختلاف مناهجها ورهاناتها (11) وكانت المحاولة الأفلاطونية أولى هذه المحاولات التي اتجهت إلى البحث عن الحقائق السرمدية وتوطين الإنسان في عالم المثل الأزلية. أما في العصور الحديثة فقد كان “ديكارت” أول من تحمل تأسيس علم كلي يقوم على حقائق ثابتة ومنطلقات بديهية وعلى منهج جديد لابد من أن تكون الفلسفة مستنبطة من العلل الأولى بحيث يكون من الضروري لاكتسابها أن تبدأ بالفحص عن تلك العلل الأولى أي بالفحص عن المبادئ، أما “كانط” فكان المحاولة الأهم في تاريخ الفلسفة الحديثة لما اتجه بالميتافيزيقا إلى أن تكون علما بعد أن استعاد العقل الخالص قصد تقويض أوهامه، فالفلسفة الميتافيزيقية في حاجة إلى علم بوسعه التحكم قبليًا في إمكانية ومبادئ ومجال المعرفة الإنسانية.
اعتبرت هذه المحاولات إلى جانب محاولة “هيغل” المحاولات الأكثر أهمية التي سبقت الاستئناف “الهوسرلي” إلا أنها تبقى محاولات متواضعة لم تصل إلى لحظة التأسيس كما يطمح إلى ذلك “هوسرل” فقد بقيت سجينة الظلام الميتافيزيقية التي لم تتمكن من إدراك الوجود في كليته إذ رفض هوسرل مثالية أفلاطون غير أنه أخذ بفكرة الماهيات (12).

ديكارت: مدخل إلى الفينومينولوجيا:

اعتبر “هوسرل” ثوريا فيما يخص نقده للمتن الديكارتي، لما كتب “التأملات الديكارتية” كان يبحث عن طريقة لبلورة معالم الأنا الترنسندنتالي وليعرض مجمل التحولات التي عرفها في تأسيسه للفينومينولوجيا والتي ظلت على حالها حتى آخر حياته الفكرية وعودة “هوسرل” إلى “ديكارت” كان بهدف تبين عدم كفاية تأملاته فكل من يريد حقا أن يصبح فيلسوفا يجب عليه أن ينطوي على ذاته مرة واحدة في حياته وأن يحاول داخل ذاته تقويض جميع العلوم المسلم بها حتى الآن حتى بعد بنائها من جديد (13).
إن بداهة “الأنا أفكر” هي الأهم بالنسبة “لهوسرل” لتأسيس الفينومينولوجيا، فالعودة إلى “الأنا أفكر” هي المجال الأخير واليقيني بالضرورة الذي ينبغي أن تتأسس عليه كل فلسفة جذرية، يمثل “الأنا أفكر” بداهة بديهية بذاتها بوصفها ذاتية ترنسندنتالية (14).
لقد كان رهان الفينومينولوجيا من خلال ما سبق على تقويض منطلقات الميتافيزيقا ومجاوزة خطابها وهذا ما أدى إلى حدوث أزمة الثقافة الأوروبية (15) والذي كانت نتيجته هو هيمنة العلوم الوضعية على الخطاب العقلي الغربي.
افتتح “هوسرل” استئنافه بنقد علوم عصره لاعتقاده أنها سبب الأزمة والحل المقترح هو إقامة علم كلي تقوم على قاعدته كل العلوم والمعارف، فالفينومينولوجيا في رأي “هوسرل” في هذا العالم الكلي الدقيق الذي سيقوم بعملية النقد والتأسيس، ظهرت أول صورة واضحة لتأسيس هذا العلم الكلي بعد أن تيقن “هوسرل” من عجز الرياضيات على تحقيق علم كلي، يرتد المنهج الرياضي في جوهره إلى بعض بديهيات قليلة وعدة مصادرات محدودة تكون هي أساس الاستنباط بينما تكون التجربة الترنسندنتالية مصدرا غنيا لا يملك حيالها المنهج الرياضي أن يفعل شيئا (16).
فحين تتحول الفلسفة إلى علم كلي دقيق، يمكن حل الأزمة العقلانية، ويمكن تحديد مفهوم أوروبا، لأن ولادة أوروبا اقترنت بولادة الفلسفة وبالتالي اقترن مصير كل طرف بمصير الآخر.

