المخطوطات الموسيقية ودورها في كتابة تاريخ الموسيقى العربية

إن ما تراكم في مكتبات العالم من مخطوطات عربية في مختلف فروع المعرفة ما يصعب حصره، ناهيك أن البعض يتحدث عن أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على ما تضمنته كتب الفهارس القديمة من عشرات آلاف العناوين التي تناولت مختلف جوانب المعرفة والفكر الإنسانيين، حتى نقف مشدوهين أمام ضخامة هذا التراث وثرائه، ولكننا نشعر في نفس الوقت بالحسرة لضياع الجانب الأوفر منه، من خلال الإحراق والإتلاف، كما حدث إبان السقوط الأول لبغداد عام 1258م، وسقوط غرناطة عام 1492م، وحملات الجمع الممنهج لهذا الإرث العظيم من قبل الأوروبيين على وجه الخصوص، فباتت خزائن كتبهم عامرة بجانب وافر منه.

مصادر الأدب الموسيقي العربي

كان للموسيقى حظ لا بأس به من بين المعارف التي تناولتها المؤلفات العربية القديمة، وتراوح تناول هذا الفن بين التناول العلمي الصارم والتنظير الدقيق، وبين رواية الحكايات والنوادر المتصلة بالموسيقى وأهلها، فظهرت تبعا لذلك كتابات نظرية متخصصة على درجة عالية من الدقة العلمية، فيما توزعت بقية المعلومات على مؤلفات ذات أغراض متعددة مثل كتب الفلسفة والتاريخ والأدب والطب والتصوف والفقه، وكذلك كتب التراجم والأخبار والرحلات والمعاجم، وحتى كتب النوادر والحكايات.
وأمام التنوع الكبير في أغراض هذه المؤلفات وتعددها، والتي “تمثل في شكليها التخصصي والموسوعي أكثر من ستمائة وخمسين عنوانا (وصل منها ثلاثمائة وستون) احتواها ألف ومائتان وخمسون مخطوطا، دون اعتبار المفقود منها”، ظهرت الحاجة الملحة إلى وضع الفهارس المتخصصة لحصر ما هو موجود من هذه المخطوطات، وتحديد أماكن وجودها، وقد تتجاوز ذلك إلى التعريف بمحتواها ومؤلفيها.
  
