“المغاربة”* للروائي عبد الكريم الجويطي

“المغاربة” رواية مركبة، وتكاد تكون جامعة. رواية تنهض على نفس ملحمي في أزمنتها، وأمكنتها، ومسارات ومصائر وتراجيديا شخوصها، من جهة. وفي تكنيك وهندسة بنائها من جهة ثانية.
إنها رواية التلاشي والهباء. رواية “أغلال العمى”(ص362) أو “عمى الحياة”(ص31). رواية “الجنون الكبير والعمى الهائل..” (ص399). رواية لا يمكن (القبض)عليها بقراءة واحدة..1 – إن خاتمة النزع الأخير من “المغاربة” هي مبتدأها..والأخير هو (منتهاها). وكأنه كابوس أسود مرعب يدور على/حول نفسه ولا يبارحها. 2 – صيغة عنوان الرواية (المغاربة) جامعة شاملة. وكأني بهذا العنوان يقول: (هؤلاء هم المغاربة..) أو (المغاربة هم المغاربة..دائما وأبدا..)، أو غيرهما من التأويلات..
وبمناسبة العنوان، يجدر بنا أن نلج رأسا (فصل) “هذيانات مغربية”
• “باب المغاربة” (ص121) (ملحوظة: وضعت كلمة فصل بين قوسين، لأن الرواية لمّا تريد أن تسمّي فصلا، فصل، فإنها تفعل..بل وتقترح علينا، بصيغة “يمكن أن تسمي هذا الفصل”، عنوانه وكأنها تطمح إلى إشراك القارئ..إلى عدم الاستئثار بسلطة العنوان..يحدث ذلك مباشرة في مستهل السرد. فيما الباقي عناوين مكبّرة (مستقلة). ) إنه فصل/مقالة عميقة ساخرة ومفارقة في النقد الثقافي والأنتربولوجي للذهنية المغربية العامة والخاصة..حتى أنه بالإمكان فصلها(المقالة) عن الرواية ونشرها أو عرضها مستقلة بذاتها..
مقالة فاقمت من ضياع وجنون شخوص الرواية، وبخاصة محمد وأخيه العسكري..، وهي تعرج: على هذه الحضارة التي نبتت بين ” بحر وجبل وصحراء” (ص122)، على هذا المغرب المشاع للمدّعين والحالمين بالسلطة والكذّابين الكبار”، على هذا الشعب ” بلا خيال”..على هؤلاء المغاربة الذين يصدرون أحكاما دون معرفة وتعلّم، المغاربة خبراء في كل شيء: السياسة، الاقتصاد، العلاقات الدولية، الفن، كرة القدم؟، على هذه
بلاد الشّروح وشروح الشرّوح والحواشي والمختصرات (ص122)(..)بلد جبل على ولادة النّاقص(…) بلد التبرّم والشّكوى والبكاء(…)بلد المفارقات الصارخة الفاقعة..(ص127). بلد الخردة المكوّمة في السطوح كما الأفكار البالية والمتجاوزة..(ص129)، بلد الجثث، بلد بلا جنون بلا تراجيديا كبرى، بلد مالكيّ مطواع خنوع، بلد الإقبال فيه على عيد وكأنه إقبال على مجاعة (ص134)، بلد الاستهزاء بالله من خلال صلاة الاستسقاء..(ص135).
3 بين البداية والنهاية، تم تعمير الرواية وفق خطة/شكل هندسي كتقنية التّقطيع في السينما. لكنه في السينما يسبق الإخراج، بينما هو الإخراج عينه في الرواية.. متواليات الرواية، تارة متداخلة.. وأخرى مسترسلة.. وأخرى متناثرة.. والكل في وحدة متناغمة مبدعة ومفكّر فيها بعناية بليغة: أ- فالفصول/الأبواب التي يقترحها السارد على القارئ ليشركه في التفكير فيها..في اقتراح عناوين أخرى..، عددها ثمانية. جلّها جاءت في صيغ مكثّفة لحالات..ونعوت..وأوصاف، وهي فصول: “باب الابتلاء أو درب الفاجعة “(ص11)- ” موت الجد أو نذر الجحيم”(ص26)-“عسكرة العمى أو عمى الحياة”(ص31)- “مقامات الغريب”(ص105)-“الواقعة أو صبح العمى”(ص153)-“صوت الأعالي أو حب العتمات”(ص197)-“مريميدة أو حصاد الهباء”(ص299)-“الخديعة الكبرى أو القصاص”(ص383).وكما نلاحظ، فالسارد يقترح، في الغالب، صيغتين
للاختيار، ما يشي بأنه بالإمكان اقتراح صيغ أخرى ممكنة.
