الكاتب والناقد حميد ركاطة: استسهال الكتابة رصاصة تقتل صاحبها وتسقطه في الرداءة والابتذال

تتمحور جل أسئلة هذا الحوار مع الناقد الأدبي المغربي حميد ركاطة، حول فن القصة القصيرة جدا، ومختلف الإشكاليات التي تحيط بها، بالنظر إلى الفورة التي عرفها هذا الجنس الإبداعي، والجدل الذي خلقه، سيما وأن هناك من لا يزال غير مطمئن له، بالنظر إلى استسهال الكثيرين الكتابة فيه، إلى حد اختلاط الحابل بالنابل.

> اختلفت تسميات وتعريفات القصة القصيرة جدا بين النقاد، فبم يعرف الناقد حميد ركاطة القصة القصيرة جدا؟
> بداية أود التقدم بالشكر لكم دكتور أحمد رزيق على هذا الحوار، آملا أن يكون في مستوى تطلعات القراء، سيما وأننا إزاء جنس أدبي أثار ردود فعل متعددة، وأسال مدادا كثيرا.
بخصوص سؤالكم حول تقديم تعريف ناجز للقصة القصيرة جدا، يبدو الأمر كأننا نرغم فيلا على الدخول من ثقب صغير. لكن ما يمكن الإقرار به هو أنها قصة أثارت ردود فعل متباينة، كما أن الاختلاف في تعريفها لم يكن بالأمر السهل، كل ما هناك أن أغلب المنظرين لهذا الجنس وضعوا لها أسسا ومرتكزات خاصة بها. لكنهم اختلفوا حول العديد من الخصائص إلى درجة أن آخر كتاب نقدي للدكتور حميد لحميداني اعتبرها نظرية منفتحة، على خلاف الدكتور جميل حمداوي الذي نظر إليها بمفهوم المقاربة الميكروسردية وقدم طرحه الخاص كذلك ودافع عنه بشراسة.
في حين يمكنني الإقرار بنوع من الصدق الأدبي أن البحث عن إطار نظري هو أمر سابق لأوانه. كما أنني أرفض مرحليا التنظير لجنس غير مكتمل الملامح، وتجارب الكتابة فيه لا تزال مفتوحة، والدليل على ذلك الارتباك النقدي اليوم ومصطلحاته غير الموحدة. القصة القصيرة جدا كائن رمادي زئبقي متمرد لا يلتقط من الحياة سوى الوجه القاتم والمفارق، ولا يتقن سوى السخرية ضمن بنائه المفارق.
كما أن الاختلاف في تسميتها يمكن التمييز فيه بين مرحلة البدايات التي كان يفتقد فيها بعض الكتاب الجرأة الكافية للمغامرة وهنا نلمس تسميات عديدة من قبيل (قصص بحجم الكف، قصص مينمالية، أقصوصة، القصة الومضة، القصة القصيرة جدا،…) أما في مرحلة ثانية فأغلب الكتاب جنسوا مجاميعهم بتسميات واضحة قصص قصيرة جدا. فتعدد التسميات يبرز الارتباك في التجنيس بسبب غموض في الرؤية، في حين أن الاختلاف في نظري هو ظاهرة صحية. تبدو القصة القصيرة جدا كقصة ترتكز على بناء حدثي متصاعد نحو نهاية مفارقة وعاصفة، كرصاصة تصيب قارئها في مقتل كما تعتمد على الحذف والإضمار والتكثيف، قصة ضامرة مفتوحة على تأويلات متعددة مشاكسة تخترق حدود الأجناس الأدبية الأخرى.

> ما الذي أضافته القصة القصيرة جدا للأخبار والحكايات، والطرائف، والشذرات، والأكاذيب، والمنامات، والمقامات في التراث العربي والإنساني؟
> قبل الحديث عن الإضافات ربما بإمكاننا أن نفتح قوسا للتنبيه على أن لكل جنس أدبي خصوصياته المميزة، ومرتكزات بنائه الخاصة؛ فالقصة القصيرة جدا استطاعت أن تتخذ ملمحا كونيا بانفتاحها المميز وأن تفرض خصوصياتها ومكانتها، دون أن تفقد ملمحها وحكائيتها، ولعل ما يميزها هو بناؤها المفارق ضمن حيز نصي ضامر من خلال سرد سريع الإيقاع مشوق، قد تختفي فيه ملامح الزمان والمكان لتضحى اللغة وعاء بديلا لهما معا. فما أضافته القصة القصيرة جدا للأجناس الأخرى لا يمكن حصره فقط في ما أحدثته من تقاطع، ولكن في قدرتها الرهيبة على استيعاب مقومات العديد من الأجناس. مع الحفاظ على خصوصيتها التي منحتها تأشيرة الانتماء لشجرة الأدب الكبيرة.