إن أزمة أوروبا حاليًا هي أزمة مصير وأزمة وجود (17)، لم يقف “هوسرل” عند “التأملات الديكارتية” وإنما تابع نداء الإصلاح والتأسيس الفينومينولوجي في كتابه أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية.
لقد استأنف “هوسرل” نقد علوم عصره ووقف عند تصوراتها وحاجة مناهجها إلى الدقة واليقين فإن كان الجزء الأول من أزمة العلوم قد حسم في علم الأقدمين وفي وجهة نظرهم من العلم الكلي، فقد استخلص “هوسرل” في الجزء الثاني منه نتائج النقد واتجه إلى تأسيس علم كلي خاص لم يدركه المتفلسفة بعد. الفينومينولوجيا الترنسندنتالية هي الحل الجديد لحل مشكلات أوروبا على مبادئ وقواعد يقينية.
أدرك “هوسرل” أن على أوروبا أن تتجه لاستعادة المغزى الإنساني من العلم وأن تراهن على إثراء المشهد الثقافي حيث ينبغي التحرر من فرادات الحداثة والنموذج العلمي للمعقولية التي اشتقت من الرياضيات ومن الفيزياء (ديكارت، غاليليو) وهذا موقف نجده عند “هايدغر” في مقالته “عصر تصورات العالم” حيث يكشف الوجه الآخر لميتافيزيقا العصور الوسطى القائمة على الميتافيزيقا الذاتية (18).
إن لجوء “هوسرل” إلى التعليق الفينومينولوجي كان من أجل التحرر من النزعة الذاتية التي اتهم بها أستاذه “هيدغر” وانتقده عليها، فتعليق الأحكام الخاصة بالمعتقدات والآراء السابقة التي تسلم بواقعية العالم الخارجي يتجلى في الأساس إلى تحويل نظر الوعي إلى ذاته، وتحويل اتجاه هذا النظر ورفع النقاب الذي كان على الأنا تحقيقه، فالعالم بهذا التعليق لا يعدم أو يزول وإنما يوضع على حدة مؤقتا إنه يظل حيا ولكن تحت شكل معدل يمكن للوعي أن يظل كليا وعي ذاته (19).
إذا كان علينا الشك في هذا العالم بكل معتقداتنا عنه، فإنه يجب أن لا نشك على طريقة “ديكارت” وأن ننكر وجود العالم… إذن يمثل الشك المرحلة الأولى من مراحل التعليق وهي خطوة ضرورية تساهم في تعليق مجموعة من الاعتقادات الساذجة التي يسلم بها الحس المشترك.
يتجه التعليق إلى استبعاد المعرفة الطبيعية والتوقف مؤقتًا عن إصدرا الأحكام عليها لحين تمحيصها ونقد أسسها ومرجعياتها، ففي هذا المستوى نترك العلم أو نضعه بين قوسين ونعلق كل أحكامنا لكي نتجه إلى عالم الماهيات.. هذا الوضع هو نوع من الشك المنهجي المؤقت والممكن اتباعه في أي وقت، إنه سوف يخدمنا باعتباره منهجا مؤقتا نتوصل من خلاله إلى إدراك الحقائق الماهوية الثابتة (20).
رفض “هيدغر” الانخراط في الفينومينولوجيا الهوسرلية ودعا إلى فينومينولوجيا تأويلية. أما “ميرلوبونتي” و”سارتر” فقط أعطيا الفينومينولوجيا خصوصية إقليمية تتفهم طبيعة الوجودية الفرنسية مما وقع “لهيدغر” وهم الغموض حتى أنه لم يفهم مقاصد المنهج الفينومينولوجي، ولم يبلغ معنى التعليق لأنه لم يلتزم بضرورة الشك المنهجي وتعليق الآراء التي نعتقد في بداهتها فكل جهد فلسفي أصيل لابد أن يبدأ بنوع من الشك الجذري الذي ينصب على كافة الأحكام مثلما فعل ديكارت لما أخضع كل مستويات المعرفة والحياة والوجود للنقد بطريقة لم تكن معهودة من قبل (21).
لم يأخذ “هيدغر” في تأسيسه الأنطولوجي بمبدأ التعليق الفينومينولوجي، ذلك ما بينه “هوسرل” حيث انتهج طريقة أنثروبولوجيا في الوجود والزمن لم تستوعب حقيقة التعليق الفينومينولوجي مقاصد المفاهيم “الهوسرلية” حتى وإن حافظت على التسمية ذاتها (22) “فهايدغر” لا ينفي التعليق الفينومينولوجي وإنما يفهمه بطريقة متفردة تسمح وحدها بفهم الوجود (23) وهذه الطريقة هي الفينومينولوجيا التأويلية والتي تتعدى العتبات الابستمولوجية. فالقضايا الفلسفية لا تحددها نظرية تشكل المفاهيم وإنما تتحقق بتأويل الوجود بحسب تاريخيته المتحققة حيث ليست الفينومينولوجيا التأويلية تأملا خالصا في العلوم الصحيحة وإنما هي تأويل أنطولوجي للأساس الذي يسمح بتأسيس هذه العلوم.
انطلاقا مما سبق يتضح أن الخطوة الأولى على الطريق اتجاه الميتافيزيقا التقليدية، لهذا المفكر المبتدئ الذي يحاول أن يواجه التحدي، هي أن يجيب في فكره على التحدي الأكبر للهناك الذي يؤدي إلى استنارة الموجود من نور الوجود بوصفه موجودًا في العالم أو بالأحرى بوصفه وجودًا في العالم (24).
فما كان الحال عند “هيدغر” سوى اللجوء إلى اللغة باعتبارها تكتسب دورا مفصليا لا غنى عنه، فلكي نفهم الكينونة كما بلورها تحديدا “هايدغر” في كتابه العمدة “الكينونة والزمان” ليس موضوعات تسبح خارج منظومة الزمان والتاريخ بل إنها عبارة عن محطات تحيل إلى مجموعة من الأوصاف يتلقف أثيرها الكائن عبر ملكته الأساسية المستقبلية وهي اللغة لينثرها ويحولها إلى دلالات ومعاني قصدية مجازية لجهة أن اللغة الهيدغرية تبطن أكثر مما تفصح، بل تتميز بخاصية أخرى كما ترى “حنة آرندت” وهي خاصية الاختراق. “فهيدغر” لا يفكر في الشيء أو حوله بل يفكر في الشيء ذاته، ما يمكنه من الغوص إلى أعماق مياه الكينونة الراكدة بعيدًا عن كل تأمل أو استبطان، هذا الكائن الجديد هو الدازاين كائن اجتمعت فيه كل متناقضات الوجود (25).
إن فلسفة اللغة عند هيدغر أصبحت تفتح آفاقا متعددة ومتنوعة النظر في بنية الكينونة الإنسانية من خلال مجموع الكائنات المتجسدة والعينية من جهة وفي سياق جوانب مختلفة للعالم الخارجي من جهة أخرى (62).
إنها فلسفة تبحث في الوجود الإنساني أو في الذات الإنسانية انطلاقًا من الكلمة والقول والتأويل ولقد نجحت هذه الفلسفة في تغيير النظرة الشائعة للذات والحضور والوعي بل إننا سنلاحظ سهولة الانتقال من فضاء اللغة إلى حيز فلسفي يجعل اللغة تربطنا بالكائن البشري (27).
لقد كان اختيار “مارتن هيدغر” دون غيره من الفلاسفة لدراسة قضية اللغة والأنطولوجيا نظرًا للأهمية الفلسفية وفلسفته في حد ذاتها وما يرتبط بها من رهانات فلسفية، تتسم بكثير من الزخم والعمق فيما يخص ماهية اللغة ودورها في فهم الوجود، إذ لم يعد أساس اللغة الانسانية النحو أو المنطق وإنما الكلام أو المعنى من ناحية وجودية، إذ سيتحول الوجود الانساني الحقيقي إلى حوار بالضرورة، كما سيتحول الكلام إلى عنصر أساسي يدخل في تركيب داخل الوجود ويحقق له الانفتاح على موجودات العالم، ومن تم فإن هيدغر يقترح علينا فلسفة في اللغة والأنطولوجيا يمكنها أن تساعدنا على كشف الجوانب المشابهة مع فكر غيره من الفلاسفة الذين سبقوه أو الذين جاءوا بعده (28).
هل اللغة هي الوجود؟ أم هي مجرد واصفة استعمالية لتفسير وفهم هذا الوجود؟
باعتبار مشكلة الوجود أو الكينونة من المباحث الكبرى للفلسفة، فإن اللغة الفلسفية ستفكر وستتأمل في الوجود، فهل اللغة تعبر بشكل نهائي عن الكينونة، أم هي الكينونة ذاتها؟
إن اللغة عند “مارتن هيدغر” هي مسكن حقيقة الوجود أو الكينونة، ولهذا المسكن حارس، والذي هو الانسان الذي لا يقوم بالحراسة فقط بل يؤول أيضا، ومن هنا يمكن القول إن الإنسان هو حارس الوجود ومؤول له، وبهذا كان التفكير في اللغة ومساهمتها في حل إشكالية الوجود والتي هي من أهم القضايا التي شغل الفيلسوف الألماني الكبير “مارتن هيدغر” بها فكره.. وهذا ما سنحاول الانشغال به في الآتي من خلال السؤال التالي: إذا كانت اللغة هي مسكن الوجود، فماذا عن جينيالوجية مفهوم الوجود؟
لقد شكلت الوجودية كرد فعل ثائر حول مثل الأنساق والأفكار المثالية المحايثة والتي لا طائل من ورائها سوى العقل، فكيف سيتصور الفلاسفة المعاصرون عامة والفلاسفة الوجوديون خاصة مفهوم الوجود؟ (29)
عموما مع الفلسفة المعاصرة، وبالضبط مع الفلسفة الوجودية سوف نجد مشروعية الرجوع إلى الإنسان نفسه، حيث تجسد هذه المدرسة ثنائية الوجود واللغة حسب ما أقر به “مارتن هيدغر” نفسه فكيف سيربط بينهما؟ (30)

الفينومينولوجيا ومسألة اللغة:

تحمل هذه التأويلية الأنطولوجية، أي منهجية العلوم الإنسانية حيث يبدأ التأويل من اللغة ومنها وبها يفهم الموجد، أن نفهم هو أن نؤول بنية الوجود الإنساني وأن نستعيد لغته، بما هي بيت الوجود، فما يفهم يتحول إلى خطاب له معنى الوجود، حيث لم يكن الخطاب الخاص بالوجود في العالم ما يكون على الدوام قابلا للفهم (31).
إذن، إن المنعطف “الهيدغري” يتجه بالتأويل إلى الوجود مباشرة.
لقد كانت اللغة ومساهمتها في حل إشكالية الوجود، من بين أهم القضايا التي شغلت فلسفته فجاءها محملا بجل إشكالياته، باعتبار اللغة هي حل مشكلة الوجود، ومنفتحين على المجهول ولكن هل هذا يعني أن علاقتنا باللغة هي التي تعبر وتحدد علاقتنا بالوجود؟
يجيب هيدغر عن ذلك في محاضرة له بعنوان “ما معنى التفكير؟” إن الإنسان لا يكون إلا بالقدر الذي يشير ويسمي هذا الذي ينسحب، بل الإنسان لا يكون إنسانًا إلا لكونه ينجذب إلى هذا الذي يتوارى وينسحب، وهذا الذي يحتجب ليس شيئا آخر غير الوجود الذي يقول “هيدغر” عنه إنه محاط بالسر والألغاز لأنه يحتفظ دائما بأكثر مما يظهر.
إن دور اللغة بهذا الخصوص هو إنارة الوجود أي التفكير في وجود الإنسان من خلال الإنارة وهذه الأخيرة هي التي ستمكننا من النظر في ماهية الإنسان (32).
ومن هنا بات اهتمام “هيدغر” باللغة واضحًا، فهو لم يتفلسف باللغة فقط، بل تفلسف فيها موضحًا في ذلك أن الأشياء تصبح وتكون، وإن وظيفة اللغة الجوهرية هي التعبير عن الكينونة أو الوجود.
لقد تحدث “هيدغر” عن الإنسان باعتباره كائنًا أنطولوجيًا ثم تناول أهم ما يميز هذا الإنسان ألا وهو الكلام، ويتحدث عن اللغة على نحو أنطولوجي أيضا فيقول، “إن الفكر مخبأ داخل اللغة واللغة هي منزل الوجود.”
وهكذا تكون اللغة خاصية أساسية تتمثل في إحضار الوجود من التحجب إلى النور. وبما أن اللغة بناء وتأسيس للوجود الإنساني وللتاريخ، فهي نفسها الشعر في معناه الجوهري، لذلك ذهب “هيدغر” للبحث في شعرية الكلمة المنطوقة la parole parlée}} لأن الذين يعطون اللغة قوتها لتنفذ إلى الوجود وتعبر عنه، هم الشعراء، لهذا كان الشعر هو تأسيس للوجود بواسطة الكلام كما يقول “هيدغر”.
فالشاعر قريب من الإله وبهذا المعنى لا يكون الكلام إلا للتمثل la representation أي عبارة عن أداة يستخدمها الإنسان للتعبير عن اكتمال النفس ورؤية العالم الذي يحكمها، أما نحن فنرى ضرورة الخروج عن هذا الفهم وعليه ضرورة كسره لأن الكلام فيها يغنينا، ليس مجرد تعبير أو مجرد نشاط إنساني (33).
لقد استعان هيدغر بالفن من أجل توضيح بعض التصورات والمفاهيم الفلسفية، لأن أشكال التعبير الفلسفي في نظره لم تعد تفي بالغرض عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الوجود، وهنا نفهم لماذا يلجأ “هيدغر” في كل مرة إلى مصطلحات غريبة عن لغة الفلسفة للتعبير عن أفكاره (34)…لأن لغة الفلسفة لا تستطيع إيفاءها حقها، ولقد سبق “هيدغر” فيلسوف ألماني آخر استنجد بالفن لشرح أفكاره الفلسفية وهو “شيلنغ” باعتبار الفن عنده هو بمثابة أورغانون الفلسفة.
ومادامت اللغة عمل فني للحقيقة فليس هناك إلا فن واحد يكون من صميم ماهيتها، هذا الفن هو الشعر. وعليه فاللغة الشعرية تمتاز بالمرونة وأن العطب لم يلحقها كما يقول “هيدغر”، وهي لغة مفتوحة على نحو يتجاوز اللغة الفلسفية التي تخضع عادة إلى المنطق الصارم (35).
يقول: “إن اللغة هي التي وضعت الإنسان في التاريخ، وإن الطبيعة لتستيقظ والروح تتجلى عندما يحضر الشعر” (36). ويضيف، “ولأننا كذلك نعيش زمن بؤس الفلسفة التي لم تعد قادرة على التعبير عن موضوعها الحميم، ألا وهو الوجود.. فإنه من الضروري العودة دائما إلى الشعر” (37).
فاللغة الأصيلة إذن، هي لغة الشعر لأن الشعر وحده القادر على رفع الحجب عن الوجود.
إن “هيدغر” في مثل هذه التحليلات، ينحت لغة أنطولوجية خاصة به، لغة تبتعد عن المصطلحات المألوفة في علم النفس أو الاجتماع، لغة شاء لها “هيدغر” أن تكون كذلك لتعبر عن رؤية قد لا تستطيع اللغة العادية توصيلها أو الإفصاح عنها، وإذا افترضنا أن التأكيد القائل إن “اللغة موطن الوجود”، له مصداقية، فلا بد لمحكي اللغة التاريخي أن ينتظم في كل لحظة ويتراتب بفضل ظهور الوجود، ويعني هذا الأمر في لحظات موجودية اللغة، أن اللغة هي التي تحكي وليس الإنسان.
إذن الإنسان لا يحكي إلا بقدر ما يستجيب للغة على قاعدة ما يظهر، والواقع أن هذه الاستجابة هي الطريقة المخصوصة التي بها يتخذ الإنسان موقعه في إشراقة الوجود، إذن هل يستطيع “هيدغر” أن يعبر عن حقيقة هذا الوجود؟ وإذا أمكنه فعلا ذلك فأية لغة سيختار؟
لم يكن انصراف “هيدغر” إلى الشعر محض صدفة، ولكن لأنه تبين له أن اللغة أساسها الأول يكمن في الدازاين، بل هي الدازاين، يتكلم عبر الملفوظ ويمر إلى الآخر عبر الخطاب الذي يسمع، اتضح أنه لا حفر في الدازاين وفي ماهية اللغة إلا بالالتجاء إلى الشعر، بحثًا فيه عن الشعري (38) وعليه وجب التساؤل لماذا يتعين الآن على الفلسفة أن تقوم بجوار الشعر؟ وماذا عسى للكلمة الشعرية أن تقدم للفلسفة؟
إن الشعرية الهيدغرية، ممارسة هيرمينوطيقية يحضر في صلبها سؤال الذات والكتابة كإثارة حيوية لأبعاد الكينونة المتعددة التي تخضع لآلية الكشف بما هو فهم وتأويل يعيد طرح أسس مساءلة الوجود من أجل بناء حوار خصب مع مختلف أشكال الأثر المكتوب منه أو المنسي في اللاوعي الفردي والجمعي أيضا.
إن الشعر حسب هذه التأويلية مغامرة تهدف إلى فتح دروب الحرية كفعل للاختيار والولوج في المجهول، وهو ما يمكن من خلق تجريبي إبداعي يكشف المنحجب، فما تقوله اللغة بصوت غير مسموع يعيد الشاعر قوله بصوت مرتفع، لغة الشعر لها القدرة على الإتيان بالأشياء إلى العالم وجعلها تظهر في بدايتها البكر.
إن الشاعر في نظر هيدغر هو ذلك الكائن القلق أكثر من غيره على مصيره في عالم غريب عنه والشاعر هو الوحيد القادر على الإفصاح عما لا يمكن تسميته. إن الشعر تسمية مؤسسة للوجود وجوهر كل شيء وليس مجرد قول يقال كيفما اتفق (39).