ب – الشذرات:
تندغم في الرواية، “شذرات النهايات على خطى بيسوا”(ص21). شذرات بتثاقف بيسوي.. (بيسوا الذي “يجسد قربانية شعرية بامتياز” بتعبير الشاعر نبيل منصر.جريدة الأحداث المغربية.ع6231. 07 /06/ 2017 .). يتدفّق عمى وتفجّعا وسوءا وعجزا وعذابا وجنونا ومرارة.. شذرات بضمير سارد متكلّم، سارد أناه “..ريح مالت حيث لا تميل الحياة”(ص23).
ثم “شذرات الموتى أحياء”(ص37)، وهي أقلّ تشذّرا من سابقتها، حيث العسكري الذي عاد من رحلة الموت بترياق أسطوري خارق، لكنه عاد “لا شيء”، عاد “عدم خالص”(ص42). عاد من حرب لم يعشها المغاربة أبدا كجبهة أو كتراجيديا. حرب عدوّ طرفيها هو الرمل..فهل يليق بشعب يخوض حربا أن يشنّف بصره وسماعه بسهرات الأقاليم ميدانيا وتلفزيونيا؟
ج- هذيانات مغربية:
لقد مرّ بنا في بداية هذه الورقة، أن استحضرنا هذه الهذيانات ونحن بصدد عنوان الرواية( هذيانات مغربية1- باب المغاربة).
أما هذيانات..”2- باب السلاطين” فهي فصل شيّق عن تاريخ شهوة الحكم والسلطة في تاريخ المغرب الوسيط والحديث والمعاصر. فصل ممهور بنصوص تاريخية/ شهادات موازية وموافقة. بالمناسبة، فرواية “المغاربة” تنهض على حسّ واطّلاع تاريخيين كبيرين وغنيّين، يهمان التاريخ المحلي(بني ملال بأحوازها وجبالها) والتاريخ العام للمغرب ماضيا وحاضرا. إنها رواية تختلف عن الروايات التاريخية أو روايات التاريخ التي أخذت تتناسل بالمغرب في الآونة الأخيرة، كونها(أي المغاربة)لا تلتفت إلى التاريخ، أو إلى نصوصه بالأحرى، إلا لإخصاب التراقص بين الماضي- الحاضر..وللتدليل والإشهاد على هذه الديمومة المغربية، إن صحّ القول. إن هذه الديمومة هي الوجه الآخر لهذا الاستثناء المغربي المسترسل في الزمان والمكان.. ديدن هذا الالتفات نصوص تاريخية تنطق وتشهد بذاتها.. وتختتم الهذيانات بـ”3- باب الأولياء الصّالحين”(ص372″)، حيث المقتطفات المصدرية تعكس..وتشهد على استمرارية الجهالة والعبودية والخوارق والتّراتبية والملذات الفاحشة لدى أولياء النّعم والعربدة والتّملّك والفجور والفتك والبطش والجبروت والكلبية..إلخ، في السيرورة المغربية. وبالموازاة مع هذا التداخل/التراقص الماضي – الحاضر، تحبل “المغاربة” وتتخلّلها، وربما يكون هذا هاجسها الأرأس، معطيات واقعية ووقائعية مفارقة وبليغة، تتناغم وتتقاطع مع عوالم رؤيتها(أي المغاربة). معطيات تهم، الآن هنا، كما عشناه وعايشناه، من صواعق مسقط الطائرات، مرورا بفتنة كتاب”صديقنا الملك”، واللغة، والسياسة، والحزبية، والصحافة”المستقلة”، وجحيم تازمامارت، وثرثرة المقاهي، والأراضي المسترجعة، ومأذونيات النقل والصيد في أعالي البحر…وانتهاءا وليس آخرا، بالفساد ك” نهج وطريقة في التدبير لضمان الإذعان التام”(ص162-127)، في بلد أصبح فيه “الشيء الذي لا يباع ولا يشترى حرام”(ص127). إذ الكل “يطلب من الوطن مقابلا..المقاوم، والمناضل، والسياسي، والرياضي، والفنان، ورجل الدين..”(ص127). د- قبل أن نعيش صحبة سرديات ” ليالي الباشا الصغير” (ص229)، كان السارد محمد( محمد الغافقي الأعمى، وعاشور الصغير في الليالي..)، وهو بالمناسبة السارد المركزي في الرواية، قد قام بتوطئة سردية تعرّفنا فيها على “عودة الباشا”(من ص66إلى ص104)، بسرد تاريخ موجز لسيرة وصيرورة الباشا بوزكري والباشا عبد السلام من الحضيض إلى المجد، من الضياع إلى الجبروت والتمكّن، وذلك بالموازاة والتشابك مع سرد تاريخي محكم يتقاطع فيه التاريخ والجغرافيا، السخرية والقدر، العبودية والشرف، الاستعمار والمقاومة، السلطان المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ، القبيلة والمخزن، الحركة الوطنية والقصر.
