المغرب ما بعد جائحة كورونا: أي مخرج من الأزمة؟

محاربة اقتصاد الريع هو التغيير الأكبر الذي ينبغي القيام به

حان الوقت لصحوة ثقافية قوية من أجل محاربة الفكر الظلامي والمنغلق والتقليداني

حوالي ثلاثة ملايين ونصف أسرة، أي سبعة عشر مليون مغربيا يعيشون في وضعية فقر ويحتاجون إلى مساعدة

من المخارج الممكنة والمطلوبة هي إعادة النظر في نمط حياتنا ونمط إنتاجنا واستهلاكنا وفي نمط تفكيرنا

الإصلاح الضريبي اليوم مستعجل

دور الدولة يهم أساسا كل ما هو اجتماعي فالقطاعات الاجتماعية لا ينبغي التعامل معها كسلعة خاضعة للتبضيع

لا يمكن تسليم مفاتيح الاقتصاد للبرجوازية الريعية

بعض مظاهر ومؤشرات الأزمة
ما عبر عنه المغاربة من روح تضامنية عالية يشكل حافزا لنا كشعب لتجاوز الوضعية المترتبة عن جائحة كورونا.. وقبل استشراف وطرح بعض الخطوط العريضة للتفكير حول المهام التي تنتظرنا بعد مُضي هذه الجائحة لابد أن أشير، ولو باختصار، إلى بعض القضايا والإشكاليات العميقة التي كانت سائدة ومعروفة ونبهنا إليها مرارا.
يتعلق الأمر أولا بالجوانب الاجتماعية التي جاءت هذه الجائحة لكشفها بشكل أكبر، لدرجة أن الجميع أصبح يُــقر بالهفوات وأنواع الهشاشة المختلفة التي يعاني منها شعبنا ومجتمعنا.
لنأخذ مثال قطاع التعليم، فقد تبين لنا من خلال عملية التعليم عن بُعد مدى التفاوتات الكبيرة الموجودة، حيث حُرم أطفال المناطق النائية وضواحي المدن، كليا أو جزئيا، من متابعة دروسهم عبر هذه الطريقة، بالنظر إلى افتقارهم للوسائل الضرورية.
كما تبينت بوضوح الهشاشة الاجتماعية والبطالة التي تخترق المجتمع، إضافة إلى سيادة القطاع اللاشكلي، وانتشار السكن غير اللائق الذي صَعَّبَ من الالتزام بإجراءات الحجر الصحي وبتنفيذ التباعد الاجتماعي، بل وظهرت استحالة ذلك أحيانا، وذلك بسبب ضيق الحيز المكاني وانعدام الشروط الأدنى للحياة مع تواجد عدة أفراد، وأحيانا عدة أُسر في مكان ضيق بالأحياء الشعبية.
إنها إشكاليات عميقة تُسائلنا وتُسائل المجتمع، وتطرح مسألة المسؤولية، مسؤولية الجميع، خاصة الدولة، في تقييم المرحلة الممتدة منذ الاستقلال الى اليوم، حيث لم نتمكن من إيجاد بدائل اجتماعية تكون لها مصداقية أكبر ونجاعة أعمق لحماية بلدنا من هذه الأوضاع المأساوية.
ولأننا لسنا سوداويين في النظرة والتحليل، فنحن ندرك مدى الجهد الذي بُذل، خاصة خلال السنوات الأخيرة، لكن هذا الجهد ظل دون المستوى المطلوب، ليس الجهد من أجل العيش في رفاهية، بل فقط لضمان الحد الأدنى للحياة الكريمة، وقد اطلعنا على العرض الذي قدمه السيد وزير المالية في البرلمان مؤخرا، وأدلى من خلاله ببعض الأرقام الصادمة.
نعم، قامت الدولة بفضل المبادرة الملكية السامية، بإحداث صندوق التضامن لمواجهة الجائحة، وهي مسألة في غاية الأهمية، حيث بلغت موارد هذا الصندوق إلى حد الآن أزيد من ثلاثين مليار درهما.
ومع ذلك، لننظر الى عدد الأسر التي تحتاج لمساعدة الصندوق: إنها حوالي ثلاثة ملايين ونصف أسرة، بما يعني أن سبعة عشر مليون مغربيا، أي أن ما يزيد عن نصف عدد السكان يعيش في وضعية فقر ويحتاج إلى المساعدة، وهذا الرقم لابد من التوقف عنده، وبالتالي فإن أي حلول مستقبلية لابد أن تأخذ هذا المؤشر بعين الاعتبار.
ثم إن المبلغ الذي تم التمكن من جمعه في هذا الصندوق يكفي لشهر مارس الذي مضى وشهر أبريل وشهر ماي، ومن غير المؤكد أنه يستطيع تغطية شهر يونيو، علما أنه لا نعرف لحد الآن متى سنخرج من الحجر الصحي.. فالمشكل إذن سيُطرح بحدة قريبا، ذلك أن الأزمة الصحية عمقت الأزمة الاقتصادية، ومن المؤكد أنها ستعمق أكثر الأزمة الاجتماعية.
فالتقييم الأخير الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط يشير الى أن المغرب خسر حوالي ثلاثين مليار درهما، أي 3٪ من الناتج الداخلي الخام، ويُتوقع أن يخسر 9٪ خلال ثلاثة أشهر، أي ما يعادل تسعين مليار درهما في الحد الأدنى.