الانتقادات التي وجهت لهيدغر:

إن المفارقة التي وقع فيها هيدغر والتي عاتبها على سابقيه، هي أن الخطاب الأنطولوجي لا يخلو هو أيضا من حجب وما يحجبه هو الموجود نفسه، وإذا كان “هيدغر” قد بين أن الفلسفة الماورائية منذ أفلاطون قد قامت على النسيان الوجودي فإنه لم ينجح هو نفسه من شباك النظرة الماورائية بقدر ما وقع في شرك الكلام أي بقدر ما ظل يستعمل كلمة وجود بطريقة ماورائية (40).
كما يبرز “بول ريكور” الطريق القصير لأنطولوجيا الفهم أي التأويل على نمط “الهيدغري” فيقول: “إني أسمي طريقًا قصيرًا تلك الأنطولوجيا للفهم لأنها بحكم قطعها المباحث الخاصة بالمنهج تضع نفسها مباشرة على مستوى أنطولوجيا الكائن المتناهي لتعتر من خلالها على الفهم كنمط وجود لا كنمط معرفة.
إن “ريكور” يسجل خاصية مهمة هنا وهي أن تعريف التأويل من حيث هو كشف اللحظة التي يتجلى فيها الوجود على حسب تعريف “هيدغر” أوسع مما ينبغي لأنه لا يتضمن بالضرورة مسألة تفسير النص ولكن هذا التعريف يمثل تحولًا كاسحًا في طبوغرافية التأويل.
لقد عنى “هيدغر” بما لم يعنى به “ريكور” نفسه بالوسط الأنطولوجي للتأويل بخطوة أخرى على يد “غادامير” و”جاك دريدا” ومن هنا يطرح سؤال، كيف ستعالج مسألة التأويل في فلسفة ما بعد الحداثة؟
على غرار “ريكور” ترتبط اللغة في فلسفة ما بعد الحداثة وبالخصوص عند “ميشال فوكو” بالتناهي وبالإنسان وتظهر تلك الصيغة التي أثارت جدلًا كبيرًا في أوساط المثقفين ونعني بها صيغة “صوت الله” وذلك لأن كينونة الإنسان وكينونة اللغة في الثقافة الغربية لم تستطيعا التعايش أو الانفصال بل كانتا متنافرتين إلا أن العودة القوية للغة في العصر الحديث وإمكاناتها الجديدة أكّدت أن الانسان نهائي وأنه حين يبلغ ذروة كل كلام ممكن لا يصل إلى صميم ذاته بل إلى حافة ما يحده في تلك المنطقة حيث يهيمن الموت وينطفئ الفكر وحيث الوعد بالأمل يتراجع إلى ما لا نهاية (41).
إنّ عودة “فوكو”، لفلسفة “هيدغر” جعله يطرح مجموعة من الأسئلة على فلسفته مثل: لماذا هذا التمجيد الدائم للسؤال؟ ولماذا يعتبر “هيدغر” كل ما كتبه مجرد أسئلة؟
فوعيا بصعوبة الحلقة الميتافيزيقية التي توقعنا فيها فلسفة “هيدغر” فإن “فوكو” يدعونا إلى إقامة حفريات للخطاب تعتبر المعنى فعلا من أفعال العلاقة، يشترط حضوره بوجود شبكة من التمفصلات معنى لا يتقدم الخطاب ولا يتأخر عنه، لا يظهر فيه ويتجلى، لكنه لا يختفي ويتوارى.
إن اللغة قد مرت كما يصفها “فوكو” بثلاث مراحل: مرحلة التشابه في عصر النهضة ومرحلة الخطاب في العصر الكلاسيكي ومرحلة الانسان في العصر الحديث، حيث تبعثرت وظهر مفهوم الانسان وما إن عادت حتى اختفى أو عاد إلى عدمه (42). كما اعتبرها “هانس جورج غادامير” وعلى خلاف “هيدغر” أن الحوار أساسه اللغة، فكل تأويل ذي طبيعة لغوية يكون فهمه لغويا كذلك وتصبح اللغة بذلك ليست مجرد أداة يتوسل فيها الانسان في التعبير عن أغراض خارجية فقط وإنما أساس حقيقة حوارية يتواجد فيها عالمان لغويان مختلفان يصيران تدريجيا إلى التداخل فيما بينهما فينبثق عن هذا التداخل لغة متجددة تحمل معاني غير مسبوقة.. وبهذا يكون الفهم في نهاية المطاف عبارة عن تفاهم (43). وإذا كان كل من “هيدغر” و”هابرماس” يلتقيان في نقطة إدانة العقلنة الأذاتية غير أنهما يختلفان في آفاق الانفلات من هيمنتها، ذلك أنه إذا كان “هيدغر” يرجع إلى النشاط الفني وإلى اللغة الشعرية وإلى الفكر ما قبل السقراطي لمقاومة طغيان التقنية، فإن “هابرماس” يعتبر أنّ الأخلاق التواصلية والمناقشة العقلية البرهانية في إطار نظرية نقدية المجتمع، يمكن من تحرر الفرد والجماعة من كل أشكال الهيمنة سواء أكانت تقنية أو سياسية، لكن ما يؤاخذه “هابرماس” على “هيدغر” هو اختياره لنقد العقلنة دون التمييز بين ما هو أداتي منتج للاستلاب والتشيؤ وما يساعد على تحرر الإنسان من عبودية الطبيعة والأشياء ونقد العقلانية الأذاتية، عن طريق نحث لغة جديدة لهذا الوجود ضرورة حضارية لكن شريطة أن تكون أداة النقد قادرة على ممارسة النقد على ذاتها من جهة وأن يراعي هذا النقد معايير التواصل من ادعاءات الصلاحية في التنقيب اللغوي عن الحقيقة والدقة والصدق من جهة ثانية (44).
كما يؤاخذه “هابرماس” على أنه لم ينتبه إلى فشل محاولاته للانفلات من تأثير فلسفة الأصل كيفما كان التعديل المتعالي الذي أدخله عليها، فالمخرج للموضوع أمامه يتمثل في العملية التي انتقدها باستمرار والمتعلقة بقلب الأفلاطونية الذي قام به نيتشه وبذلك يقلب فلسفة الأصل بدون الخروج من إشكاليتها (45)، ويعود “هابرماس” إلى نحث مفاهيم جديدة للفلسفة من أجل أن يقوض فلسفة “هيدغر” الميتافيزيقية ولكي يدحض لغته الغريبة نوعا ما وذلك حتى يتسنى له قراءة تلك العلاقة التي ينسجها الناس فيما بينهم أو التي يقيمونها مع الطبيعة وبقية الكائنات على سبيل التبادل والتداول أو على سبيل الاندماج والتفاعل وهذا في نظر “هابرماس” هو فعل التواصل إنه عبارة عن تعايش الناس بعضهم مع بعض (46).
إن هذه الانتقالات الموضعية المتجلية في انتقال السؤال من معلم إلى معلم حتى تصدع للكل هي ما يسميها “دريدا” بالتفكيك، الغاية منه تصديع البناءات النظرية التي شيدها الفكر الفلسفي والنقدي على حد سواء.
ذلك أن استراتيجية التفكيك تتأسس على بدر الشكوك في البراهين العقلية وتقويض أركانها التي تستند إليها فلا تغذو ثمة يقين أو حقيقة مطلقة لأن جهده جهد ذاتي يعدد القراءة ويفتحها على الإمكان اللامتناهي (47) وبهذا يغدو التفكيك خلخلة النص الغربي وانزياحه من موضعه سواء كان فلسفيًا أو أدبيًا اعتمادًا على نقد الأسلوب أو المجازات التي تتناقض مع الصيغ الاستدلالية بحيث تصبح البلاغة مجالا مثاليًا لدحض العمليات المنطقية (48).
عمومًا إن اللغة لا تتير اهتمام الألسنية فحسب، بل إن التأمل فيها قد شغل معظم كبار الفلاسفة في عصرنا، إذ تعتبر العلاقة بين اللغة والفلسفة علاقة قديمة تعود على الأقل إلى “أفلاطون”، غير أننا في هذا البحث شددنا على معنى الفلسفات الغربية التي اتخذت من التفكير في اللغة نقطة انطلاقًا لها لتحاول تفكيك البنيان نفسه التي قامت عليه الفلسفة أو لتوسع أفق الوجود وتعطيه بعدًا إضافيًا وهذا ما تجسد في عصرنا في الغرب، أين حاول النقد هدم الفلسفة وتقويضها من الداخل عن طريق تفكيك البناء الذي قامت عليه وكانت محاولة “مارتن هيدغر” هي الأكثر حضورًا وعليها سار الكثيرون.