> ألا يلاحظ معي حميد ركاطة أن هناك استسهالا كبيرا في كتابة القصة القصيرة جدا؟
> ربما يمكننا مقاربة هذا السؤال من زاويتن مختلفتين، الأولى هو اعتقاد بعض الكتاب أن القصة القصيرة جدا يمكن كتابتها بسهولة، وباستطاعتهم كتابة عشرات النصوص يوميا. وهذه زاوية نظر خاطئة لا تقدر خطورة ومنزلقات الكتابة دون الوعي بمرتكزات الجنس وأسسه، لعدة اعتبارات أساسها الاستخفاف، وهو ما يجعل الأحكام، مجرد أحكام قيمة ليس إلا.
في حين أن زاوية النظر الثانية تبرز فئة تعتقد أن كل ما تكتبه قابل للنشر ولا يفرق أصحابها بين جنس المكتوب، وقد صادفت في مسيرتي المتواضعة مع القصة القصيرة جدا العديد من النماذج التي لا ترقى بأن توصف بكونها كتابة. وربما هذا بسبب الغرور، في حين نجد أن كتابا متمرسين يسقطون في فخ الاستسهال والدليل، على ذلك أنه من بين مائة نص قد لا نعثر في مجموعة قصصية على عشرة نصوص في المستوى المطلوب، تكون واضحة المعالم، ومستوفية لشروط القصصية.
الاستسهال رصاصة تقتل صاحبها، وتسقطه في الرداءة والابتذال، كما يتحول المنتوج إلى مجرد نسخ على منوال محدد وقالب رتيب.

