الكاتب المغربي محمد حجو  : الأدب العظيم هو ذاك الذي يجعل القارئ يحس بذاته منصهرة فيه

« محمد حجو «، أستاذ باحث بجامعة محمد الخامس بالرباط، متخصص في السيميائيات وتحليل الخطاب. حائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب عن بحثه (الإنسان وانسجام الكون، سيميائيات الحكي الشعبي)، من مؤلفاته: «وهلم شرا»، رواية، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1994، «الإنسان وانسجام الكون. سيميائيات الحكي الشعبي» ناشرون، لبنان، دار الأمان، الرباط 2012، «دروس في الحب والسعادة» رواية، منشورات دار التوحيدي، الرباط2015.
قال نيتشه:
« إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب.. «. هكذا وجدته حين حاورته.
في ما يلي حوار معه، حول مجمل مؤلفاته وحول قضايا أدبية ونقدية بوجه عام.

> ليس هناك أصعب من أن ننظر إلى الكتابة السردية بعيداً عن التفكير الفلسفي، لأن لكل رواية ولكل مشروع قصصي فلسفته الخاصة التي يتحدد من خلالها خط سير الكاتب ورؤيته للوجود وللأشياء. فما فلسفتك التي تحكم مشروعك الروائي؟
< لم أفكر يوما أن يكون لي شيء اسمه التوجه الفلسفي أو الخط الفكري أو أي تصور من هذا القبيل. كل ما في الأمر أن الرغبة في تكوين عوالم من اللغة تصور إحساسي ورؤياي للحياة والوجود ألحت علي، فانطلقت الكتابة أسوارا بعد أسوار تقول ما قد صار الآن مولودا سرديا متشظيا يعبر عني أنا/الآخر بالنسبة للغير. وكل ما كنت أتمناه بعد أن جنحت إلى كتابة الرواية (أي بعد مسار في التجربة الشعرية التي لم تكن قد خرجت إلى عالم القراء) هو أن يجد هذا المولود السردي مرافئ نقدية من لدن القراء ومتتبعي الأعمال الروائية، لكي أتلمس آثار محتواه الفكري والجمالي عند المتلقي المتخصص والمحب المولع بعوالم الأدب. وإن كان لي من فلسفة في الفن، فهي الدفاع عن الجمال في ممارسة الحياة بوعي وتفان وعشق دؤوب، ولو كان الطريق شاقا أو حتى شقيا، لأن الإنسان يستحق من الخير أكثر مما يتصوره. المشكلة تكمن في أن ما يسمى بالمجتمع يهمل أو يغفل في غمرة النزوع المادي المِركانتيلي أن ينبه إلى منابع الجمال في روح الإنسان منذ الصغر، ليألفها ويألف سيول السعادة التي تفيض منها مع أحلام الطفولة الخالدة.

