المحاكمة عن بعد وسؤال المحاكمة العادلة في ظل حالة الطوارئ الصحية

بالرغم من كل الانتقادات التي تم توجيهها لإجراءات التقاضي عن بعد في المجال الزجري، إلا أن هناك من استبشر خيرا لهذه الخطوة المهمة التي طال انتظارها لمدة من الزمن بين التردد والخوف، من أن يكون الأمر مسا بمكتسبات قانونية مهمة وضمانات استنزف العمل عليها سنوات من أجل تكريسها على أرض الواقع، وهكذا فإن التقاضي عن بعد هو تحول رقمي وذكي لمنظومة العدالة، بل هو نتاج للمخرجات المعتمدة لتوصيات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، كما أنه إجراء أفرزته الحاجة الماسة مع انتشار وباء كوفيد19، باعتباره اجتهاد إجرائي على مستوى محاكم المملكة، والذي حول الأسرة القضائية من عدالة كلاسيكية إلى عدالة حديثة تنفتح على المجريات وعلى الاجتهادات التكنولوجية المعتمدة في هذا الشأن، وهو ما سيساهم في كسب رهان النجاعة القضائية على مستوى عمر القضايا وعلى مستوى جودة الأحكام.
وتحقق المحاكمة عن بعد عدة مزايا، تحقيق النجاعة عبر تيسير البت في القضايا؛ وربح الوقت والجهد، وتفادي مخاطر التنقل، حماية الشهود والمبلغين والضحايا، تيسير التعاون القضائي الدولي في المادة الجنائية، ترشيد النفقات المادية المرتبطة بنقل آلاف المعتقلين، حيث تكلف خزينة الدولة يوميا مبالغ مهمة، تيسير العمل بالنسبة لمساعدي العدالة، فعوض أن يتنقل مثلا الخبير من مدينة إلى أخرى قصد الاستماع إليه بشأن توضيح خلاصات الخبرة التي أنجزها، يمكنه القيام بذلك دون عناء التنقل عن طريق استخدام تقنيات الاتصال عن بعد مع المحكمة؛
إن المس بضمانات المحاكمة العادلة غير قائم أساسا، ما دام أن الهيئات القضائية تؤسس لقاعدة خيار المتهم في أحقيته للمحاكمة عن بعد من عدمه، وأن المحاكمة عن بعد شرعت لمصلحة المتهم لا للاعتداء على الحق في المحاكمة العادلة، ولا مجال للإرتكان لمقتضيات المادة 751 من قانون المسطرة الجنائية لأنها خارجة عن السياق من أساسه، بحيث أن قانون الطوارئ الصحية أفرز إعادة ترتيب الحقوق بجعل الحق في السلامة الصحية يتسيد على كل حق، ويرتقي به لدرجة يمكن اعتباره من مقومات النظام العام الصحي، كما أن مبدأ العلنية لم يكن مطلقا، بل إن القضاء يمكنه اعتماد السرية كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وبهذا فإننا نجد المادة 302 من قانون المسطرة الجنائية التي نصت على أنه “إذا اعتبرت المحكمة أن في علنية الجلسة خطرا على الأمن أو على الأخلاق، أصدرت مقررا بجعل الجلسة سرية …”، وأن عبارة الأمن جاءت في عموميتها، فإن الأمن الصحي للمتهمين وكذا للجهات القضائية وهيئة الدفاع وكل المتدخلين في المجال القضائي يبقى فوق كل اعتبار في ظل الأزمة التي دفعت بالعالم نحو التوقف الشبه الكلي.
وتجد العدالة الرقمية قواعدها القانونية في مجموعة من النصوص الوطنية الأخرى، من بينها قانون 53.05المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية، والذي تطرق المشرع من خلاله إلى حجية المستندات الالكترونية وشروط صحتها، كما أورد مجموعة من الآليات التي تضمن أمن التعامل الالكتروني كالتوقيع الالكتروني والتشفير، ومقدمو خدمات المصادقة الالكترونية، وما دامت المحكمة الرقمية تتضمن معطيات وبيانات خاصة وشخصية، فهي بذلك تخضع للقانون 08.09المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، والذي عهد إلى اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي مسؤولية السهر عليها، وبالإضافة لذلك فإن قانون المسطرة الجنائية لم يأت خاليا من اعتماد وسائل التقنيات الحديثة في مجال المحاكمات وهنا يمكن لنا أن نشير إلى المادة 347-1 من القانون أعلاه والتي تنص”إذا كانت هناك أسباب جدية تؤكدها دلائل على أن حضور الشاهد…الاستماع إليه عن طريق تقنية الاتصال عن بعد.”، وهكذا وانطلاقا من هذه المادة، فإن إمكانية الاستعانة بتقنيات الاتصال عن بعد في إطار تلقي الشهادة من طرف الشاهد تظهر لنا مدى إمكانية اعتماد هذه التقنيات في مجال المحاكمات الزجرية، دون أن ننسى كذلك دور النيابة العامة في مواكبة هذه التحولات والتطورات التي عرفها المجتمع مع متطلبات الواقع في ظل جائحة كوفيد19والتي أصبح معها المواطنين غير قادرين على تقديم شكاياتهم لدى مكاتب النيابة العامة بمحاكم المملكة، مما دفع بهذه الأخيرة إلى فتح إمكانية تقديم الشكايات لديها عن بعد، وذلك بإحداث منصة إلكترونية خاصة بالشكايات الإلكترونية.

بقلم: ذ.وائل العياط

باحث في سلك الدكتوراه

Related posts

Top