> ما القيمة الإبداعية التي يمكن أن يحملها نص قصصي قصير جدا وما تجليات الإبداعية في مثل هذه النصوص؟
> إشكال تحديد القيمة الجمالية، أمر متعلق بالتذوق الفني للنص، سواء من طرف المتلقي أو من طرف الناقد، لأن لكل منهما زاوية نظر مختلفة. كما أن القيمة مشروطة بالخضوع لمواصفات معينة تحدد طبيعة المنتوج بعيدا عن نقد الزمالة، أو محاباة الأصدقاء، ودرجة القصصية هي المحددة في نظري، وهي ما يشكله المنتوح من قيمة مضافة. فقد يصدمنا نص كقراء، ويستفز مشاعرنا، ويخدش حياءنا، لكن الناقد قد يجده متميزا بإضافاته وجرأته. كما أن ما يحدد قيمة أي نص هو الاختلاف حوله وإثارته لأسئلة عديدة. ولعل هذا الطرح ينسحب على العديد من نصوص القصة القصيرة جدا، بما أثارته من ردود فعل متباينة سواء حول هويتها، أو انتمائها بالنسبة للبعض لشجرة الأدب. لقد تساءل الكثيرون كيف لنص ضامر أن تتوفر فيه شروط القصصية، نصوص بحجم الكف كالسندويتش، رمادية الرؤية، ساخرة، وواخزة أن تحدث أثرا لدى المتلقي في ثوان معدودات، كما أنها لا تحمل من ملامح القصة المألوفة سوى النزر القليل وأحيانا تبدو بوجهها المخالف والمتمرد، والمنفلت، دون أن تسقط في شرك الابتذال مثلا.
فالنص القصير جدا هو كائن سردي حساس، قد يتعرض للهدم بمجرد خلل في بنائه، لأنه يرتكز أصلا على الإضمار والحذف، ومفتوح على بياض متمنع، ويعتمد تقنيات خاصة سواء على مستوى التشييد أو التضمين، أو البناء بأشكال مختلفة: التوازي، التعامد، الاستيراد المفاهيمي، القاموس الغريب، أو الغرائبي، والأسطوري، توظيف مقومات أجناس أخرى، وانتهاك حدودها، ويعتمد الوصول للهدف بشكل رأسي كطلقة غير رحيمة بشكل سريع ومفاجئ، أو بتشكيله البصري القريب لقصيدة النثر، أو اعتماده لغة شاعرية، أو عتبة أساسية بزوالها يفقد النص كنهه أو قوته.
إن قيمة النص تكمن في انتباه الكاتب، لقدراته الفنية، والإبداعية والأسلوبية، واعتماد سياق مفهوم ودال لتقريب الرسالة للمتلقي، وعلى ترددات النص وأثره في نفسية القارئ.
> ما الذي يغري جيشا متزايدا من كتاب القصة القصيرة جدا بالإقبال على كتابتها والاستمرار في ذلك؟
> لو تأملنا جيدا المشهد الثقافي العربي، لوجدنا أن جل كتاب القصة القصيرة جدا قد نزحوا إليها بعد مراس طويل في الكتابة في أجناس أدبية أخرى: كالشعر، والمسرح، والقصة القصيرة، والرواية، والشذرة،.. كما نجدهم على دراية واسعة بخصوصية هذا الجنس الأدبي. وأعتقد أن النزوح كان تحديا في البداية، أو افتتانا بالنحافة والاقتضاب وهي اختيارات محددة في نظرنا سلفا وليس بشكل عبثي، بل مع وضوح في الرؤية والهدف.
في حين أن افتتان البعض الآخر جاء عن طريق الرغبة في تجريب قوالب جديدة في الكتابة، تبعا لموضة عامة، أو ظاهرة أرغمت الكثيرين على مسايرتها، سيما مع ظهور الرسائل القصيرة كوسيلة للتواصل، والفيديو كليب، في الأغنية. وتقلص المساحة الزمنية للأغنية الكلاسيكية، بتحقق تحول مجتمعي سواء في وسائل الإعلام أو الاتصال والسينما بظهور الفيلم القصير. وكذلك في الذوق، والذائقة الفنية والجمالية، فكان في نظري لزاما على الأدب هو الآخر أن يطور تقنياته باعتماد وسائل تمكنه من الاستجابة لكل هذه التحولات، دون التفريط في آليات الإنتاج الأخرى ضمن تعايش سلمي. أعتقد أن الزمن والتراكم هما الكفيلان بالحكم على قيمة ما أنجز، أو تأكيد منطق الاستمرارية، فالأجناس تتعايش فيما بينها، وتبقى لكل جنس أدبي أهميته وخصوصيته ومميزاته. فهل يمكن الجزم أن زمن المسرح قد انتهى، أو أن السينما بإغلاق العديد من قاعات العرض قد ولى بريقها؟
فأنا أرى أن لكل جنس أدبي مكانته المميزة في خارطة الإبداع، غير أن تحقيق الاستمرارية يتطلب التسلح بمعرفة كفيلة بالعمل على تطوير كل جنس وانفتاحه على أي معرفة جديدة بإمكانها أن تشكل إضافة نوعية للنص المكتوب، لتمنحه سمة مميزة أو طابعا خاصا.

> كيف يمكن للتكثيف والومض أن يرصد تحولات واقع متشابك ومعقد؟
>في القصة القصيرة جدا يتم اعتماد الإضمار والحذف والإيحاء؛ وهي خاصيات تجعل النص مفتوحا على تأويل متعدد. فالتكثيف هو بمثابة تقطير وتقتير سردي محمل بالدلالة المحيلة على الظاهرة المرصودة، اعتمادا على كلمات وازنة ومنتقاة بعناية فائقة. فالكاتب بدوره يملك من الحمولات المعرفية ما يمكنه من رسم الواقع المأزوم وفق تشكيل بصري دال، عبر لغة قابلة لتفجير المعنى المقصود أثناء التلقي.
> ألا تتفق معي أن جملة من سمات القصة القصيرة جدا تغتال في النص السردي واقعيته السردية، وتجرده من لحمته وسداه والتي هي الحكاية؟
> ربما بالعودة إلى بعض خصائص القصة القصيرة جدا ومرتكزاتها نلمس أن عنصر الحكاية يبقى أساسيا، فكل نص لا يحافظ على لحمة الحكاية يفقد بريقه فالنحافة لا تعني التمرد على مكون أساسي من مكوناتها. ولكن من خلال مقاربتي لمجموعة من المجاميع القصصية وطنيا أو عربيا لمست أن العديد من نصوصها يغامر، دون معرفة سابقة بخصائص وسمات النوع، بكتابة نصوص مبهمة قد لا يعرف حتى كاتبها المقصود منها وهو ما يجعل التخبط السمة البارزة، فالخاطرة مثلا ليست قصة قصيرة جدا والحكمة كذلك والنكتة.. وهذا أمر يتسبب للمتلقي في اللبس، بل يمكن التأكيد أن هناك نصوصا بقدر ما لا تمت للقص بأي صلة تندرج ضمن مجاميع تحمل تجنيسا دقيقا (القصة القصيرة جدا) أو (قصص قصيرة). لكن هذا الأمر ليس شائعا بشكل كبير بل يمكن اعتباره استثناء بالمقارنة مع ما كتب لحد الآن من نصوص جميلة مستوفية لبعض الشروط حافظت على لحمة حكايتها جيدا.

