المعارضة الفلسطينية.. بين الواقعية الثورية والسياسة العدمية

الحوار المطلوب والمفيد، في الحالة الفلسطينية، هو الحوار الذي ينتهي بأفكار واقتراحات تغني الحالة الوطنية وتفتح لها آفاقاً جديدة. فالحالة الراهنة، تواجه من جهة، احتلالا عنصرياً استعمارياً استيطانياً، لا يتوقف عن التهام الأرض الفلسطينية وخلق وقائع ميدانية في خدمة مشروعه لتصفية المسألة والحقوق الوطنية الفلسطينية. من جهة أخرى إدارة أميركية متوحشة، استعادت كل مظاهر الإمبريالية، تحمل مشروعاً لتصفية المسألة الفلسطينية وإعادة صياغة الأوضاع الجيوسياسية للمنطقة بما يخدم المشروع الصهيوني وسياسة الهيمنة الأميركية. إلى جانب هذا كله تمارس القيادة الرسمية سياسة الرهانات الفاشلة، وتمتنع عن الاشتباك الميداني، مع الاحتلال أو مع المشروع الأميركي (صفقة العصر) الأمر الذي وضع على عاتق الحركة الشعبية والقوى الديمقراطية واليسارية الفلسطينية واجبات ومهاماً مركبة وشديدة التعقيد.
فهي معنية بمواجهة الاحتلال في الميدان، عبر المقاومة الشعبية الناشطة في قطاع غزة، وفي رام الله، في ملفات الاستيطان والتهجير والأسرى وقضايا اللاجئين وحق العودة وغيرها. وفي مواجهة «صفقة العصر» في كشف عناصرها وتوحيد الصفوف في مواجهتها، وتوسيع دائرة المواجهة لإشراك الحركة الشعبية العربية. كما وضع على عاتق هذه القوى مهمة إدارة الصراع السياسي داخل المؤسسة الفلسطينية لصالح «استراتيجية الخروج من أوسلو»، وتطبيق قرارات المجلس الوطني، (30/4/2018) والمجلس المركزي في دورتيه (15/1/2018) و(5/3/2015) وفك الارتباط بأوسلو، وبروتوكول باريس والتزاماتهما، وتوسيع الاشتباك الميداني مع الاحتلال، عبر الانتفاضة والمقاومة، وفي المحافل الدولية، في الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية لنزع الشرعية عن الاحتلال وعزل الكيان الاسرائيلي وإدارة ترامب.
هذه هي الرؤية السياسية التي حكمت سياسة الجبهة الديمقراطية حين قررت المشاركة في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، في 30/4/2018، انطلاقاً من حرصها على وحدة الصف الوطني ووحدة المؤسسة الوطنية، ووحدة الشعب وحقوقه، ووحدة البرنامج، وعلى قاعدة «ائتلاف – نقد – ائتلاف»، في إطار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وجبهته الوطنية العريضة.

ردود فعل متباينة

وقد أحدث قرار الجبهة الديمقراطية المشاركة في دورة المجلس الوطني ردود فعل متباينة لدى صف من القوى والرأي العام، خاصة في ظل الحالة المعقدة التي كانت تعيشها الحالة الوطنية الفلسطينية: الانقسام بين فتح وحماس من جهة، وانكفاء قوى أخرى عن المشاركة في الدورة، مشترطة دورة يحضرها الجميع دون استثناء.
ولا داعي للتذكير أن الحوار حول مسألة المشاركة في دورة المجلس الوطني، انتقل مع بعض الأطراف، والمعلقين، إلى أكاذيب باطلة للجبهة الديمقراطية بأن من أهداف مشاركتها هو أن تحل محل الجبهة الشعبية، في مكتب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني (بدلاً من الراحل تيسير قبعة نائب الرئيس) وأنها تطمح إلى زيادة حضورها في المجلس على حساب الجبهة الشعبية. وإنها مقابل هذه «المكافآت» التي «وعد بها أبو مازن»، قررت الجبهة الديمقراطية أن «توفر الغطاء السياسي» لدورة المجلس الوطني ولو أنها غابت عن المجلس لأفقدت أبو مازن هذا الغطاء.
ورغم أن التوصيف يشكل اعترافاً واضحاً وصريحاً بالموقع السياسي والميداني الكبير من موقع القوة الثانية في منظمة التحرير كما تشير له كل العمليات الانتخابية في الأرض والشتات منذ 1/10 حتى اليوم، والمؤثر الذي تحتله الجبهة الديمقراطية في المؤسسة الوطنية، إلا إن الغمز وكأن الجبهة الديمقراطية تستغل موقعها لأسباب فئوية وانتهازية وعلى حساب الآخرين، ما كان إلا محاولة للصيد في الماء العكر من جهة، وتعبيراً عن الافتقار إلى الحجة السياسية المقنعة والموجبة لمقاطعة المجلس الوطني من جهة أخرى.
كما تجاهل كثيرون أن دورة المجلس الوطني الـ23 التي انعقدت في رام الله، انعقدت قبلها دورات للمجلس الوطني(96) والمجلس المركزي(2015+2018) في رام الله وبحضور الجميع، من أعضاء م.ت.ف.