لقد هاجر الباشا عبد السلام إلى القاهرة، بعد هزيمته المدوية في انتخابات 1963، رفقة ابنه الأعمى طه، أو بالأحرى من أجل مصلحة ومستقبل ولي عهده هذا..
وقد كان هذا السياق مناسبة لكي يعرج السرد صوب المعمعان السياسي لمغرب بداية الستينيات(من القرن العشرين) وتأسيس جبهة لفديك.. محمد سيلقّب باسم “عاشور الصغير”، إلى جانب زملائه العميان الصغار الآخرين (بخاصة صدقي الصغير الذي صار صديقا لعاشور..وتوفيق الصغير الذي سيكون نقيضه..بل وعدمه..)، وهي ألقاب تحاكي ألقاب الكبار بالقاهرة، أو قل هي نسخ مغربية صغيرة ومشوّهة لهؤلاء الكبار. نسخ يراد بها استئناف ليالي القاهرة ببني ملال..
يخيم على “ليالي الباشا” أجواء الغناء المشرقي الكلاسيكي..ومناقشات حول مواضيع: الليل..(ص229) وطه حسين..(ص263) والعائلات الكبيرة..(ص277). مناقشات يكاد يطغى عليها الصوت الواحد..هذا الصوت الذي اعتقدت شلة الصغار، بأغلال العمى، أنه لحضرة الباشا، وذلك بإخراج مسرحي حاذق للحاج فرح خادم وحاجب وصوت الباشا، قبل أن يتمخّض “حضرته” عن مجرد حاج مخصي، كقط يحاكي انتفاخا صولة الأسد كما قال شاعر أندلسي في اسم أحد ملوك الطوائف.. ه- تندغم باقي فصول “المغاربة” ( لم تسمّيها الرواية فصولا، على غرار”يمكن أن تسمي هذا الفصل”، أو”شذرات” أو “هذيانات” أو “ليالي الباشا”..)، وتشكل غالبية متن الرواية، تندغم في فسيفساء السرد لكي تصل بين أطواره، وتضيء سراديبه، وتمهّد مسالكه، وتسمنت(من الإسمنت)معماره. وهي(فصول) يطغى فيها سرد محمد بضمير متكلم بوّاح أليم.