> كيف ترى المواكبة النقدية لهذا النوع السردي؟ وهل يجد له حضورا في الجامعة المغربية؟
> يمكننا اليوم التأكيد بنوع من الاطمئنان أن القصة القصيرة جدا قد وجدت سبيلها نحو البحث الأكاديمي من خلال اعتمادها في أبحاث الإجازة والماستر في المغرب، وكذلك في أبحاث الدكتوراه في بعض جامعات المغرب العربي كالجزائر. وفي دول أخرى كالسعودية. وشخصيا ساعدت العديد من الطلبة والطالبات. كما توصلت بدراسات أنجزت حول القصة القصيرة جدا من جامعات مغربية.
غير أن المواكبة البعدية تبقى متعثرة بالمقارنة مع حجم ما ينشر، اللهم إذا استثنينا المواكبات التي تنشر في الملاحق الثقافية لبعض الجرائد والمجلات. في حين أن المواكبات التي تقارب تلك الأعمال برصانة وبدقة تبقى قليلة ومحصورة في إطار الصداقة والزمالة إذا ما استثنينا كذلك الدراسات التي يقوم بها نقاد يعشقون هذا الجنس ويكتبون فيه كذلك، وأغلبهم من المدافعين عنه، وأقاموا مهرجانات خاصة به.

> كيف تقيم الإبداع المغربي ضمن النوع، مقارنة بما يكتبه كتاب القصة القصيرة جدا في الوطن العربي؟
> أعتقد أن لكل جنس سردي عشاقة، غير أننا نلاحظ اليوم أن الرواية والقصة القصيرة جدا تستأثران باهتمام كبير جدا. فالرواية أصبح لها حضور كبير جدا في الوطن العربي، ولعل الأمر يرجع لإقبال القراء عليها، ولما يقدم لكتابها من تحفيزات وجوائز ومسابقات “جوائز البوكر” تحديدا، وكذلك تشجيع دور النشر لها بشكل كبير. من خلال طبع ألاف النسخ، وتوزيعها في مختلف أنحاء العالم العربي. في حين أن القصة القصيرة جدا أغلب كتابها هم من يتحملون أعباء النشر والتوزيع الذاتي. ولعل الفارق يظل كبيرا من حيث الإشعاع والذيوع والانتشار.
في المغرب تظل الهيمنة في نظري للرواية، وللقصة القصيرة، ثم القصة لقصيرة جدا إذا ما حاولنا تقديم تصنيف عادل، كما أن جائزة المغرب للكتاب استأثرت بها الرواية، وكأن الأجناس الأخرى لا وجود لها على الإطلاق.

> حتما كان وراء انتشار هذا النوع السردي وذيوعه وإقبال الناس عليه كتابة ونشرا وقراءة، عوامل كثيرة أهمها الشبكة العنكبوتية، كيف أسهمت هذه الأخيرة في التمكين لهذا النوع؟
> بالفعل هذا كلام صائب ومنطقي، فالقصة القصيرة جدا لم تنتعش إلا في رحم الشبكة العنكبوتية وكذلك صفحات الجرائد لغياب مجلات متخصصة، أو مجلات ظلت صامدة، وهنا أشير إلى محاولة بدأت في المشرق العربي. فسهولة النشر المباشر في المواقع الخاصة، والمتخصصة، أو في مجلات إليكترونية يديرها عشاق هذا الجنس ساهمت بشكل كبير في التعريف بها.
غير أن سلبيات النشر الإلكتروني تبقى كثيرة جدا، لأن أغلبها لا يعمل إلا على تمجيد الرداءة لغياب نقد متخصص، وإن وجد فإنه يتسبب في عداوة مقيتة. الناس يرغبون في تمجيد الرداءة فليس كل ما ينشر هو بالفعل قصص قصيرة جدا.
> جزء من حوار طويل

> حاوره: أحمد رزيق

Related posts

Top