> “دروس في الحب والسعادة”، هل هي عمل فني وروائي أم “هرطقة” فنية وروائية كما يحلو للبعض أن يقيمها؟
< هرطقة فنية وروائية؟ لم يسبق لي أن سمعت شيئا من هذا القبيل. دروس في الحب والسعادة رواية لا تشبه المنتظر والمتوقع؛ فهي ليست قصة تروى أو تحكى؛ وإنما هي مشروع للقارئ المحتمل ليؤلف قصته الخاصة، وينبش في البديهيات المقررة جورا عبر تاريخ البشرية لاستعبادهم بقوة السلاح والمال وسلطة الخرافة وغطرسة التفوق بكل أشكاله. والمألوف هو أن تأتي ما أتاه غيرك. العقلية التقليدية، أي التي تخشى تغير لون المظلات من الأسود إلى ألوان فاتحة، لأن ذلك في رأيها يعد كارثة؛ بسبب ارتياحها للركود التقليداني ترى أن الجديد إما زندقة أو هرطقة. وذلك هو أقصى ما يمكن أن تجود به قريحتها المستكينة للنمط السائد، لأنه يعفيها من الممارسة العقلانية التي هي نعمة ربانية لا يعرف قيمتها إلا من عرف قوة الخالق وحبه لعباده. يمكنك أن تغير قوانين اللعب في لعبة كرة القدم أو غيرها، فيحفظها المهتمون ويمارسون التفرج على لعبتهم وعينهم على الحكم؛ فالويل له كل الويل من السب والشتم العلني والبغض والحقد الدفين إن هو لم يحرص على تلك القوانين والقواعد.
في مجال الأدب والفنون، بصفة عامة، ليس لدينا هذه الإمكانية في التوافق على القواعد، لأن التغيير أو الثورة على الموروث المتداول في الأنماط الفنية يتم بواسطة فرد في غالب الأحيان. لذلك يتعرض كل جديد للنسف والهدم والتبخيس، لتستمر المصلحة التقليدانية التي ليست سوى وهم في النهاية، مادام العالم يتحرك ويتغير باستمرار. ثم إن رفض التجديد والتغيير، سواء أكان في الشكل أم في المضمون، ليس بعيدا عن الركون إلى لذة العبودية المريحة. أتمنى أن أرى مقالا بهذه الفكرة عن الرواية منشورا بشجاعة أدبية وبأخلاقيات الجدل الفكري القويم.
> لعل أول ما يلفت انتباهنا في روايتك ” دروس في الحب والسعادة ” هو عنوانها، فأنت منذ العتبة الأولى لم تخف نفسك الفلسفي؛ لقد جمعت بين الحب كقيمة فلسفية تجمع بين الفيزيقا والميتافيزيقا، وقدرة هذه القيمة على توفير السعادة المرجوّة داخل الكيان البشري، وكأنك تقيم ثنائية ساخرة منذ البداية لتعمقها مع تركيبك للشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، فهل اختيارك للعنوان اختزال لحكي الرواية، أم هو محض صدفة؟
< العنوان هو المفتاح، هذا أمر بديهي. ولكن المفتاح ليس بالضرورة اختزالا لمضمون الرواية أو العمل الفني، إنما هو دليل عليه؛ أي هو بمثابة هوية تضع العمل ضمن عائلته وتحفظ له الاستمرارية في الوجود اللغوي. والدروس هنا ما هي دروس إلا لكون الكلام حوار لتكوين ذاكرة للجنين/ الكائن القادم إلى الدنيا؛ عالم التراب. أما في الرؤيا فالدروس، في الحقيقة هي ما سينتجه الجدل إن نجح العمل الروائي في أن يتداول ويقرأ من منظورات نقدية متمرسة وعميقة بخلفياتها الفكرية. ولهذا فالعنوان ليس صدفة، فقد ظلت هذه الرواية تنتظر ما يناهز السنة قبل أن تحال إلى النشر، لأن عنوانها لم يتسن له أن يولد. حتى إنه أجهض ثلاث مرات بسبب القصور الدلالي والإيحائي والتداولي.
> من يقرأ رواية ” دروس في الحب والسعادة “، سيستشعر الهواجس التي تنتاب مؤلفها، وهي هواجس مركبة ومتعددة: الهاجس الفني/ اللغوي، الهاجس الفلسفي الفكري، السياسي…الخ. كيف يمكنكم أن تتحدثوا عن جملة هذه الهواجس، من خلال هذه التجربة الروائية ؟
< يصعب على المؤلف أن يتحدث عن هواجسه وهو قد ألقى بها إلى غيره عبر وسيط اللغة. الكتابة ممارسة تبدو مخططا وبرنامجا منظما لمن لم يَخبر جموح اللغة وعطالتها الدلالية في مغامرة التمعني. ليس للغة من تعبير إلا ما يحضر لك في لحظات صفاء الذهن والبديهة؛ فما يقرأه المتلقي هواجس فنية أو فكرية فلسفية أو سياسية أو غيرها، هو من صميم المغامرة ولذة الخلق الفني. فالناقد والقارئ من يفكك ويستدل ويعيد تركيب العملية الإبداعية برمتها.
> لديك وله ونوع من العشق في تعاطيك مع الكلمة. كتاب الرواية يكتبون عادة بلا مبالاة، دون التنبه لفنية الكلمة وموسيقى الجملة. كيف تنظر إلى الكلمة؟
< اللغة كيان مستقل بذاته، ولو أنها تواضع واتفاق، فهي تأخذ صفة الوجود الذهني الذي ينتظر من يدخله إلى الوجود بالفعل، بالتداول والتدليل والترميز.. ولذلك فهي ملك لمن يستعملها، فمن الضروري إذن أن تتسم بروح مستعمليها ومشغليها على هواهم. واللغة في الأدب ليست لغة وظيفية تؤدي غرضا نفعيا، إنما هي تداعيات من الصور والمعاني المعبرة عن روح الأديب. وفي ما يخصني لا أحس باللغة تَبلُغ الهدف الجمالي من الإبداع، وتُبَلِّغ الرسالة المتوخاة إلا من خلال التركيب المنسجم في النغم والترانيم، لأن اللغة أصوات قبل كل شيء؛ والأصوات من حقها علينا أن تكون منصهرة في أداء “موسيقي” ممتع. إن موسيقية musicalité اللغة مكون أساس في التعبير الأدبي لأنه تكوين فني، وليس أداء لأغراض تواصلية نفعية محض.