بعض عناصر التفكير في سُبُل تجاوز الأزمة؟
اولا، نعتقد أن المعالجة يجب أن تكون جماعية ووطنية (أي على الصعيد الوطني)، دون حسابات سياسية، فمصلحة بلادنا فوق أي اعتبار وتتجاوز المصالح الفئوية. ولأننا نعيش قضايا من الأهمية والصعوبة بمكان، فإنه من واجبنا قول الحقيقة بكل صراحة ووضوح، وبدون تهويل.
انطلاقا من هذه الوضعية التي نعيشها، ومما توصلنا إلى معرفته سابقا، ما هي المخارج الممكنة؟
إن نموذجنا التنموي متآكل ومُستنفَذ وغير قادر على تقديم حلول أكثر مما أعطى لحد الآن، واللجنة التي تشتغل على بلورة نموذج تنموي جديد تواصل عملها، وقد تحترم الأجل المحدد لها لتقديم تقريرها في متم شهر يونيو، لكن الظروف المستجدة مُناسبِة للاستماع والمراجعة واستيعاب هذه الظرفية وتداعياتها لتقديم حلول وطنية لإنقاذ بلادنا.
ومن المخارج الممكنة والمطلوبة هي إعادة النظر في نمط حياتنا ونمط إنتاجنا واستهلاكنا، بل وفي نمط تفكيرنا.
علينا أن لا نخضع للمنطق الرأسمالي المحض، ولا نخضع لمنطق العولمة الذي يجعلنا نأخذ طريقا سيارا دون أن نعرف متى سوف نصل، لابد أن نغير طريقة الإنتاج بإعطاء الأولوية لإنتاج ما هو ضروري لحياة المواطن والتخلي عن الكماليات، لضمان الحد الأدنى من الاستقلال والاكتفاء الذاتي في المواد الضرورية، خاصة المواد الغذائية والأدوية، فنحن نرى كيف أن بلدانا صناعية كبرى أصبحت عاجزة عن إنتاج الكمامات وآلات التنفس الاصطناعي ومواد التعقيم ومنتوجات بديهية أخرى.
ها نحن نرى كيف أننا مضطرون اليوم لاستيراد ثلاثين مليون قنطارا من القمح، في ظل الجفاف الذي تعرفه بلادنا هذه السنة، حيث لن نتمكن من إنتاج سوى 30 مليون قنطارا في حين أننا نستهلك ما بين 60 و70 مليون قنطارا سنويا، ضف إلى ذلك أن المبادلات التجارية شبه متوقفة، وثمن الحبوب ارتفع في السوق الدولية، وبالتالي سنؤدي الثمن غاليا لأننا لم نُعِد العُدة لإنتاج هذه المادة الحيوية وتأمين الاكتفاء الذاتي منها.
نفس الأمر بالنسبة للأدوية، فلا يمكن أن نظل مرتبطين بالخارج، وقس على ذلك في كل ما يتعلق بالمواد الضرورية للحياة.
علينا، إذن، أن ننتج السلع الاستهلاكية عوض السلع التبادلية، أي ما هو نافع وضروري للمواطن، وهذه مسألة أساسية في نمطنا الإنتاجي البديل.
فلقد سرنا في طريق العولمة وأصبحنا ننتج حسب التخصص، أو ما يسمى بالامتيازات المقارنة، مثل إنتاج الحوامض والطماطم، وبالمقابل اعتبرنا أن القمح مثلا متوفر في السوق الدولية وبأسعار رخيصة، ولا حاجة بالتالي إلى تركيز الإنتاج على هذه المادة الحيوية!