إن أزمة أوروبا حاليًا هي أزمة مصير وأزمة وجود (17)، لم يقف “هوسرل” عند “التأملات الديكارتية” وإنما تابع نداء الإصلاح والتأسيس الفينومينولوجي في كتابه أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية.
لقد استأنف “هوسرل” نقد علوم عصره ووقف عند تصوراتها وحاجة مناهجها إلى الدقة واليقين فإن كان الجزء الأول من أزمة العلوم قد حسم في علم الأقدمين وفي وجهة نظرهم من العلم الكلي، فقد استخلص “هوسرل” في الجزء الثاني منه نتائج النقد واتجه إلى تأسيس علم كلي خاص لم يدركه المتفلسفة بعد. الفينومينولوجيا الترنسندنتالية هي الحل الجديد لحل مشكلات أوروبا على مبادئ وقواعد يقينية.
أدرك “هوسرل” أن على أوروبا أن تتجه لاستعادة المغزى الإنساني من العلم وأن تراهن على إثراء المشهد الثقافي حيث ينبغي التحرر من فرادات الحداثة والنموذج العلمي للمعقولية التي اشتقت من الرياضيات ومن الفيزياء (ديكارت، غاليليو) وهذا موقف نجده عند “هايدغر” في مقالته “عصر تصورات العالم” حيث يكشف الوجه الآخر لميتافيزيقا العصور الوسطى القائمة على الميتافيزيقا الذاتية (18).
إن لجوء “هوسرل” إلى التعليق الفينومينولوجي كان من أجل التحرر من النزعة الذاتية التي اتهم بها أستاذه “هيدغر” وانتقده عليها، فتعليق الأحكام الخاصة بالمعتقدات والآراء السابقة التي تسلم بواقعية العالم الخارجي يتجلى في الأساس إلى تحويل نظر الوعي إلى ذاته، وتحويل اتجاه هذا النظر ورفع النقاب الذي كان على الأنا تحقيقه، فالعالم بهذا التعليق لا يعدم أو يزول وإنما يوضع على حدة مؤقتا إنه يظل حيا ولكن تحت شكل معدل يمكن للوعي أن يظل كليا وعي ذاته (19).
إذا كان علينا الشك في هذا العالم بكل معتقداتنا عنه، فإنه يجب أن لا نشك على طريقة “ديكارت” وأن ننكر وجود العالم… إذن يمثل الشك المرحلة الأولى من مراحل التعليق وهي خطوة ضرورية تساهم في تعليق مجموعة من الاعتقادات الساذجة التي يسلم بها الحس المشترك.
يتجه التعليق إلى استبعاد المعرفة الطبيعية والتوقف مؤقتًا عن إصدرا الأحكام عليها لحين تمحيصها ونقد أسسها ومرجعياتها، ففي هذا المستوى نترك العلم أو نضعه بين قوسين ونعلق كل أحكامنا لكي نتجه إلى عالم الماهيات.. هذا الوضع هو نوع من الشك المنهجي المؤقت والممكن اتباعه في أي وقت، إنه سوف يخدمنا باعتباره منهجا مؤقتا نتوصل من خلاله إلى إدراك الحقائق الماهوية الثابتة (20).
رفض “هيدغر” الانخراط في الفينومينولوجيا الهوسرلية ودعا إلى فينومينولوجيا تأويلية. أما “ميرلوبونتي” و”سارتر” فقط أعطيا الفينومينولوجيا خصوصية إقليمية تتفهم طبيعة الوجودية الفرنسية مما وقع “لهيدغر” وهم الغموض حتى أنه لم يفهم مقاصد المنهج الفينومينولوجي، ولم يبلغ معنى التعليق لأنه لم يلتزم بضرورة الشك المنهجي وتعليق الآراء التي نعتقد في بداهتها فكل جهد فلسفي أصيل لابد أن يبدأ بنوع من الشك الجذري الذي ينصب على كافة الأحكام مثلما فعل ديكارت لما أخضع كل مستويات المعرفة والحياة والوجود للنقد بطريقة لم تكن معهودة من قبل (21).
لم يأخذ “هيدغر” في تأسيسه الأنطولوجي بمبدأ التعليق الفينومينولوجي، ذلك ما بينه “هوسرل” حيث انتهج طريقة أنثروبولوجيا في الوجود والزمن لم تستوعب حقيقة التعليق الفينومينولوجي مقاصد المفاهيم “الهوسرلية” حتى وإن حافظت على التسمية ذاتها (22) “فهايدغر” لا ينفي التعليق الفينومينولوجي وإنما يفهمه بطريقة متفردة تسمح وحدها بفهم الوجود (23) وهذه الطريقة هي الفينومينولوجيا التأويلية والتي تتعدى العتبات الابستمولوجية. فالقضايا الفلسفية لا تحددها نظرية تشكل المفاهيم وإنما تتحقق بتأويل الوجود بحسب تاريخيته المتحققة حيث ليست الفينومينولوجيا التأويلية تأملا خالصا في العلوم الصحيحة وإنما هي تأويل أنطولوجي للأساس الذي يسمح بتأسيس هذه العلوم.
انطلاقا مما سبق يتضح أن الخطوة الأولى على الطريق اتجاه الميتافيزيقا التقليدية، لهذا المفكر المبتدئ الذي يحاول أن يواجه التحدي، هي أن يجيب في فكره على التحدي الأكبر للهناك الذي يؤدي إلى استنارة الموجود من نور الوجود بوصفه موجودًا في العالم أو بالأحرى بوصفه وجودًا في العالم (24).
فما كان الحال عند “هيدغر” سوى اللجوء إلى اللغة باعتبارها تكتسب دورا مفصليا لا غنى عنه، فلكي نفهم الكينونة كما بلورها تحديدا “هايدغر” في كتابه العمدة “الكينونة والزمان” ليس موضوعات تسبح خارج منظومة الزمان والتاريخ بل إنها عبارة عن محطات تحيل إلى مجموعة من الأوصاف يتلقف أثيرها الكائن عبر ملكته الأساسية المستقبلية وهي اللغة لينثرها ويحولها إلى دلالات ومعاني قصدية مجازية لجهة أن اللغة الهيدغرية تبطن أكثر مما تفصح، بل تتميز بخاصية أخرى كما ترى “حنة آرندت” وهي خاصية الاختراق. “فهيدغر” لا يفكر في الشيء أو حوله بل يفكر في الشيء ذاته، ما يمكنه من الغوص إلى أعماق مياه الكينونة الراكدة بعيدًا عن كل تأمل أو استبطان، هذا الكائن الجديد هو الدازاين كائن اجتمعت فيه كل متناقضات الوجود (25).
إن فلسفة اللغة عند هيدغر أصبحت تفتح آفاقا متعددة ومتنوعة النظر في بنية الكينونة الإنسانية من خلال مجموع الكائنات المتجسدة والعينية من جهة وفي سياق جوانب مختلفة للعالم الخارجي من جهة أخرى (62).
إنها فلسفة تبحث في الوجود الإنساني أو في الذات الإنسانية انطلاقًا من الكلمة والقول والتأويل ولقد نجحت هذه الفلسفة في تغيير النظرة الشائعة للذات والحضور والوعي بل إننا سنلاحظ سهولة الانتقال من فضاء اللغة إلى حيز فلسفي يجعل اللغة تربطنا بالكائن البشري (27).
لقد كان اختيار “مارتن هيدغر” دون غيره من الفلاسفة لدراسة قضية اللغة والأنطولوجيا نظرًا للأهمية الفلسفية وفلسفته في حد ذاتها وما يرتبط بها من رهانات فلسفية، تتسم بكثير من الزخم والعمق فيما يخص ماهية اللغة ودورها في فهم الوجود، إذ لم يعد أساس اللغة الانسانية النحو أو المنطق وإنما الكلام أو المعنى من ناحية وجودية، إذ سيتحول الوجود الانساني الحقيقي إلى حوار بالضرورة، كما سيتحول الكلام إلى عنصر أساسي يدخل في تركيب داخل الوجود ويحقق له الانفتاح على موجودات العالم، ومن تم فإن هيدغر يقترح علينا فلسفة في اللغة والأنطولوجيا يمكنها أن تساعدنا على كشف الجوانب المشابهة مع فكر غيره من الفلاسفة الذين سبقوه أو الذين جاءوا بعده (28).
هل اللغة هي الوجود؟ أم هي مجرد واصفة استعمالية لتفسير وفهم هذا الوجود؟
باعتبار مشكلة الوجود أو الكينونة من المباحث الكبرى للفلسفة، فإن اللغة الفلسفية ستفكر وستتأمل في الوجود، فهل اللغة تعبر بشكل نهائي عن الكينونة، أم هي الكينونة ذاتها؟
إن اللغة عند “مارتن هيدغر” هي مسكن حقيقة الوجود أو الكينونة، ولهذا المسكن حارس، والذي هو الانسان الذي لا يقوم بالحراسة فقط بل يؤول أيضا، ومن هنا يمكن القول إن الإنسان هو حارس الوجود ومؤول له، وبهذا كان التفكير في اللغة ومساهمتها في حل إشكالية الوجود والتي هي من أهم القضايا التي شغل الفيلسوف الألماني الكبير “مارتن هيدغر” بها فكره.. وهذا ما سنحاول الانشغال به في الآتي من خلال السؤال التالي: إذا كانت اللغة هي مسكن الوجود، فماذا عن جينيالوجية مفهوم الوجود؟
لقد شكلت الوجودية كرد فعل ثائر حول مثل الأنساق والأفكار المثالية المحايثة والتي لا طائل من ورائها سوى العقل، فكيف سيتصور الفلاسفة المعاصرون عامة والفلاسفة الوجوديون خاصة مفهوم الوجود؟ (29)
عموما مع الفلسفة المعاصرة، وبالضبط مع الفلسفة الوجودية سوف نجد مشروعية الرجوع إلى الإنسان نفسه، حيث تجسد هذه المدرسة ثنائية الوجود واللغة حسب ما أقر به “مارتن هيدغر” نفسه فكيف سيربط بينهما؟ (30)