> هناك من يقول بأن هذا العصر هو عصر الرواية الشعرية بامتياز، وهذا ما نجده في روايتيك معا، “وهلم شرا” و” دروس في الحب والسعادة “، اللتين تفيضان بهذه اللغة الشعرية، فإلى أي حد تتفق مع هذا الرأي؟
< الرأي السائد الآن هو أن عصرنا عصر الرواية. أفهم هذا الكلام بناء على انتشار هذا الجنس الأدبي في أوساط الكتاب واهتمامهم به كتابة ونقدا وتنظيرا، وذلك لما يتيحه اتساع “جبته” التعبيرية في إيصال الذات إلى الآخر من خلال بث التصورات والمواقف والآراء الخاصة في قالب السرد المرن، مقارنة مع الشعر الذي يستلزم شروطا معينة في الأداء اللغوي.
ولكن هذا نوع من التبسيط في رأيي، لأن الشعرية روح مبثوثة في الرواية والقصة والمسرح والسينما والموسيقى وفنون التشكيل، وغيرها من مظاهر التعبير الإنساني عن وجوده. فإذا كان هذا العصر عصر رواية، فهو كذلك فقط لهذا السبب: ميول الأدباء إلى الكتابة في هذا الجنس واختياره وعاء تعبيريا. أما الشعر فلا يحتاج لقالب القصيدة ليكون شعرا، وإنما يحتاج إلى الروح الشاعرة. والروح الشاعرة لا يخلو منها أدب أو فن. وإذا خلا، فهو أدب أو فن ضعيف، أو ليس أدبا ولا فنا على الإطلاق. ولذلك فالمقولة تحتاج إلى نوع من التمحيص والتنبه، لكي لا نبخس القيمة الأصلية للغة، لكونها أداة الأداء الأدبي، ونسقط في التعميم السطحي الذي يتخذ من المظهر دليلا دون المخبر.

> هل هناك حوارية بين روايتيك “وهلم شرا”، و”دروس في الحب والسعادة “، فأنت تعبر في كليهما عن موقف الإنسان تجاه الكون؟
< من المؤكد أن هناك حوارية واستمرارية. يغرف الأديب من منبع واحد طوال كتاباته، لأنه يرى العالم من منظوره. وأعتقد أن مقولة أن الإنسان/ الأديب يكتب كتابا واحدا في حياته مقولة صحيحة. ولست أعتقد أن للأدب من عمق سوى أن يكون تعبيرا عن موقف الإنسان من الكون ومن حياته وشرط وجوده، وما سوى ذلك إنشاءات لغوية تتفاوت في قربها وابتعادها عن مفهوم الأدبية.