فهرسة المخطوطات والمطبوعات الموسيقية

تعتبر أعمال الفهرسة من ضرورات البحث العلمي لما توفره من يسر للبلوغ إلى المعلومة، ولما تسمح به من تجنب إعادة نفس العمل أكثر من مرة. وقد كان للمستشرقين فضل السبق في تقدير أهمية التراث العربي وتثمينه منذ القرن التاسع عشر على الأقل، غير أن ظهور أول فهرس للكتابات الموسيقية العربية يعود إلى سنة 1932 فيما نعلم، وذلك بمناسبة انعقاد المؤتمر الأول للموسيقى العربية بالقاهرة، حيث بادر قسم الفهارس العربية بدار الكتب المصرية بإصدار “نشرة بأسماء كتب الموسيقى والغناء ومؤلفيها المحفوظة بدار الكتب” من إعداد محمد عبد الرسول ومحمد جبر، وضمت عناوين عدد من المخطوطات الموسيقية الفريدة التي تختص بها الدار دون غيرها من مكتبات العالم. وقد قسمت هذه النشرة إلى ثلاثة أقسام:
–   يشتمل الأول على الكتب والرسائل التي تبحث في الموسيقى وآلاتها وتاريخها، والأنغام وأنواعها، والأشعار الملحنة على النوتة الموسيقية، وقد أضيف إليه الكثير من الكتب الأدبية والتاريخية ونحوهما مما يتضمن فصولا عنها أو عن تاريخها. كما أضيف إليه من الكتب الدينية ما يبحث عنها وعن سماع الأغاني من حيث الحل والحرمة.
–  ويشتمل الثاني على الكتب والرسائل المحتوية على القصائد والموشحات والأزجال والأدوار وفنون الشعر الأدبية الأخرى المستعملة في الأغاني، سواء منها الملحن على النغم الموسيقي أو غير الملحن. وقد أضيف إليه أيضا كثير من الكتب الأدبية والتاريخية مما يتضمن فصولا في الغناء العربي والمغنين وما يتصل بذلك.
–   ويضم القسم الثالث أسماء المؤلفين مع النص في بعضها على زمن الوفاة، وفي البعض الآخر على العصور التي عاشوا فيها، ووُضع بإزاء كل مؤلف كتابه أو كتبه التي ألفها.
وقد استلهم هنري جورج فارمر – رئيس لجنة التاريخ والمخطوطات بالمؤتمر المذكور- من هذه النشرة كتابَه “مصادر الموسيقى العربية” الذي أصدره بالإنجليزية عام 1939، ثم أعاد نشره في طبعة ثانية مزيدة عام 1965. وفي عام 1957، ظهر هذا الكتاب الهام في نسخته العربية مشكّلا أول كتاب جامع يصدر بالعربية في هذا المضمار.
ورغم الجهود التالية التي بُذلت لوضع فهارس خاصة بالكتابات الموسيقية، فإنه كان علينا الانتظار إلى عام 1979 حتى نظفر بفهرس وصفي موسع باللغة الإنجليزية يشمل المخطوطات المتصلة بالموسيقى العربية التي كتبت في الفترة الممتدة من القرن التاسع إلى القرن التاسع عشر الميلاديين، بعنوان “نظرية الموسيقى في الكتابات العربية (900-1900)”، وهو من وضع أمنون شلواح. ويعتبر هذا الكتاب استدراكا وتتمة لما كان بدأه فارمر في “مصادر الموسيقى العربية”. وفي هذا الخصوص يقول المؤلف: “ومقارنة بالـ353 عنوانا الواردة في الطبعة الثانية من المصادر، والتي تحمل 60 % منها ملاحظة نسخة غير معروفة، ما يعني أن 145 رسالة فقط وصلتنا، فإن قائمتنا تضم أكثر من ستمائة عنوان وقع تحليل ثلاثمائة وواحد وأربعين منها، وهي موجودة في ألف ومائتين وأربعين مخطوطا محفوظا في أربعين مكتبة أوروبية (بما في ذلك اسطنبول) والولايات المتحدة الأميركية”.
وفي عام 2003 صدر المجلد الثاني من هذا العمل، ويشتمل على تحليل 185عنوانا موزعا على مكتبات مصر وفلسطين المحتلة والمغرب وروسيا وتونس وأوزباكستان (بحسب ما جاء في عنوان الكتاب)، مضافا إليها مكتبات أخرى في اليمن وسوريا والعراق وإيران والمدينة المنورة. واشتمل هذا المجلد أيضا على ملحق يضم عناوين إضافية موجودة في المكتبات التي تناولها المؤلف في المجلد الأول.
وفي عام 2004، أصدر الأستاذ الدكتور محمود قطاط دليلا مكتبيا بالفرنسية بطلب من دار الأنس الباريسية “يتضمّن جردا تحليليا شاملا لما كتب، باللغة العربية وغير العربية، حول التراث الموسيقي العربي الإسلامي عامة، والعربي بصفة خاصة (حوالي 2000 عنوان)؛ مع تقديم مفصل لـ 570 اسطوانة (يعود معظمها إلى الموسيقى المغاربية). ويتميز هذا العمل إضافة إلى قوائم الاسطوانات، بالتعاليق التحليلية والنقدية المستفيضة التي شملت عددا هاما من العناوين المتخصصة، وكذلك بقوائم المطبوعات التي ظهرت في القرن العشرين، وإلى حدود زمن تأليف الكتاب.
أما كتاب “الدليل الببليوغرافي للموسيقا في الغرب الإسلامي” الصادر في سنة 2019 عن أكاديمية المملكة المغربية لعبد العزيز ابن عبد الجليل، فإنه يعرف بما يتجاوز 220 مصدرا مما تحويه الخزانات والمكتبات المغربية من مخطوطات تتصل بالموسيقى موزعة بين مصادر تنظير وتعليم الموسيقى، والتاريخ والأعلام، وموسيقى الآلة الأندلسية المغربية، وكتب المديح والسماع، ومجاميع الشعر الملحون.
ومن المؤسف حقا أن تظل المكتبة العربية، وإلى يومنا هذا، مفتقرة إلى مثل هذه المؤلفات ذات الجدوى العلمية العالية، فيجد الباحث العربي نفسه مضطرا إلى البحث عن كنوز تراثه في لغات غير لغته القومية.
تحقيق المخطوطات الموسيقية