الفينومينولوجيا ومسألة اللغة:

تحمل هذه التأويلية الأنطولوجية، أي منهجية العلوم الإنسانية حيث يبدأ التأويل من اللغة ومنها وبها يفهم الموجد، أن نفهم هو أن نؤول بنية الوجود الإنساني وأن نستعيد لغته، بما هي بيت الوجود، فما يفهم يتحول إلى خطاب له معنى الوجود، حيث لم يكن الخطاب الخاص بالوجود في العالم ما يكون على الدوام قابلا للفهم (31).
إذن، إن المنعطف “الهيدغري” يتجه بالتأويل إلى الوجود مباشرة.
لقد كانت اللغة ومساهمتها في حل إشكالية الوجود، من بين أهم القضايا التي شغلت فلسفته فجاءها محملا بجل إشكالياته، باعتبار اللغة هي حل مشكلة الوجود، ومنفتحين على المجهول ولكن هل هذا يعني أن علاقتنا باللغة هي التي تعبر وتحدد علاقتنا بالوجود؟
يجيب هيدغر عن ذلك في محاضرة له بعنوان “ما معنى التفكير؟” إن الإنسان لا يكون إلا بالقدر الذي يشير ويسمي هذا الذي ينسحب، بل الإنسان لا يكون إنسانًا إلا لكونه ينجذب إلى هذا الذي يتوارى وينسحب، وهذا الذي يحتجب ليس شيئا آخر غير الوجود الذي يقول “هيدغر” عنه إنه محاط بالسر والألغاز لأنه يحتفظ دائما بأكثر مما يظهر.
إن دور اللغة بهذا الخصوص هو إنارة الوجود أي التفكير في وجود الإنسان من خلال الإنارة وهذه الأخيرة هي التي ستمكننا من النظر في ماهية الإنسان (32).
ومن هنا بات اهتمام “هيدغر” باللغة واضحًا، فهو لم يتفلسف باللغة فقط، بل تفلسف فيها موضحًا في ذلك أن الأشياء تصبح وتكون، وإن وظيفة اللغة الجوهرية هي التعبير عن الكينونة أو الوجود.
لقد تحدث “هيدغر” عن الإنسان باعتباره كائنًا أنطولوجيًا ثم تناول أهم ما يميز هذا الإنسان ألا وهو الكلام، ويتحدث عن اللغة على نحو أنطولوجي أيضا فيقول، “إن الفكر مخبأ داخل اللغة واللغة هي منزل الوجود.”
وهكذا تكون اللغة خاصية أساسية تتمثل في إحضار الوجود من التحجب إلى النور. وبما أن اللغة بناء وتأسيس للوجود الإنساني وللتاريخ، فهي نفسها الشعر في معناه الجوهري، لذلك ذهب “هيدغر” للبحث في شعرية الكلمة المنطوقة la parole parlée}} لأن الذين يعطون اللغة قوتها لتنفذ إلى الوجود وتعبر عنه، هم الشعراء، لهذا كان الشعر هو تأسيس للوجود بواسطة الكلام كما يقول “هيدغر”.
فالشاعر قريب من الإله وبهذا المعنى لا يكون الكلام إلا للتمثل la representation أي عبارة عن أداة يستخدمها الإنسان للتعبير عن اكتمال النفس ورؤية العالم الذي يحكمها، أما نحن فنرى ضرورة الخروج عن هذا الفهم وعليه ضرورة كسره لأن الكلام فيها يغنينا، ليس مجرد تعبير أو مجرد نشاط إنساني (33).
لقد استعان هيدغر بالفن من أجل توضيح بعض التصورات والمفاهيم الفلسفية، لأن أشكال التعبير الفلسفي في نظره لم تعد تفي بالغرض عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الوجود، وهنا نفهم لماذا يلجأ “هيدغر” في كل مرة إلى مصطلحات غريبة عن لغة الفلسفة للتعبير عن أفكاره (34)…لأن لغة الفلسفة لا تستطيع إيفاءها حقها، ولقد سبق “هيدغر” فيلسوف ألماني آخر استنجد بالفن لشرح أفكاره الفلسفية وهو “شيلنغ” باعتبار الفن عنده هو بمثابة أورغانون الفلسفة.
ومادامت اللغة عمل فني للحقيقة فليس هناك إلا فن واحد يكون من صميم ماهيتها، هذا الفن هو الشعر. وعليه فاللغة الشعرية تمتاز بالمرونة وأن العطب لم يلحقها كما يقول “هيدغر”، وهي لغة مفتوحة على نحو يتجاوز اللغة الفلسفية التي تخضع عادة إلى المنطق الصارم (35).
يقول: “إن اللغة هي التي وضعت الإنسان في التاريخ، وإن الطبيعة لتستيقظ والروح تتجلى عندما يحضر الشعر” (36). ويضيف، “ولأننا كذلك نعيش زمن بؤس الفلسفة التي لم تعد قادرة على التعبير عن موضوعها الحميم، ألا وهو الوجود.. فإنه من الضروري العودة دائما إلى الشعر” (37).
فاللغة الأصيلة إذن، هي لغة الشعر لأن الشعر وحده القادر على رفع الحجب عن الوجود.
إن “هيدغر” في مثل هذه التحليلات، ينحت لغة أنطولوجية خاصة به، لغة تبتعد عن المصطلحات المألوفة في علم النفس أو الاجتماع، لغة شاء لها “هيدغر” أن تكون كذلك لتعبر عن رؤية قد لا تستطيع اللغة العادية توصيلها أو الإفصاح عنها، وإذا افترضنا أن التأكيد القائل إن “اللغة موطن الوجود”، له مصداقية، فلا بد لمحكي اللغة التاريخي أن ينتظم في كل لحظة ويتراتب بفضل ظهور الوجود، ويعني هذا الأمر في لحظات موجودية اللغة، أن اللغة هي التي تحكي وليس الإنسان.
إذن الإنسان لا يحكي إلا بقدر ما يستجيب للغة على قاعدة ما يظهر، والواقع أن هذه الاستجابة هي الطريقة المخصوصة التي بها يتخذ الإنسان موقعه في إشراقة الوجود، إذن هل يستطيع “هيدغر” أن يعبر عن حقيقة هذا الوجود؟ وإذا أمكنه فعلا ذلك فأية لغة سيختار؟
لم يكن انصراف “هيدغر” إلى الشعر محض صدفة، ولكن لأنه تبين له أن اللغة أساسها الأول يكمن في الدازاين، بل هي الدازاين، يتكلم عبر الملفوظ ويمر إلى الآخر عبر الخطاب الذي يسمع، اتضح أنه لا حفر في الدازاين وفي ماهية اللغة إلا بالالتجاء إلى الشعر، بحثًا فيه عن الشعري (38) وعليه وجب التساؤل لماذا يتعين الآن على الفلسفة أن تقوم بجوار الشعر؟ وماذا عسى للكلمة الشعرية أن تقدم للفلسفة؟
إن الشعرية الهيدغرية، ممارسة هيرمينوطيقية يحضر في صلبها سؤال الذات والكتابة كإثارة حيوية لأبعاد الكينونة المتعددة التي تخضع لآلية الكشف بما هو فهم وتأويل يعيد طرح أسس مساءلة الوجود من أجل بناء حوار خصب مع مختلف أشكال الأثر المكتوب منه أو المنسي في اللاوعي الفردي والجمعي أيضا.
إن الشعر حسب هذه التأويلية مغامرة تهدف إلى فتح دروب الحرية كفعل للاختيار والولوج في المجهول، وهو ما يمكن من خلق تجريبي إبداعي يكشف المنحجب، فما تقوله اللغة بصوت غير مسموع يعيد الشاعر قوله بصوت مرتفع، لغة الشعر لها القدرة على الإتيان بالأشياء إلى العالم وجعلها تظهر في بدايتها البكر.
إن الشاعر في نظر هيدغر هو ذلك الكائن القلق أكثر من غيره على مصيره في عالم غريب عنه والشاعر هو الوحيد القادر على الإفصاح عما لا يمكن تسميته. إن الشعر تسمية مؤسسة للوجود وجوهر كل شيء وليس مجرد قول يقال كيفما اتفق (39).