> “دروس في الحب والسعادة ” فسيفساء من العلامات والإشارات والمفاهيم، تبنى على وقائع لتهدم وقائع بذاتها، فهل هي حكاية تصادم بين الواقع والذات، أم رحلة فكرية فلسفية تختزل رؤيتك للإنسان والكون؟
< هي رحلة فكرية فلسفية بالأساس، نابعة من الواقع القاسي للتخلف المركب الذي نتقاسمه في معاملاتنا اليومية، ولا نرضى الحديث عنه لفحص ذواتنا العميقة المتمسكة بالتركيب المتعدد الطبقات والقشور الفاصلة بيننا وبين أن نكون نحن، مجرد نحن.

> كتبت نثرا وكتبت شعرا. أبيات شعرية متناثرة هنا وهناك في “دروس في الحب والسعادة”، فما قصة الشعر عندك؟
< الشعر عطر للمعاني. إنه لذة اللغة الخالصة؛ وحضوره في الرواية استراحة وغبطة للذهن والروح.

> الموضوع في الرواية ليس استقطابا، وإنما هو تفاعل حقيقي وطرح بدائل، فأنتم حين تقومون هذا التناقض بين الإنسان وواقعه كأنكم تحاولون بذلك أن تدلوا على المقتربات التي يمكن أن تردم الفجوة بين الإنسان والواقع، هذه الفجوة التي تشكل الحلقة المفقودة. أي ما يطمح إليه الروائي، أو المبدع بصورة عامة وبين الواقع، فدائما هناك نوع من الصلة، ويمكن أن تعتبر أنها صلة ديالكتيكية، بين الأفكار وبين الواقع. فأنت كروائي تريد أن تحقق فعلا في هذا الواقع. الطريق يبدأ من هنا لتحقيق أي فعل في هذا الواقع ؟. هل تعتقد أن الكتابة هي كتابة الواقع أم تجاوز الواقع والتعالي عليه؟
< الأدب يرى ويلتقط نبضات المجتمع، ويجادل بالرؤيا والأساليب التعبيرية، ولكنه لا يشتغل على تقديم الحلول للقضايا الاجتماعية والنفسية. فدوره أن يعالج القضايا بالتساؤل والتصوير والهدم البناء، أي الغوص في مكونات الإنسان الوجدانية في ارتباطه بحياته: بتاريخه وزمانه ومعتقداته ونزوعه الروحي. لذلك فتحقيق أي فعل في الواقع لا يكون إلا بخلخلة الواقع انطلاقا من طرح السؤال وإثارة الذهن ليتفاعل مع هذا السؤال. فالكتابة الأدبية ليست التصوير المباشر للواقع، ولكنها التصوير الفكري والنفسي والاجتماعي لحضور الإنسان في هذا الواقع وخوضه في تضاريس الحياة والوجود، وتركيبه لمنظومته التي تضبط المعيش المادي والتديني والمعتقدي. وبهذا فالكتابة لصيقة بالواقع ولا تتجاوزه ولا تتعالى عليه، بل تهدف إلى السمو به، شأنها في ذلك شأن باقي أشكال التعبير الفني. وأقصد الفن وليس ما يُنتَج تحت “مسميات فنية”، تلبية لما تتطلبه الأسواق المتاجرة بالفن.

> في كتاباتك الروائية تتناول موضوع علاقة الإنسان بالمدينة (إشكالية التربيع والتدوير)، أي أن هناك نوعا من الإدانة لها، نوعا من الحرب المعلنة والخفية على المدينة، هي إدانة لواقع المدينة، ثورة على عالمها. بالنسبة إليك، ما هو البديل الذي تريد إرساءه في واقع مديني جديد؟
< كما سبق وأن قلت، الأدب لا يطرح البديل. أما مشكلة المدينة، فهي أم المشاكل. مدينتنا فوضى تتناطح فيها الرؤوس المثقلة بتاريخ الهزيمة، لتُهوّن على نفوسها هجير السقوط الداخلي وضحالة الروح الانتكاسية. مدينتنا فصل واحد يتنوع فيه الطقس. مدينتنا ملأى بكل شيء؛ بكل شيء فارغ. واقع مدينتنا/ مدنيتنا يحمل الإدانة الأصلية فيه؛ لا ينتظر من يدينه. يوم واحد من التسكع الذهني المتنبه في وجوه الناس ولغاتهم وحناجرهم وإشاراتهم وحركات خطوهم. يعفيك من قراءة التاريخ ومن استشراف المستقبل. طبعا، هذا الكلام ليس تشاؤما، وإنما هو إحالة إلى ما أنبتته المدينة نفسها في ترابها السياسي، وسقته بكل ما أوتيت من صنوف الاستهتار المنتج للخيبات.