كان المستشرقون هم السباقون في هذا المجال أيضا إلى نفض الغبار عن نفائس المخطوطات الموسيقية العربية، وتناولها بالترجمة والتعليق. وقد كان لأسماء مثل إلي سميث، ولاند، وكارا دي فو، ورونزفال، والفريق العلمي للبارون ديرلانجيه، ولاخمان والحفني، دورٌ ريادي في التعريف بعدد من المخطوطات ونشرها بشكل جزئي أو كلي في اللغات الأوروبية؛ ثم تبعهم في هذا المسعى جيل آخر من الباحثين نذكر منهم على وجه الخصوص: أمنون شلواح وأوين رايت ومحمود قطاط.
وكان يجب انتظار منتصف القرن العشرين حتى يشرع الباحثون العرب في الالتفات إلى تراثهم القومي وتعهده بالتحقيق والنشر في لغته الأصلية. فظهرت تباعا أعمال ثلة من المحققين أمثال محمد بهجة الأثري، وزكريا يوسف، وغطاس عبد الملك خشبة، ويوسف شوقي، والحاج هاشم الرجب، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وغيرهم. ومن المؤسف حقا أنه على عكس جل الترجمات إلى اللغات الأجنبية التي جاءت في الغالب مكتملة ودقيقة، فإن الكثير مما نُشر بالعربية تشوبه عديد النواقص – وهو ما يفسر إعادة تحقيقه أكثر من مرة – وما يمثله ذلك من إضاعة للوقت والجهد والمال (العام في أغلب الأحيان). وفي الأثناء، تقبع عشرات المخطوطات الموسيقية العربية إلى اليوم على رفوف مكتبات العالم تنتظر من ينفض عنها الغبار، ويتعهدها بالتحقيق والشرح.
مقترحات عملية لمشروع كتابة تاريخ الموسيقى العربية
–    في الجانب المتصل بالخطوط العامة والمصادر والمراجع المبدئية
 
الخطوط العامة

يستحسن التفكير منذ البداية في وجوب صدور المشروع بنسخة رقمية على قرص تفاعلي، إضافة إلى نسختة الورقية، أو ضمن موقع خاص على الويب، وهو ما يستدعي انتقاء مجموعة من الشواهد الإيقونوغرافية، والسمعية، والسمعية البصرية، بقصد تضمينها في هذه النسخة، مع أخذ الاحتياطات اللازمة في خصوص الحقوق.
المصادر والمراجع المبدئية

يمكن تقسيم الأشغال المتصلة بهذا الركن الأساسي في مشروع كتابة تاريخ الموسيقى العربية إلى شغلين أساسيين، هما: أعمال الفهرسة؛ وجمع نسخ المخطوطات الموسيقية وتحليلها في مرحلة أولى، تمهيدا لتحقيقها وشرحها في مرحلة ثانية.
أعمال الفهرسة