يعود العسكري في ” شذرات الموتى أحياء”(ص37) معطوبا، يتأبط العدم، وفيه غصة”حديقة البوكمازي”، رفيقه الذي أشعل حديقة صغيرة في ظلام الصحراء الرهيب، فهلك تاركا حديقته للهباء. وبعودته، التفّ عطبه بعمى أخيه محمد. خيّر الأخير بين عمى طه حسين، كما دوّنته سيرة الأيام..وبين سيرة سيدي الصاحب..أي بين العقل والقلب..بين سكون البحيرات وسكون المقبرة في “طه حسين والشيخ” (ص45). والد محمد والعسكري، تاجر زرابي والأمين العام لرحبتها، سيكون له شأن..في”مراسلاته الدولية”(ص63)إلى رئيس وزراء الهند..والرئيس الفرنسي فرنسوا تيميرو(بنطق الوالد)، أي ميتران، في إحالة ساخرة ومرّة إلى ما كان يفعله جهاز وزارة الداخلية بالناس ومعهم خلال أي أزمة طارئة، كما حدث هنا مع قصة كتاب (صديقنا الملك) لجيل بيرو. وتستفحل مرارة السخرية ويسودّ فحمها في “عودة الموتى”(ص137)،لما اكتشف عمال البناء مقبرة من الجماجم دون الهياكل. جماجم تفيد عرمرميتها أن الأمر يفيد ” حربا ضروسا أو قيامة صغيرة حدثت هنا فقط”(ص140). هذا الاكتشاف الغريب يشهد ويوثق لتاريخ مرير من التنكيل والفتك والجزّ..تاريخ يصل، بهذا الاكتشاف، الماضي- الحاضر.
وقد استدعى هذا الحدث وما خلّفه من أقاويل ووشوشات، إحضار”لجنة” من شخصين من العاصمة للمعاينة والفحص هما: الخبير الأركيولوجي، الأعمى، محمد البركه، هاملت.. ومساعده كمال الدندوني، هوراشيو..، شكّلا وفتحا في عتمة الرواية دهليزا جديدا صحبة العسكري أساسا..ومحمد أحيانا..دهليزا مؤثثا بالجماجم والشرب والسهر، وبكوميديا تراجيدية شكسبيرية شخّصها هاملت وهوراشيو، على خلفية أحلام/أوهام السبعينيات، ومأساة “الحبل”(ص189) الفظيعة، زمن سنوات الرصاص، التي تلاشت فيها أسرة الخبير كالرمل في رمضاء الشركي، والتي ما تزال(أي هذه المأساة) تطفو، مرة..مرة..، هيستيريا رهيبة في حياة الخبير..لذا رأينا السارد يسخر من”مسرحية” (طي صفحة الماضي) الرديئة التي كان ينقصها “مجرم واحد يجعل العرض مقبولا ومسليا بعض الشيء”(ص196). مع الخبير تلتقي غربة المحمدين، إذ يقول هاملت مخاطبا شبيهه محمد في “الغريبان”(ص274): “لا غريب إلا أنا وأنت(…)ولا محمد الغريب إلا أنت”(ص275)، وكأنه ينصحه بأن مصيره لا يوجد إلا في يده..في غريبه القريب الحميم من ذاته..أو قل في صميم ذاته..ذات محمد الغريب.
لقد أسفرت رحلة الخبير ومساعده صحبة الجماجم(رحلة أدواتها فقط ميزان ومسطرة ولصاق) عن تقرير، “تقرير حول الجماجم” (ص291). أغناه العسكري بإلمامه المحترم بالتاريخ المحلي، وخاصة تاريخ التنكيل والجزّ..تاريخ “يفيد” أن المقبرة قد تعود لكل تواريخ البلاد ماضيا وحاضرا..
وبعد “العشاء الأخير”(ص341)، ودّع الخبير ومساعده مهمتهما، وقد أقتسم الجميع “جسد المسيح الذي اتخذ شكل الخبز”، كما اقتسم”دمه الذي صار خمرا” كما قال العسكري الديونيزيوسي الغريب على المدينة والنائس بين الألم ومسرّة السكر..وكأن تاريخ الدم والخمر يكرر نفسه في عود أبدي.
ينطوي فصل “الكتابة”(ص143)على حوار عميق وعالم بين محمد والعسكري حول ماهية الكتابة. يريد العسكري تحطيم الأنساق بالكتابة الشذرية..فعنده “كل نسق جريمة واغتصاب”(ص144).
إن الشذرية “كتابة الصدع والدوي الهائل للانهيار، والجلبة البعيدة لحياة تمضي بعيدا عنّي” يقول العسكري(ص144).
قد لا نجازف إذا قلنا أن هذا الفصل(الكتابة) يشكل الصوت الباطني، الوجودي، المعطوب، المجنون، المتمرد، المتشظي، العدمي(فلسفة) للرواية. إنه البوصلة التائهة لعنوان الرواية، وميتا-كتابتها. إنه “كتابة ما بعد الكارثة..وما قبلها..”(ص146).