قرارات سياسية متقدمة

لقد تناسى من روج لهذا، أن المؤسسة الوطنية، في المجلس المركزي في دورتيه الأخيرتين (5/3/2015+ 15/1/2018) والمجلس الوطني في دورته الأخيرة(30/4/2018) اتخذت من القرارات السياسية ما من شأنه أن يترجم «استراتيجية الخروج من أوسلو» بخطوات عملية: فك الارتباط باتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس وسحب الاعتراف بإسرائيل، وفك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، ووقف التنسيق مع الاحتلال، واستنهاض الانتفاضة والمقاومة الشعبية، وتطويرها نحو الانتفاضة الشاملة على طريق إعلان العصيان الوطني الشامل، ونقل القضية إلى الأمم المتحدة بطلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، والعضوية العاملة لدولة فلسطين، وعقد مؤتمر دولي تحت إشراف الأمم المتحدة وبرعاية الدول الخمس دائمة العضوية، وبموجب قرارات الشرعية الدولية التي كفلت لشعب فلسطين حقوقه الوطنية المشروعة في العودة وتقرير المصير، وقيام الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967 ورحيل للاحتلال والاستيطان.
كما تناسى من روج لهذه الأفكار، أنه ما كان للمؤسسة الوطنية أن تتخذ هذه القرارات لولا النضال المرير والمضني، الذي خاضته القوى الديمقراطية (وفي القلب منها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) والضغط الشعبي على القيادة الرسمية.
وبالتالي من يتعامى عن هذا الجهد الكبير الذي بذلته القوى الديمقراطية والحركة الشعبية، ومن يتعامى عن النتائج التي تحققت في دورات المجلس المركزي والمجلس الوطني على طريق الخروج من أوسلو لصالح البرنامج الوطني، فإنه يقع في فخ العدمية السياسية، وفخ احتقار الحركة الشعبية، والافتقار إلى تقدير دورها وقدرتها على الفعل والتأثير، كما يقع في الوقت نفسه في فخ شخصنة الخلاف، وتحويله من خلافات سياسية يدور الحوار حولها للوصول إلى توافقات وطنية تخدم المصالح الوطنية، إلى مجرد مناكفات فارغة المضمون، هدفها إثارة الغبار والتعمية على الوقائع والحقائق، ونشر اليأس في أوساط الرأي العام.