ونفس الشيء بالنسبة لمادة السكر، فقد كنا ننتج في ستينيات القرن الماضي ما يفوق 60٪ من حاجياتنا، أما اليوم فننتج اقل من هذه النسبة، وبالتالي صرنا أمام عجز في الاكتفاء الذاتي من هذه المادة.
كل ذلك جعلنا نؤدي سنويا فاتورة غذائية بما معدله ثلاثين مليار درهما، علما أن ما نُصَدِّرُه من المواد الفلاحية أقل بكثير من مبلغ هذا الغلاف المالي.
لدينا إذن عجز غذائي فادح، ولا يمكن الاستمرار في هذه الوضعية.
مسألة أخرى تتطلب نقاشا عميقا، وهي الشفافية في الاقتصاد ومحاربة الريع: فعلا هناك مجهود يُبذل بهذا الخصوص، لكن ما تزال عدد من الامتيازات تُعطى بشكل غير مقبول.
فثمة امتيازات جبائية غير مقبولة وغير مجدية تُمنحُ للمنعشين العقاريين (ما بين 27 و30 مليون درهما) دون أن يستفيد المواطن من هذه الامتيازات.
أضِفْ إلى ذلك رخصاً عديدة مثل رخص المقالع، ورخص النقل الطرقي، ورخص النقل الحضري، ورخص التصدير والاستيراد، وغيرها مما يندرج ضمن اقتصاد الريع المذر للربح دون جهد، من قبيل رخص الطاكسي الصغير، حيث في هذا القطاع يؤدي السائق يوميا مبالغ مالية لمن لا يقوم بأي جهد، فمالك الرخصة (كريما) يكريها لشخص يملك المال، وهذا الأخير يكريها للسائق: أُنظر كم عدد الوسطاء والطفيليين، في حين كان من المفروض منح الرخصة مباشرة للسائق، هذا ريع لم يعد مقبولا اليوم!!
ثم هناك مسألة هيكلة الاقتصاد، فليست هناك منافسة حقيقية، إذ توجد قطاعات استراتيجية بدون منافسة فعلية، مثل قطاع الهيدروكاربونات حيث المنافسة شكلية بين محطات توزيع الوقود التي تبيع عمليا بنفس السعر، وكذلك الشأن بالنسبة للقطاع البنكي حيث أن كل الأبناك المهيمنة تضع نفس المعايير ونفس نسب الفائدة، وهو ما يسمى احتكار القلة المنسق/ oligopole coordonné.
فإذا أردنا فعلا تنمية الاقتصاد، لابد من تجاوز هذه الوضعية، ولابد من دعم نساء ورجال أعمال شباب يرغبون في تكوين مقاولات وتنمية الاقتصاد، دون أن يصطدموا بحواجز تدفع بعضهم إلى مغادرة البلاد إلى بلدان أخرى، وهو ما يشكل خسارة لبلدنا.
فالبورجوازية التي يمكن الاعتماد عليها هي هذه البرجوازية الشابة والمكونة والمؤمنة بالجهد والابتكار وليس بالريع، ومثل هذه البرجوازية هي التي مكنت بلدان متقدمة من التنمية، وليس (مول الشكارة) الناشط فقط في المضاربة والرخص وربح الأموال بدون جهد، فاقتصاد الريع يشكل خطرا حقيقيا على الاقتصاد والمجتمع، وقد شكَّلَ شبكة عنكبوتية لنهب خيرات البلاد.. إن محاربة اقتصاد الريع هو التغيير الأكبر الذي ينبغي القيام به.