لعل “جنون العمى”، أو “عمى الحياة”، أو “زمن الجنون الكبير” يكاد يكون البؤرة المركزية للرواية، حتى أنه بالإمكان وسمها برواية العمى (على شاكلة أفلام العمى). فمن خلال السارد محمد الأعمى، أو بالأصح الذي أصيب بالعمى في سن الواحد والعشرين، قبضت الرواية، بنفس إبداعي ملفت ومتدفق، على شخصية الأعمى، وتوغلت في باطن نفسانية هواجسه، وشكوكه، وتحفظه، وعناده، واندفاعه، وتردده، ومونولوغاته.. بضمير متكلم بوّاح.. كشّاف.. وصّاف.. عدا أن للعمى في الرواية دلالات مركّبة ومتشعّبة تهم التاريخ والسياسة والسلطة والمجتمع. إنه العطب المغربي المزمن الذي يعتبر داؤه قديما..كما قال السلطان عبد الحفيظ.
ابتدأ نذير الحكاية أو “نذر الجحيم”(ص26) بموت الفلاح جد محمد كمدا على مصادرة أرضه من طرف الدولة التي ” لم تجد في الخلاء الفسيح المحيط بالمدينة غير حقله لتقيم مكانه تجزئة سكنية”(ص28). و وقعت الواقعة أخيرا، إذ حلت فاجعة العمى بمحمد “وأصبح العكاز حاجبه وطليعة خطاه وعينيه على المجهول”(ص159). انطلقت مكابداته للألم والحزن والوله، ولم يقلص من استفحالها لقب “عاشور الصغير” الذي صاره في “ليالي الباشا”، ولا الوظيفة التي حصل عليها بفضل حضرة الباشا.
ولعل قصة الحب العارم الجارف المدوّخ التي أصابته لوثتها بسطح البيت وهو يستحم في سلة القصب على بعد متر ونصف من العلوّ عن مستحمة ارتجّ وانخطف بسماع تاماوايتها الحزين الجوال في الجبال والمراعي والأودية، وأصبح مسكونا بغريزة الحب العمياء، يقلّب ويطارد “زونداكو”(مثل الدخان)، ويترقّب باحتراق هذا الأفق المجهول حتّى صمّم على رمي نرده..فكتب على ورقة”أنا محمد” و “قصدي شريف” ثم رماها..”وما رميت(…)إذ رميت(…)ولكن الله رمى..”(ص218)في علبة عادت إليه للتوّ، وبها خصلة مبلولة من شعرها. لكن سرّه لم يتأخر انكشافه..فصاحبته هذه خادمة عند الجيران واسمها (صفية).
لقد طردها صاحب البيت إلى أهلها، فاكتمل التبكيت على محمد وطفح خزيه. لقد سبق أن زاره طائر الوله، وهو ما يزال على قيد النظر، خلال زيارته للولي سيدي محمد الغريب الذي اهتدى إليه صدفة، وهو الذي أضناه البحث عنه في الطّواف عبر الأولياء والصالحين والزوايا والسلالات الحاكمة، بينما هو قريب إلى أذنه اليمنى..وكأنه لا غريب إلا هو..لقد أطلّت عليه في هذا الركن الساحر الذي يقبع فيه ضريح سيدي محمد الغريب، ايزابيل الإسبانية وأمدّته بتميمة/رسم- كتبت فيها “حتى لو..”(ص120)- سترافقه كنجمة في سديمه طيلة حياته، إلى جوار خصلة شعر صفية. لكن حب الأخيرة، الذي داهمه في العمى، كان حارقا..جارفا..ولا بديل عن وصله. وكأن “حتى لو..” ايزابيل لم يكن إلا طاقة أو بوصلة باتجاه”الذرى البعيدة والمتلفعة” لأطلال أو ديار صفية..