> نحن نريد من الرواية أن تكون تعبيرا جميلا وشيقا عن حياة الإنسان، عن الحقيقة، لكن أحيانا نجد روايات فيها تعبير جميل وشيق، أما الحقيقة فلا نجد إلا جزءا يسيرا منها، وهناك روايات في المقابل فيها حجم هائل من الحقيقة، لكن الفن فيها ليس بمستوى الحقيقة، فالروائي الفيلسوف ليس هو الفيلسوف الروائي، ما قولكم في هذا؟
< الرواية تقاطع للمعارف. إذا كانت ثقافة الكاتب ضحلة، لا بد وأن يتجلى الفقر اللغوي والضعف الفكري في ما ينتجه. ولذلك فالرواية، بصفة خاصة، صارت ميدانا خصبا للتفكير والتفلسف وطرح القضايا من خلال التخيل وتفكيك الواقع، بكل مكوناته: السياسي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي.. فمن الطبيعي أن يختلف الفيلسوف الروائي عن الروائي الفيلسوف، حيث إن الاشتغال واحد ولكن المنظور يختلف. يمكن الرجوع في هذا إلى أعمال جون بول سارتر وألبير كامو، ولم لا جمهورية أفلاطون.

> تستطيع الرواية أن تلتقط أكثر ما يمكن من الحقيقة ثم تحولها في معملها الخاص، دون أن تضيع شيئا منها، من جوهر الحقيقة، إلى بنيان فني جميل وشيق ومبدع. لا يكفي أن تقول لنا الحقيقة، هناك أيضا مبدأ المتعة من أيام أرسطو حتى الآن. كل عمل فني له جماليات وإبداع بالنسبة للغة، إبداع بالنسبة للتقنية، بالنسبة لرسم الشخصيات، بالنسبة للأجواء، إلى آخره. هذا كله يجب أن يتم دون أن نخسر شيئا من الحقيقة. وعندما يتم هذا الشيء نكون أمام عمل روائي عظيم. فمهمة الفنان تتجلى بمختلف ممارساته في الكشف عن الحقائق الجديدة لكي يريح الناس، أو يجعل عيشهم ممكنا، أفضل، وأجمل، فإلى أي حد يتجلى هذا في رواية “دروس في الحب والسعادة”؟
< الأدب العظيم، في رأيي، هو الأدب الذي يجعل القارئ يحس بذاته منصهرة فيه. إذ إن الكتابة من أجل أن يكون للكاتب اسم بكثرة “أبنائه الورقيين” ليس سوى هرولة وراء المجد العابر. الأدب الرفيع يعيش خالصا مثل الذهب، لا تؤثر فيه عوادي الزمن، بل قد يزيده الزمن رفعة وقيمة؛ لأنه يجعل حياة الناس أفضل وأجمل بالإيحاء واقتراح الجمال في النص بواسطة كل ما تتيحه تقنيات الكتابة الإبداعية. ألف ليلة وليلة، رسالة الغفران، حي بن يقظان..
وغير هذا من التأليف المتين ترسخ في ذهن البشرية، وصار مشتركا كونيا لا تخلو منه مكتبة من المكتبات العالمية. روايتي “دروس في الحب والسعادة” خرجت للوجود من رحم تجربتي التي صغتها انطلاقا من منظوري، ولست أدري ما الذي ستناله من حظ في تاريخ الأدب. وليس لي أن أقيمها أو أقول ما تقوله. القارئ العادي أو الناقد المتخصص، لهما الآن كل المفاتيح ليدخلا إلى عوالمها ويتذوقاها بالإيجاب أو بالسلب أو بأي منظور آخر.