لكن من سيقوم بهذا التغيير؟
القوانين لوحدها غير كافية، فثمة قوانين مهمة لكنها ظلت حبرا على ورق دون تطبيقٍ كافٍ.. إننا في حاجة إلى دولة قوية اقتصاديا وحامية اجتماعيا، دولة عصرية وديمقراطية، وبقطاع عام قوي، فلا يمكن تسليم مفاتيح الاقتصاد للبرجوازية الريعية.
دور الدولة يهم أساسا كل ما هو اجتماعي، فالقطاعات الاجتماعية لا ينبغي التعامل معها كسلعة خاضعة للتبضيع.
على الدولة تقديم تعليم بجودة عالية وبالمجان للجميع، فقراء وأغنياء، لأجل تكافؤ الفرص، وينطبق نفس الشيء على الصحة وعلى النقل العمومي، فهناك اليوم بلدان متقدمة شرعت في تقديم خدمات النقل العمومي بالمجان لتشجيع المواطنين على التخلي عن سياراتهم الخاصة لمحاربة التلوث ولضمان سلاسة التنقل، وهذا بُعد هام لابد من استحضاره.
هناك أيضا قطاعات استراتيجية لا يجب أن تكون في أيدي الخواص، مثل الطاقة، حيث بهذا الخصوص على الدولة أن تقوم في أقرب الآجال باستعادة شركة تكرير النفط (لاسمير) وإعادة تشغيلها، فخوصصة هذه الشركة كان خطأً فادحا، وتمت في ظروف غامضة.. ودون الرجوع إلى الماضي فإن الأهم الآن هو المستقبل الذي يفرض استرجاع هذا القطاع الاستراتيجي.
وينبغي استبعاد التفكير في خوصصة أي قطاع ذي بُعد استراتيجي، مثل الخطوط الملكية المغربية التي يجب أن تظل في يد الدولة، فالشركة هي التي تربط بلدنا بباقي بلدان قارتنا الإفريقية، ونصف رحلاتها يتم مع الدول الإفريقية، ونحن لدينا اليوم علاقات استراتيجية مع هذه البلدان والتي علينا تطويرها أكثر، وهو ما لا يمكن أن يتم كما يجب بدون خطوط للنقل الجوي تمتلكها الدولة.
وهناك أيضا قطاع أساسي وهو قطاع الاتصالات اللاسلكية والرقمية، فهذا القطاع يطرح إشكالاتٍ بعضها ذو طبيعة أمنية، وبالتالي لا يمكن تسليمه للخواص حتى لا يتم التلاعب به.. نحن لا نشكك في أحد، لكن لابد من الحذر لأن هذا القطاع ينطوي على عدة مخاطر، وبالتالي لابد أن تكون السلطة العمومية هي المتحكمة فيه.
فالخوصصة، عموما، جاءت في ظروف كانت فيه بمثابة موضة، لكن حدثت مستجدات تفرض مراجعة هذا التوجه، فحتى في الدول الغربية هناك تفكير في تأميم عدد من القطاعات والتراجع عن الخوصصة.
مخرج آخر للازمة هو حل مشكلة البطالة، فأرقام البطالة قبل الجائحة كانت تشير الى وجود مليون و100 ألف عاطل، وأنا أشك في هذا الرقم عن دراية بالموضوع، فلدينا معدل ضعيف لعمل النساء، والمفروض أن تساهم المرأة المغربية في النشاط الاقتصادي، كما لدينا ما يسمى بالتشغيل القاصر أو الهش، في العالم القروي خاصة، وأيضا لدينا البطالة المُقَنَّعَة، حيث ظاهريا هناك عمل لكن في الجوهر بدون إنتاج، وبالتالي فإن عدد العاطلين يمكن تقديره في ما بين ثلاثة إلى أربعة ملاين شخصا.
