الكاتب والزمن والقراء

إن الذي قادني إلى تناول هذا الموضوع، ما قرأته للناقد والأكاديمي البريطاني بيتر بيين في معرض دراسته القيمة عن نيكوس كازانتزاكيس التي ضمها كتاب ترجمته إلى العربية السيدة سعاد فركوح، حيث تناول في هذا الكتاب ثلاثة من عمالقة الإبداع اليوناني المعاصر، هم قسطنطين كافافي ويانيس ريتسوس بالإضافة إلى كازانتزاكيس.
حيث قال: من المستحيل التنبؤ في هذه المرحلة المبكرة بعد موته، بما إذا كان كازانتزاكيس سيُقرَأ بعد مضي خمسين عاما على وفاته، مثل كافافي، أم أنه سيشترك في المصير الذي حظي به صديقه باناييت إستراني الذي تمتع بشهرة عظيمة في العشرينات، لكنك تجد الآن إنه يكاد يكون نسيا. وإذا كان تساؤل بيتر بيين يفصح عن شك في أن يتواصل حضور كازانتزاكيس على صعيد قراءات التلقي التي تنفتح عادة على قراءات النقد، ومن ثم استمرار حضوره المعرفي وتأثيره الثقافي، وهو (بيين) من بين أكثر النقاد والباحثين معرفة بالثقافة اليونانية المعاصرة والأقدر على قراءة ما قدمت من إبداع، في الوقت الذي كنا فيه. ومنذ أن اطلعنا في ستينات وسبعينات القرن الماضي على عدد من رواياته مثل “زوربا اليوناني” و”الإخوة الأعداء” و”المسيح يصلب من جديد”، وبعض نصوصه المسرحية، ومذكراته التي تفردت ببنيتها السردية وثرائها اللغوي والفكري، حيث ترجمها الشاعر الراحل ممدوح عدوان ونشرت بعنوان “تقرير إلى غريكو”  أقول: كنا نضعه موضع الكبار في تاريخ الإبداع الإنساني، مثل سرفانتس ودانتي والمعري وشكسبير وفلوبير ودوستويفسكي وأمثالهم.
ربما كان هذا ، انطباعي الشخصي أو المحيط الثقافي الذي كنت قريبا منه، لذا فاجأني تساؤل بيين غير أن موضوعا كهذا لا يمكن إطلاق حكم قاطع بشأنه -سواء تعلق الأمر بكازانتزاكيس أم بغيره- يظل إطلاق مثل هذا الحكم، في حال استمرار حضوره أو غيابه أمرا لا ضوابط له وبخاصة  إنه في الحالتين، يكون نتاج متغيرات اجتماعية وثقافية، ومثل هذه المتغيرات لا يمكن تحديدها تماما، حتى لو كانت في حدود التوقعات.
في الحياة الثقافية العربية لا نتوفر على معطيات منهجية قادرة على تحديد، ما دخل نفق التراجع وما ظل يحتفظ بحضوره، كتابات وكتابا، مثل أرقام التوزيع وفضاءات الانتشار، ومدى الاهتمام النقدي والإعلامي والأكاديمي.
غير أننا نستطيع القول إن المتغير السياسي هو العامل الأكثر تأثيرا في ما يتعلق بما هو ثقافي بعامة وما هو إبداعي على وجه خاص، فالنص الذي يعبر عن موقف سياسي، سرعان ما يفقد تأثيره ويخسر جمهوره، حين تنتهي القضية التي كان يعبر عنها، وفي الشعر مثلا، كان بعض الشعراء من معارضي هذا النظام أو ذاك، أو ممن كانوا يمثلون اتجاها سياسيا له حضوره الجماهيري، يستقطبون ما لا عدّ لهم من المعجبين المتحمسين والمتعصبين لهم، ومن القراء أو ممن يكتب عنهم وعن شعرهم، لكن بعد حين وفي ظل متغيرات سياسية، تكاد لا تجد حتى من يتذكرهم في القول أو في الكتابة.
كما يلعب المتغير الثقافي، الناتج عن متغير اجتماعي عام، دورا حاسما على هذا الصعيد، فالمدرسة الرومانسية في الشعر العربي التي كانت في نماذجها المتميزة الرفيعة، ويمكن أن نذكر الشاعر علي محمود طه، مثالا، إذ ظهر تأثيره على بدايات معظم شعراء القصيدة العربية الجديدة، وبخاصة السياب ونازك الملائكة وفدوى طوقان وصلاح عبدالصبور، إذ كان في حينه الشاعر الأكثر حضورا والأكثر تعبيرا عن جديد الشعر العربي، لكنني أظن أن الكثيرين من شعراء هذه المرحلة، لم يقرأوا شعره بل إن بعضهم لا يعرف حتى اسمه.
لذا فإن تساؤل بيتر بيين بشأن كازانتزاكيس، وهل سيقرأ بعد خمسين عاما من وفاته، يكاد يشمل كل الذين يشتغلون في ميادين الإبداع وفي جميع الثقافات وجميع اللغات.

> حميد سعيد

Related posts

Top