المغرب الكبير أفقا للتفكير

بإشراف من الكاتب والباحث الأكاديمي المغربي عبد الغني فنان، صدر ضمن منشورات AimanceSud بمدينة مراكش المؤلف الجماعي الموسوم بـ: “التصوير في المغرب: رهانات رمزية وإبداعات فنية” La Photographie au Maghreb :enjeuxsymboliques et créationsartistiques في يناير 2018.
هذا الكتاب هو الأول من نوعه في العالم العربي بعدما ظل موضوع التصوير منذ أمد طويل حبيس أفكار إيديولوجية ومعيقات سياسية وثقافية واجتماعية، تمنعه من البروز بقوة وتصده عن التعبير عن ذواته.
يقع الكتاب ضمن نفس التوجه وضمن نفس الاهتمام الذي خصصه بعض المفكرين والكتاب لمسألة المغرب الكبير، أمثال جاك دريدا وعبد الكبير الخطيبي وعبد الوهاب مؤدب. هؤلاء الكتاب والمفكرين أعطوا مكانة بارزة للعلامة والصورة والفن في كتاباتهم.
وجبت الإشارة أيضا إلى أن هذا المؤلف يلبي بصيغة أو بأخرى حلم المغرب الكبير الذي لطالما راود الخطيبي وفرانز فانون، وذلك عبر المساهمة في تحقيق الاعتراف بأهمية الصورة التي ظلت منذ مدة طويلة تمارس من طرف جماعة محدودة من المهتمين.
يسعى هذا الكتاب المتخصص المكون من 352 صفحة إلى توصيف عالم التصوير المغاربي، باعتباره مجالا متعددا وهجينا ومنفتحا، وباعتباره حاملا لمكونات التقليد والحداثة. ولمقاربة هذه المحاور ولتناول الإشكاليات التي يطرحها التصوير المغاربي من زوايا مختلفة، تمت الدعوة إلى نخبة مميزة من الكتاب والباحثين المتخصصين في فن التصوير أو الذين لهم معرفة عميقة بفن التصوير وكذا بعض المصورين المغاربيين من أجل المساهمة في هذا الكتاب وإغنائه. وعهد إلى لجنة علمية قام بتشكيلها عبد الغني فنان المشرف على الكتاب، بدراسة وانتقاء المقالات والدراسات الواردة عليها. وبالتالي فالأسماء التي تم حصرها في هذا الكتاب، تتشكل من نقاد في فن التصوير ومن مناديب معارض مخصصة إلى التصوير، ومن مدراء مهرجانات التصوير.
من بين الأسماء التي شاركت في هذا المؤلف الهام: حميد الدين بوعلي، بهية أوخلاخ، أنيسة يلس، رشيدة التريكي، فاطمة مزموز، نادرة لاجونة- أكلوش، جان فرانسوا كليمنت، جيرالدين ميلو، برنارد ميليت، محمد رشيد، لور موغيس، مولاي محمد سعد، فاطمة زران، كريستيان كوجولي، بالإضافة طبعا إلى مهندس الكتاب عبد الغني فنان الذي افتتح الكتاب بمقدمة مركزة، تجمع ما بين الجانب التاريخي لفن التصوير ومابين السمات العلمية والثقافية والجمالية لهذا الفن.
ويؤكد الباحث المغربي عبد الغني فنان على أن التصوير تم توظيفه لأول مرة في المغرب الكبير من أجل خدمة الاستعمار، ثم فيما بعد في خدمة الأنظمة السياسية التي جاءت بعد الاستقلال.
أصبح التصوير حينئذ شكلاً من أشكال الوعي القومي ورؤية حداثية للاستخدام السياسي. لم تتم الأمور بالشكل الصحيح، حيث تم احتكار التصوير من طرف الجهاز الحاكم. فقط رئيس الدولة من له الحق في التصوير. الاحتكار كان ملازما بالتالي إلى منطق القوة.
موضوع التصوير في المغرب الكبير يتيح بانوراما شاسعة حول الخصوصيات والتوترات الخاصة بهذه الوسيلة المتقدمة في البلدان الإسلامية: الحجاب / الكشف، صورة الفهرس / التقاليد غير التصويرية، نقد الفن / الفن، الرقابة / التحرر السياسي والديني، النظر إليه / الفئات الاجتماعية / التي تتم مراقبتها / ظهور الموضوع، القمع / الذاكرة، الاستعمار/ ما بعد الاستعمار، التوطين / الشتات.
تطور مجال التصوير، على الرغم من أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به في النشر والأرشفة والإرسال والبحث والمعارض والمراجعات المتخصصة من أجل جعل التصوير الفوتوغرافي قيمة سوقية. ومع ذلك ، تعرض المعارض في المغرب الكبير عددًا أكبر من المصورين، تتضاعف الأحداث المخصصة للتصوير، في المغرب أكثر من تونس أو الجزائر.