الانتقادات التي وجهت لهيدغر:

إن المفارقة التي وقع فيها هيدغر والتي عاتبها على سابقيه، هي أن الخطاب الأنطولوجي لا يخلو هو أيضا من حجب وما يحجبه هو الموجود نفسه، وإذا كان “هيدغر” قد بين أن الفلسفة الماورائية منذ أفلاطون قد قامت على النسيان الوجودي فإنه لم ينجح هو نفسه من شباك النظرة الماورائية بقدر ما وقع في شرك الكلام أي بقدر ما ظل يستعمل كلمة وجود بطريقة ماورائية (40).
كما يبرز “بول ريكور” الطريق القصير لأنطولوجيا الفهم أي التأويل على نمط “الهيدغري” فيقول: “إني أسمي طريقًا قصيرًا تلك الأنطولوجيا للفهم لأنها بحكم قطعها المباحث الخاصة بالمنهج تضع نفسها مباشرة على مستوى أنطولوجيا الكائن المتناهي لتعتر من خلالها على الفهم كنمط وجود لا كنمط معرفة.
إن “ريكور” يسجل خاصية مهمة هنا وهي أن تعريف التأويل من حيث هو كشف اللحظة التي يتجلى فيها الوجود على حسب تعريف “هيدغر” أوسع مما ينبغي لأنه لا يتضمن بالضرورة مسألة تفسير النص ولكن هذا التعريف يمثل تحولًا كاسحًا في طبوغرافية التأويل.
لقد عنى “هيدغر” بما لم يعنى به “ريكور” نفسه بالوسط الأنطولوجي للتأويل بخطوة أخرى على يد “غادامير” و”جاك دريدا” ومن هنا يطرح سؤال، كيف ستعالج مسألة التأويل في فلسفة ما بعد الحداثة؟
على غرار “ريكور” ترتبط اللغة في فلسفة ما بعد الحداثة وبالخصوص عند “ميشال فوكو” بالتناهي وبالإنسان وتظهر تلك الصيغة التي أثارت جدلًا كبيرًا في أوساط المثقفين ونعني بها صيغة “صوت الله” وذلك لأن كينونة الإنسان وكينونة اللغة في الثقافة الغربية لم تستطيعا التعايش أو الانفصال بل كانتا متنافرتين إلا أن العودة القوية للغة في العصر الحديث وإمكاناتها الجديدة أكّدت أن الانسان نهائي وأنه حين يبلغ ذروة كل كلام ممكن لا يصل إلى صميم ذاته بل إلى حافة ما يحده في تلك المنطقة حيث يهيمن الموت وينطفئ الفكر وحيث الوعد بالأمل يتراجع إلى ما لا نهاية (41).
إنّ عودة “فوكو”، لفلسفة “هيدغر” جعله يطرح مجموعة من الأسئلة على فلسفته مثل: لماذا هذا التمجيد الدائم للسؤال؟ ولماذا يعتبر “هيدغر” كل ما كتبه مجرد أسئلة؟
فوعيا بصعوبة الحلقة الميتافيزيقية التي توقعنا فيها فلسفة “هيدغر” فإن “فوكو” يدعونا إلى إقامة حفريات للخطاب تعتبر المعنى فعلا من أفعال العلاقة، يشترط حضوره بوجود شبكة من التمفصلات معنى لا يتقدم الخطاب ولا يتأخر عنه، لا يظهر فيه ويتجلى، لكنه لا يختفي ويتوارى.
إن اللغة قد مرت كما يصفها “فوكو” بثلاث مراحل: مرحلة التشابه في عصر النهضة ومرحلة الخطاب في العصر الكلاسيكي ومرحلة الانسان في العصر الحديث، حيث تبعثرت وظهر مفهوم الانسان وما إن عادت حتى اختفى أو عاد إلى عدمه (42). كما اعتبرها “هانس جورج غادامير” وعلى خلاف “هيدغر” أن الحوار أساسه اللغة، فكل تأويل ذي طبيعة لغوية يكون فهمه لغويا كذلك وتصبح اللغة بذلك ليست مجرد أداة يتوسل فيها الانسان في التعبير عن أغراض خارجية فقط وإنما أساس حقيقة حوارية يتواجد فيها عالمان لغويان مختلفان يصيران تدريجيا إلى التداخل فيما بينهما فينبثق عن هذا التداخل لغة متجددة تحمل معاني غير مسبوقة.. وبهذا يكون الفهم في نهاية المطاف عبارة عن تفاهم (43). وإذا كان كل من “هيدغر” و”هابرماس” يلتقيان في نقطة إدانة العقلنة الأذاتية غير أنهما يختلفان في آفاق الانفلات من هيمنتها، ذلك أنه إذا كان “هيدغر” يرجع إلى النشاط الفني وإلى اللغة الشعرية وإلى الفكر ما قبل السقراطي لمقاومة طغيان التقنية، فإن “هابرماس” يعتبر أنّ الأخلاق التواصلية والمناقشة العقلية البرهانية في إطار نظرية نقدية المجتمع، يمكن من تحرر الفرد والجماعة من كل أشكال الهيمنة سواء أكانت تقنية أو سياسية، لكن ما يؤاخذه “هابرماس” على “هيدغر” هو اختياره لنقد العقلنة دون التمييز بين ما هو أداتي منتج للاستلاب والتشيؤ وما يساعد على تحرر الإنسان من عبودية الطبيعة والأشياء ونقد العقلانية الأذاتية، عن طريق نحث لغة جديدة لهذا الوجود ضرورة حضارية لكن شريطة أن تكون أداة النقد قادرة على ممارسة النقد على ذاتها من جهة وأن يراعي هذا النقد معايير التواصل من ادعاءات الصلاحية في التنقيب اللغوي عن الحقيقة والدقة والصدق من جهة ثانية (44).
كما يؤاخذه “هابرماس” على أنه لم ينتبه إلى فشل محاولاته للانفلات من تأثير فلسفة الأصل كيفما كان التعديل المتعالي الذي أدخله عليها، فالمخرج للموضوع أمامه يتمثل في العملية التي انتقدها باستمرار والمتعلقة بقلب الأفلاطونية الذي قام به نيتشه وبذلك يقلب فلسفة الأصل بدون الخروج من إشكاليتها (45)، ويعود “هابرماس” إلى نحث مفاهيم جديدة للفلسفة من أجل أن يقوض فلسفة “هيدغر” الميتافيزيقية ولكي يدحض لغته الغريبة نوعا ما وذلك حتى يتسنى له قراءة تلك العلاقة التي ينسجها الناس فيما بينهم أو التي يقيمونها مع الطبيعة وبقية الكائنات على سبيل التبادل والتداول أو على سبيل الاندماج والتفاعل وهذا في نظر “هابرماس” هو فعل التواصل إنه عبارة عن تعايش الناس بعضهم مع بعض (46).
إن هذه الانتقالات الموضعية المتجلية في انتقال السؤال من معلم إلى معلم حتى تصدع للكل هي ما يسميها “دريدا” بالتفكيك، الغاية منه تصديع البناءات النظرية التي شيدها الفكر الفلسفي والنقدي على حد سواء.
ذلك أن استراتيجية التفكيك تتأسس على بدر الشكوك في البراهين العقلية وتقويض أركانها التي تستند إليها فلا تغذو ثمة يقين أو حقيقة مطلقة لأن جهده جهد ذاتي يعدد القراءة ويفتحها على الإمكان اللامتناهي (47) وبهذا يغدو التفكيك خلخلة النص الغربي وانزياحه من موضعه سواء كان فلسفيًا أو أدبيًا اعتمادًا على نقد الأسلوب أو المجازات التي تتناقض مع الصيغ الاستدلالية بحيث تصبح البلاغة مجالا مثاليًا لدحض العمليات المنطقية (48).
عمومًا إن اللغة لا تتير اهتمام الألسنية فحسب، بل إن التأمل فيها قد شغل معظم كبار الفلاسفة في عصرنا، إذ تعتبر العلاقة بين اللغة والفلسفة علاقة قديمة تعود على الأقل إلى “أفلاطون”، غير أننا في هذا البحث شددنا على معنى الفلسفات الغربية التي اتخذت من التفكير في اللغة نقطة انطلاقًا لها لتحاول تفكيك البنيان نفسه التي قامت عليه الفلسفة أو لتوسع أفق الوجود وتعطيه بعدًا إضافيًا وهذا ما تجسد في عصرنا في الغرب، أين حاول النقد هدم الفلسفة وتقويضها من الداخل عن طريق تفكيك البناء الذي قامت عليه وكانت محاولة “مارتن هيدغر” هي الأكثر حضورًا وعليها سار الكثيرون.