> روايتك “دروس في الحب والسعادة”، عالجت مجتمعا مهزوما متسيبا توجد في مفاهيمه خلخلة شديدة، وخاصة بالنسبة للزمن. صورته عن ذاته تحفل بتناقض شديد بين ما هي عليه، وبين الشيء المتخيل، هذا كله انعكس على بنية الرواية، فجاءت بنية الرواية تماما مثل بنية هذا المجتمع، بنية متسيبة، فيها تضارب في الزمن، فما قولك؟
< هنا يمكننا أن نعيد قول ما سبقت الإشارة إليه حين الحديث عن المدينة. هذه المدينة/ المجتمع الذي يمارس الإلغاء والإخصاء وإنكار الفرد بصفة مطلقة، لا يستطيع أن يجد أهله منفذا ليتصلوا بذواتهم ويتعرفوا إليها ليتعايشوا معها وهم واعون أنهم بشر؛ بشر حقيقيون بتطلعاتهم وآمالهم وأحلامهم وتناقضاتهم وضعفهم وقدراتهم على الفعل والتأثير والتأثر.. فكيف إذا طلبنا منهم أن يتعرفوا إلى الغير في اختلافه عنهم؟ التضارب والخرق الزمني السافر والساخر في الرواية صراخ بالحبر ضد المهانة، وضد الفوضى المعششة في الأرواح التي مورس عليها الإفساد ليسهل اقتيادها إلى الرداءة، للتمكن منها في النهاية بواسطة اللعبة السياسية الرخيصة التي فتح ميدانها من كل جهة، فانخرط فيها اللاعبون المؤقتون والاحتياطيون المدفوعو الأجر، واختلط الخسيس بالنبيل في مواجهة غير متكافئة.
هكذا فقدت المدينة نظامها الطبيعي واندست فيها طوابير الردة عن القيم الإنسانية المتمثلة في إعمال العقل/ الهبة الربانية للبشر، وفي الإخاء بين بني هؤلاء البشر المنتمين لأب واحد. وكأن العالم يسير على رأسه وليس رجليه. فكيف لا تتشظى بنية الرواية ولا تنكسر بنية اللغة مع كل هذا الانهزام النفسي والسقوط العام والاستقالة الطوعية من الحياة؟

> هناك أشياء كثيرة في ساحة الأدب الآن، من الإبداع إلى البدعة، فما رأيك في هذا؟
< الحديث عن ساحة الأدب أصبح من قبيل المجاز الفارغ من أي محتوى، أو من قبيل الذكريات الجميلة. أما الحلم فلا مجال للحديث عنه الآن. هل يمكن أن نتصور أدبا في غياب مقومات الحياة الثقافية والفنية الحريصة على جودة المنتج الفكري والإبداعي الموجه إلى الناشئة؟ من هو الإنسان الذي نصنعه الآن للغد، في البيت والمدرسة والجامعة، وفي المجتمع المفتوح على الهويات الكونية المتنوعة الأعراق والأديان وفلسفات الوجود والحياة؟ مؤسسة الأدب صارت مطية لكثير ممن لا يجيدون التأدب مع أنفسهم، فيدسونها في ما ليس لها. لم يعد لدينا نقاد يغارون على المؤسسة الأدبية. ومن يعانون هذه الغيرة نضبت جرأتهم النقدية القتالية في الميدان بفعل الرداءة المستشرية الوليدة من فساد المؤسسات المعنية بالفعل الثقافي والفني برمته.

لماذا يصمت الروائي أحيانا؟
< يصمت الروائي، وكل مبدع عموما، بسبب ما ورد في الجواب السابق.

> حاورته: فاطمة الزبير الكزار

Related posts

Top