الاصلاحات الديمقراطية

بالمقابل تدرك الجبهة الديمقراطية جيداً، أن ما تحقق في الجانب السياسي مهم ومهم جداً، لكن ضمانة تحقيقه تكمن في إجراء الإصلاحات الديمقراطية داخل المؤسسة، لإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومؤسساتها، خاصة اللجنة التنفيذية، التي لا تتوقف القيادة الرسمية عن تهميشها، وإقصائها، وإفراغها من مضمونها، وتحويلها إلى مجرد هيئة تشاورية لا يؤخذ حتى برأيها، لصالح المطبخ السياسي، الذي بات يتخذ القرارات بديلاً للهيئات، بما في ذلك الخروج عن القوانين، وانتهاك مبادئ العلاقات الوطنية المفترض أن تقوم على قاعدة من التوافق الديمقراطي والشراكة الوطنية، وانتهاك شروط الائتلاف الوطني، الذي يفترض أن يشكل أساساً للعلاقات داخل المنظمة.
خرجت الجبهة الديمقراطية من المجلس الوطني في دورته الأخيرة، وقد حققت جملة من الأهداف السياسية المهمة منها:
• أنها نجحت في إعادة التأكيد على قرارات المجلس المركزي، بل طورتها نحو الإعلان عن انتهاء العمل باتفاق أوسلو، واعتبار القرار نافذاً.
• أنها نجحت في تبني المجلس قراراً يعتبر الدورة الـ 23 هي الدورة الأخيرة لهذا المجلس، على أن تكون الدورة القادمة هي للمجلس الجديد، الذي لا يتجاوز عدد أعضائه 350 عضواً، موزعين بين الداخل والخارج، وبموجب الانتخابات بنظام التمثيل النسبي، ويجتمع في مكان يتم التوافق عليه بين الجميع. هذا هو القرار الذي يفتح حقاً لدورة توحيدية للمجلس الوطني الفلسطيني يحضره الجميع وعلى قاعدة ديمقراطية وخارج نظام الكوتا والتسلط والانفراد والاستبداد.
• نجحت في الحصول على إجماع الأعضاء على قرار برفع العقوبات عن قطاع غزة. ما دعا رئيس السلطة إلى الاعتراف بذلك والتعهد بتنفيذ القرار في اليوم التالي.
• أخيراً وليس آخراً، نجحت، في البيان الختامي، وفي معركة قاسية، خاضتها إلى جانب باقي القوى في التأكيد على المؤتمر الدولي بديلاً للمفاوضات الثنائية التي جدد أبو مازن الدعوة لها في خطابه في مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018 وفي الكلمة الافتتاحية للمجلس الوطني في 30/4/2018.
في الوقت نفسه خرجت الجبهة الديمقراطية من المجلس الوطني، وهي تدرك أن معركة تطبيق قرارات المجلس وتنفيذها، سوف تكون معركة شديدة الصعوبة والتعقيد، وأنه، كي تتحقق أهدافها، لا بد من تكتيل القوى الحريصة على البرنامج الوطني وعلى إستراتيجية الخروج من أوسلو في ميدانين:
• في المؤسسة من جهة عبر الإصلاح الديمقراطي كما أسلفنا.
• في الميدان عبر ضغط الحركة الشعبية وقواها السياسية والنقابية والمؤسساتية المؤتلفة حول البرنامج الوطني (برنامج الانتفاضة والمقاومة وتدويل القضية والحقوق الوطنية).