الهوامش

1 “مارتن هايدغر” الوجود والموجود، تأليف د. جمال محمد أحمد سليمان، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ص 2009 ص 104
2 نفسه ص 106
3 نفسه ص 109
4 نفسه ص 110
5 نفسه ص 120
6 نفسه ص 121
7 نفسه ص 122
8 نفسه ص 123
9″مارتن هايدغر” الفن والحقيقة أو الانهاء الفينومينولوجي للميتافيزيقا ل علي الحبيب الفريوي دار الفارابي للتوزيع والنشر 2008 ص 9
10ن. ص
11 نفسه ص 10
12 نفسه ص 11
13 نفسه ص 17
14 ن. ص
15 نفسه ص 25
16 نفسه ص 26
17 نفسه ص 27
18 نفسه ص 32-33
19 نفسه ص 40
20 ن. ص
21 ص 41- 42
22 نفسه ص 43
23 نفسه ص 24
24 مرجع سابق، مارتن هايدجر الوجود والموجود ص 110
25 “مارتن هايدغر” أنطولوجيا اللغة ، ذ، ابراهيم أحمد الدار العربية للعلوم ناشرون ط 1 سنة 2008 ص 10- 11
26 نفسه ص 13
27 ن. ص
28 نفسه ص 14
29 نفسه 39
30 نفسه ص 41
31 نفسه ص 46
32 نفسه ص 64
33 نفسه ص 67
34 نفسه ص 69
35 نفسه ص 70- 71
36 نفسه ص 71
37 نفسه ص 72
38 نفسه ص 97
39 نفسه ص 100
40 نفسه ص 142
41 نفسه ص 157
42 نفسه ص 161
43 نفسه ص 163
44 نفسه ص 166
45 Habermas{j}, Discours philosophique de la modernite, Ed. Gallimard, Paris 1988, p180
46 مرجع سابق، أنطولوجيا اللغة، “مارتن هايدغر” ص 167
47 Derrida, lecriture et la differences, ed, seuil, coll. Point Paris 1967, pp. 8-11
48 مرجع سابق، أنطولوجيا اللغة، مارتن هايدغر ص 172

البيبلوغرافيا

– “مارتن هايدغر” الوجود والموجود، تأليف د. جمال محمد أحمد سليمان، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ص 2009
– “مارتن هايدغر” الفن والحقيقة أو الانهاء الفينومينولوجي للميتافيزيقا ل علي الحبيب الفريوي دار الفارابي للتوزيع والنشر 2008
– “مارتن هايدغر” أنطولوجيا اللغة ، ذ، ابراهيم أحمد الدار العربية للعلوم ناشرون ط 1 سنة 2008

– Habermas{j}, Discours philosophique de la modernite, Ed. Gallimard, Paris 1988
– Derrida, lecriture et la differences, ed, seuil, coll. Point Paris 1967
“مارتن هايدغر” الوجود والموجود، تأليف د. جمال محمد أحمد سليمان، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ص 2009 ص 104
نفسه ص 106
نفسه ص 109
نفسه ص 110
نفسه ص 120
نفسه ص 121
نفسه ص 122
نفسه ص 123
“مارتن هايدغر” الفن والحقيقة أو الانهاء الفينومينولوجي للميتافيزيقا ل علي الحبيب الفريوي دار الفارابي للتوزيع والنشر 2008 ص 9
ن. ص
نفسه ص 10
نفسه ص 11
نفسه ص 17
ن. ص
نفسه ص 25
نفسه ص 26
نفسه ص 27
نفسه ص 32-33
نفسه ص 40
ن. ص
ص 41- 42
نفسه ص 43
نفسه ص 24
مرجع سابق، مارتن هايدجر الوجود والموجود ص 110
“مارتن هايدغر” أنطولوجيا اللغة ، ذ، ابراهيم أحمد الدار العربية للعلوم ناشرون ط 1 سنة 2008 ص 10- 11
نفسه ص 13
ن. ص
نفسه ص 14
نفسه 39
نفسه ص 41
نفسه ص 46
نفسه ص 64
نفسه ص 67
نفسه ص 69
نفسه ص 70- 71
نفسه ص 71
نفسه ص 72
نفسه ص 97
نفسه ص 100
نفسه ص 142
نفسه ص 157
نفسه ص 161
نفسه ص 163
نفسه ص 166
Habermas{j}, Discours philosophique de la modernite, Ed. Gallimard, Paris 1988, p180
مرجع سابق، أنطولوجيا اللغة، “مارتن هايدغر” ص 167
Derrida, lecriture et la differences, ed, seuil, coll. Point Paris 1967, pp. 8-11
مرجع سابق، أنطولوجيا اللغة، مارتن هايدغر ص 172

< بقلم: جهان نجيب

Related posts

Top