تكليف شخصية علمية أو أكثر من كل بلد عربي بإنجاز فهرس جامع للكتابات الموسيقية أو المتعلقة بالموسيقى الصادرة في بلده، بما في ذلك المخطوطات (خصوصا التي لم يقع إثباتها في كتب الفهارس)، ووثائق الأرشيف الرسمي، والرسائل الجامعية المختصة التي وقع مناقشتها لنيل مختلف الدرجات العلمية، والمقالات الصحفية المرجعية، والمطويات الهامة، وكل ما من شأنه أن يساعد على تحقيق “النظرة الأفقية” لتاريخ الموسيقى العربية.
العمل على رصد ما نُشر في الخارج من كتابات علمية حول الموسيقى العربية منذ سنة 2004، بالإضافة إلى إنجاز فهرس تحليلي بالرسائل الجامعية ـ وخصوصا منها أطروحات الدكتوراه ـ المتصلة بالموسيقى العربية التي وقع مناقشتها في الجامعات الأجنبية. وتكمن أهمية هذا العمل في كونه يسمح بتغذية الفهارس الخاصة بكل بلد عربي بعناوين جديدة، ويساعد في الآن نفسه على تحيين “دليل” محمود قطاط بما يسمح بتوفير المادة العلمية اللازمة لتحقيق “النظرة العمودية” لتاريخ الموسيقى العربية.
وفي نفس السياق، يقع العمل على جمع الشّواهد المبيّنة أعلاه والخاصة بكل بلد عربي على حدة وفهرستها، وذلك لغاية إنجاز النسخة الرقمية من المشروع.
حول تحقيق (أو إعادة تحقيق) المخطوطات الموسيقية العربية

تشكل المخطوطات الموسيقية القديمة المصدر الأهم والأوثق للتأريخ الصحيح للموسيقى العربية. والمتأمل فيما وقع إنجازه من قبل المحققين العرب في الستين سنة الأخيرة يلاحظ بِيُسر أنه لا يكاد يذكر مقارنةً بالكم الوافر من المخطوطات القابعة على رفوف المكتبات، والتي لا زالت تنتظر من يخرجها إلى النور. وحتى الجهد الذي بُذل إلى حد الآن، فقد بُدّد معظَمُه في إعادة أعمالٍ سابقة، كما أسلفنا القول.
وفي هذا المجال الأساسي والمحوري في مشروع تاريخ الموسيقى العربية، نقترح ما يلي:
على المدى القريب:

–   البحث في كتب فهارس المخطوطات عن النصوص غير المحققة، والتي قد يكون لها إضافة حقيقية في إنجاز المشروع.
–   سعي المجمع العربي للموسيقى إلى إنشاء خزانة لنُسخ المخطوطات الموسيقية العربية، تكون نواتها الأولى ما يقع استنساخه من هذه المخطوطات، وفق استراتيجية تهدف ـ على المدى البعيد – إلى إنشاء أكبر خزانة لنسخ المخطوطات الموسيقية العربية في العالم.
–   إنجاز فهرس تحليلي موسع لهذه النصوص، بما في ذلك المحقق والمنشور منها، مع التركيز بشكل خاص على المحاور والمباحث التي سيقع إقرارها ضمن الخطة المتكاملة لإنجاز المشروع.
على المدى
المتوسط والبعيد:

–  تكوين لجنة علمية عالية المستوى لتقييم ما وقع إنجازه حتى الآن في مجال تحقيق المخطوطات الموسيقية ونشرها، وضبط قائمة في الأعمال التي يتوجب إعادة النظر فيها. وتقوم هذه اللجنة أيضا بتقييم المخطوطات التي لم تُحقق بعد، وترتيبها بحسب أهميتها، حتى يتمكن المجمع العربي للموسيقى من تحديد أولوياته سواء في الحصول على نسخ المخطوطات المعنيّة، أو في الدفع بها إلى التحقيق والشرح والتعليق، إما بوسائله الخاصة، وإما بإطار مشاريع شراكة علمية مع الكليات والمعاهد العليا الموسيقية المختصة.

> بقلم: محمد الأسعد

Related posts

Top