تأكدت صحة مواقف وتصريحات الجبهة
وأثبتت الجبهة الديمقراطية، بالنتائج التي أسفرت عنها دورة المجلس الوطني، صحة ما أكدته في بياناتها رداً على التشويش على موقفها، أنها لم تذهب الى المجلس إلا من أجل أهداف تتعلق بالقضية والحقوق الوطنية، وليس سعياً وراء مصالح فئوية ضيقة، من موقع انتهازي صغير، لم تعتد الجبهة على مدى سنواتها النضالية أن تقع في فخه.
وعندما انفجرت مسألة دائرة المغتربين، بادرت الأطراف والجهات نفسها، التي اتهمت الجبهة بأنها شاركت في المجلس، سعياً وراء مصالح فئوية ضيقة، تعيب عليها أنها شاركت في المجلس وأنها وفرت لأبو مازن «الغطاء السياسي»، ومع ذلك لم تنل «المكافأة» التي كان يفترض أن تنالها، بل ضاق أبو مازن ذرعاً بها، حتى أنه أراد انتزاع دائرة المغتربين منها، لصالح دائرة أخرى لا معنى لها.
ألا يجدر بهؤلاء أن يسألوا أنفسهم، لماذا يناصب أبو مازن الخصام لجبهة وفرت له الغطاء السياسي (حسب ادعائه) في المجلس الوطني.
ألا يتطلب منهم هذا أن يتراجعوا عن ادعائهم بشأن «الغطاء السياسي»، وأن يعترفوا أن الجبهة شاركت في دورة المجلس، وخاضت معركة سياسية طاحنة ضد سياسة أبو مازن، وردت في كلمتها التي تم نشرها على أوسع نطاق، كما وردت في مواقفها المتماسكة في لجنة البيان الختامي، حين أصرت على عدم تبني «رؤية الرئيس» في مجلس الأمن، وهددت بالانسحاب من المجلس وإعلان الأسباب على الملأ في مؤتمر صحفي.
ألا يتطلب هذا من أصحاب هذا الإدعاء أن يعيدوا النظر بطريقة متابعتهم لمسألة دائرة المغتربين، من كونها مجرد خلاف بين الجبهة وأبو مازن، الى كونها صراع داخل المؤسسة على صلاحية اللجنة التنفيذية، وعلى دورها، وعلى ضرورة إعادة الاعتبار لها، ووقف سياسة الفك والتركيب في المؤسسات، وتجاوز التوافقات الوطنية الى سياسة التفرد والإنفراد عبر اللجوء الى المراسيم الفوقية، في انتهاك فظ للقوانين ولتقاليد العمل الوطني الائتلافي.
ثم إذا كانوا حقاً يقفون في صف المعارضة لسياسة أبو مازن، كما يدعون، ندعوهم للإجابة على تساؤلاتنا التالية:
1) لماذا لم يطالبوه حتى الآن بفك الارتباط باتفاق أوسلو وبروتوكول باريس؟ أليست هذه هي المعركة الرئيسية الواجب أن نخوضها. أم لأن بعضهم كان في «خلية المفاوضات» التي على يديها ولدت اتفاقية أوسلو وملحقاتها، وولد بروتكول باريس وآليات تطبيقه الكارثية. وهل القول، على سبيل المثال، بأن الدورة الأخيرة، للمجلس الوطني كانت دورة غير شرعية، يعفي أصحاب هذا الرأي من الاشتباك في معركة الضغط لفك الارتباط بأوسلو.
2) لماذا لم يطالبوه حتى الآن، بفك الارتباط بالاقتصاد الاسرائيلي، وإصدار مراسيم رئاسية بمقاطعة منتجات المستوطنات، وإيجاد بدائل للمنتج الاسرائيلي القادم من مناطق الـ48. القول بأن دورة المجلس الوطني كانت غير شرعية لا تعفي أحداً من خوض هذه المعركة.
3) لماذا لا يطالبون بوقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ولماذا الغرق في الجزئيات والملاحظات الهامشية على حساب القضايا الإستراتيجية والجوهرية.
بوضوح تستطيع الجبهة الديمقراطية أن تقول إنها تدرك جيداً ما يدور بينها وبين المطبخ السياسي. إنه صراع داخل المؤسسة، وفي الشارع، حول الخيارات السياسية الاستراتيجية، وحول تطبيقات قرارات المجلس الوطني.
وبوضوح تدرك الجبهة أنها مطالبة بأن تدفع ثمن سياستها هذه وما معركة دائرة المغتربين إلا في سياق هذه المعركة، وجزء من هذا الثمن.
نعم كان بإمكان الجبهة أن تقاطع دورة المجلس الوطني، وأن تعفي نفسها من الصدام مع سياسات أوسلو، وأن تبقى في مأمن من ردود فعل أبو مازن، لكن عندها ستكون قد أخرجت نفسها من المعركة الوطنية ضد سياسات أوسلو، دخلت في التناقض القاتل، بين من يحمل شعاراً ثورياً من جهة، ويعتكف عن دخول المعركة لوضع شعاره موضع التطبيق من جهة أخرى.
عندها تكون الجبهة قد انتقلت من السياسة الثورية الواقعية والعملية في الميدان، إلى السياسة اللفظية والعدمية. وما هذا ما تحرص الجبهة دوماً على تجنبه وعدم الوقوع في مستنقعه، رغم أن المواقف اللفظية تبدو في الظاهر أكثر تطرفاً وأكثر تشدداً، لكنها في الواقع الحقيقي استغراق في السياسة العدمية.

> معتصم حمادة

Related posts

Top