اقترح صدقي الصغير على صديقه عاشور توفيق الصغير(حسن أوشن) دليلا للبحث عن صفية، بالنظر إلى باعه الطويل في الاحتيال والسمسرة في كل شيء. سافر توفيق مع عاشور في رحلة مضنية إلى بوادي آيت بوكماز(“وحتى لو”..وخصلة الشعر لا تبارحان جيب محمد) حتى حلاّ ببيت صفية. وبعد المفاوضة، لم يكن هناك بدّ من أن يحمل محمد معه صفية في رحلة العودة، وهو الذي كان متأففا من هذه السرعة المفاجئة للأمر..وفي محطة الطاكسي ببني ملال طار النسر المحتال بصفية. وهكذا في برهة ومض الحلم..ثم هوى..مفسحا لمحمد حصاد الهباء..اشتد عليه الفقدان، ليس فقدان “الزمن فقط، بل فقدت معه الحافز والغريزة”(ص227). وغرق في كوابيس سوداء دامية، بل وفي “العدم المطلق”(ص330) حيث لزم مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، وصارت “روحه المخرّبة” لا تذعن لغير الأدوية بلسما.
بعد المستشفى قرّر الهجوم بالمرابطة والاعتصام أمام دار المحتال.
اكتشف العسكري أن (صفيه) هي ابنة عسو البوكمازي رفيقه الجندي الذي واجه سراب الصحراء بندى ميكرو-حديقة، لكن رفاقه تركوها لعبث الرمل، فطفح العسكري وعربد ثم قرّر الانتقام لحديقة البوكمازي وابنته، ولأخيه محمد.. وكأنه لم يرض بأن يكون مصير صفية ومحمد، هو نفسه مصير البوكمازي وحديقته.
ضاق المحتال ذرعا بحصار محمد..حتى وقعت الواقعة..واستوت دلالة “حتى لو..” في ذهن الأخير.. وتوهّجت خصلة الشعر في يده كفكرة تستحقّ التلاشي والانمحاء..وهكذا فرّقت”الأهواء وحب النفس” بين عاشور وتوفيق، بعد أن وحّدتهم “عزلة العمى وبؤسه العميق”(ص8)..فخمدت شعلة التاماوين تحت كثبان الرماد.
4 – ينهض السرد في “المغاربة”، من خلال الأخوين المعاقين محمد والعسكري، على ثقافة واسعة غنيّة متنوعة ذكية وعميقة. ليس فقط عبر التناص والتثاقف الذي تقوم عليه لعب السرد باستحضار نصوص تاريخية شاهدة.. و”أيام” طه حسين وسوزان..والمصير التراجيدي لرجال المعتوه أبوالخيزران في (رجال في الشمس)..وحكاية انتقام ملك الفرس قمبيز من سميتاك ملك مصر..والنصوص الغنائية المشرقية والمغربية..والحكايات المأثورة (مثل ما وقع للمعطي النجار)..وشخصية داعية أو مجذوب اليوم ابن تومرت التي تتخلل المتن سبّا وشتما في الجميع بعد أن جرّ عليه سبّ الملك، سنتين حبسا، والأهم ترديده الببغاوي للازمة “عاش الملك، عاشت المقدسات” بعد كل وجبة سبّ في الملأ وعليه..ليس فقط عبر هذا، ولكن وأساسا عبر رؤية الساردين المثقفة الذكية والناقدة للعالم.
وإذا كانت اللغة الشعرية تتوسّل في بلاغتها فنون الاستعارة والمجاز، فإن أسلوب ولغة “المغاربة” ينطويان على بلاغة وصفية حادّة.. مصيبة.. متوافقة.. مستبطنة.. متناغمة مع الأحاسيس والحالات والنعوت والمواقف والمواقع.. ولعل ما يسترعي الذوق في قراءة “المغاربة”، أيضا، هو غنى بلاغة التشبيه فيها، وذلك عبر الاستعمال الكثيف والمتواتر لأدوات التشبيه(ك..مثل..) ثم عمق وإبداعية المشبّه به..ثم عبر التشبيه المرادف، مباشرة دون أدوات، للأوصاف والحالات والنعوت والمواقف.
هذا التشبيه، عدا أنه يعكس الخلفية الثقافية الثرية للسرد، كما أسلفنا، فإنه يقوم بوظائف الإغناء.. والإضاءة.. والشرح..والتعليق..والاختصار..و..و..
مما جعله ثروة تعبيرية غنية جميلة وموصلة في الرواية.

هامش:
*عبد الكريم جويطي. المغاربة. الطبعة الأولى، 2016. المركز الثقافي العربي- المغرب.

Related posts

Top