إذا كانت الصورة علامة فنية وخطابا في حد ذاته، وباعتباره يحمل رسائل متنوعة تتخللها بالضرورة إيديولوجيا أو إيديولوجيات مختلفة، فإن الكتاب في عمقه هو محاولة لتناول موضوع التصوير بعيدا عن سلطة الإيديولوجيا. التصوير يندرج ضمن عالم مفتوح نحو الحرية بمعناها الرمزي والمادي.
هندسة هذا الكتاب المتفرد تتوزع ضمن أربعة أقسام أو فصول، تحوم حول التصوير القديم والتصوير المعاصر،
والتصوير والتعبيرات الفنية الأخرى، ثم التصوير والمجتمع. هذه الأقسام تم تصنيفها بشكل علمي ونقدي طبقا لمحتوى المساهمات وانسجاما كذلك مع تكوين واهتمامات المشاركين في هذا الكتاب.
بالإضافة إلى المقال العميق والمفصل للباحث عبد الغني فنان، فإن هذا المؤلف يضم دراسات رصينة ومتنوعة بتنوع الثقافات التي يزغ ربها هذا المغرب المتعدد. فمن تونس مثلا يساهم الباحث حميد الدين بوعلي بدراسة تقف عند أهم العناصر التي يمكن أن تشكل منطلقا لتاريخ التصوير في تونس.
أما الأستاذة نديرة أكلوش فتتناول في دراستها التصوير في الجزائر من خلال الصورة والوثيقة. وبخصوص الباحث محمد راشدي، فإنه تناول في مساهمته استعمال التصوير في أعمال الفنانين المغاربة المعاصرين.
بالإضافة إلى هذه الدراسات التي تم ذكرها سلفا، يحتوي الكتاب على مقالات تحمل مواضيع وقضايا هامة ترتبط مثلا بتاريخ التصـوير في المغرب Le maghreb وعلاقة التصوير بالثورة والتصوير الفني والسياحي بالمغرب وعلاقة التصوير بالأدب وغيرها من الدراسات القيمة والمواضيع الغنية التي يزخر بها المؤلف العلمي الرصين، والذي يبرز مدى المجهود العلمي والفني الذي بذله الباحث عبد الغني فنان.
من أهم السمات التي تضفي على هذا المؤلف نوعا من الجدة والتميز أنه يتناول بالدراسة والتحليل مجال التصوير في بلدان المغرب الكبير ابتداء من القرن التاسع عشر إلى اليوم. وهي فترة زمنية طويلة وتقتضي مجهودا علميا ونفسا شاسعا للكتابة من أجل مقاربتها بشكل دقيق.
ومن جهة أخرى، يتخذ هذا الكتاب من بعض الصور القديمة التي تحمل قيمة رمزية وقوة اعتبارية، منطلقا لتدشين مشروع علمي يتأسس على الصورة في ثلاثة بلدان تشكل العمود الفقري للمغرب الغني بثقافاته وهي بلدان المغرب وتونس والجزائر. هناك حضور لفرنسا أيضا من خلال الأستاذة رشيدة التريكي.
ومن بين الصور التاريخية الفريدة التي يضمها الكتاب، صورة للسلطان مولاي عبد العزيز التقطها له المهندس الفرنسي Gabriel Veyre. ويشير الباحث عبد الغني فنان بأن السلطان عبد العزيز كان يجد متعة كبيرة في أخذ صور بقصره.
خصوصية أخرى تميز هذا المؤلف، تتمثل في كون الخط العلمي الذي يتحرك وفق ثناياه، ينطلق من مقاربة التطور الذي طرأ على التصوير في هذه الدول المغاربية بدأ من القرن التاسع عشر من خلال صورة الملك مولاي عبد العزيز. المؤلف أيضا يستمد مرجعيتة من الداراسات المابعدكولونيالية من خلال انتقاء بعض الصور التي التقطت في مرحلة الاستعمار الفرنسي مثلا.
إذن، فهذا المؤلف الذي يتناول عوالم بلدان المغرب المتنوعة من خلال الصورة، يسعى من خلاله مهندسه الباحث عبد الغني فنان، تدشين خطاب تأخر لمدة قرنين من الزمن. وبالتالي، فأصالة وجدة هذا المشروع العلمي ثابتة. ويشكل الكتاب بدون شك لبنة أساسية نحو إنجاز أبحاث ودراسات علمية أخرى في المستقبل كما يأمل ذلك عبد الغني فنان.
في الأخير، لا بد من التنويه بالمجهود العلمي الاستثنائي الذي بذله الباحث الأكاديمي والشاعر عبد الغني فنان في إخراج هذا المؤلف الجماعي بهذه الحلة الجميلة والتي تترجم بشكل دقيق أهمية التصوير وقيمته الفنية والعلمية.
التصوير، كما يسعى هذا المؤلف النوعي توضيحه، ليس نشاطا فرديا عاديا أو ترفا معرفيا عابرا أو هواية بسيطة فقط ، تنتهي في الزمان وفي المكان، بل إن عمقه متجدر في صيانة الأثر بمعناه الرمزي والمادي، وفي حفظه للذاكرة الجماعية لشعوب المغرب وتونس والجزائر وغيرها من بلدان المغرب الكبير.

  بقلم: مراد الخطيبي

Related posts

Top