علينا إذن الاجتهاد لتشغيل العاطلين، حيث فعلا هناك تحريك لبعض القطاعات مثل الانعاش الوطني وقطاع الخدمات، لكن ذلك يظل غير كاف.
لذلك، علينا أن نتجه إلى القطاعات التي تُشغل اليد العاملة أكثر من الرأسمال، وهذه الإشكالية سماها المفكر الاقتصادي الراحل عزيز بلال بـ “الاستثمار المعتمِد على العمل”، وهو التوجه الذي عملت به عدد من البلدان المتقدمة قبل الانتقال إلى التصنيع المكثف.
فقطاع الصناعة التقليدية يمكن أن يشغل أعدادا هامة من اليد العاملة، وكذلك الشأن بالنسبة للاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وقطاع الفلاحة، وقطاع الخدمات عن قرب (تقديم خدمات للمسنين وذوي الحاجيات الخاصة مثلا)، ومحاربة التلوث وتنظيف الشواطئ، وغرس الأشجار لإعادة وتجديد الغطاء النباتي… إلخ.
أيضا، تُعد محاربة الأمية مخرجا آخر للحد من البطالة، وقد سبق لنا في حزب التقدم والاشتراكية أن تقدمنا بمقترح ما زالت له راهنيته، وهو إنشاء جيش المعرفة لمحاربة الأمية، فلا يعقل في هذا العصر، عصر الرقمنة، استمرار نسبة الأمية كما هي عليه الآن، سواء كانت أمية جزئية أو كاملة، (وهي نسبة محددة اليوم في 30٪ حسب إحصائيات رسمية).
إن عملية محو الأمية غير مكلفة كثيرا، فلدينا عدد كبير من حاملي الشهادات يعانون من البطالة، ومقترحنا هو إنجاز عقود مع هؤلاء الشباب للقيام بعمل تطوعي لمحاربة الأمية لمدة سنتين أو ثلاث سنوات، مقابل تعويض يُقدر بنحو ألفي درهما أو ثلاثة آلاف درهما، وهو ما سيكلف حوالي مليار درهما في السنة، وهو مبلغ ضئيل إذا ما قارناه مثلا بما نقدمه اليوم للمحتاجين، حيث بلغ حوالي ستة ملايير درهما في شهر واحد فقط. إن المطلوب فقط هو توفر الإرادة، وعندما تكون هناك إرادة لحل مشكلة يتم إيجاد وسائل الحل.
مسألة أخرى أساسية، وهي تمويل الاقتصاد، إذ أن هناك ثلاث وسائل أساسية لهذا التمويل:
الرافعة الأولى، هي الرافعة الجبائية، فلو قمنا بالإصلاح الضريبي في حينه ولم يتم التسويف لكنا في وضع أفضل، ما وقع قد وقع، ولابد من إيجاد حل، والحل هو تسريع الإصلاح الضريبي حتى يساهم كل المواطنين، كل حسب استطاعته، في مجهود الدولة.
فاليوم مُعظم موارد الضرائب تأتي من المأجورين والموظفين، لأن الاقتطاع الضريبي هنا يتم من المنبع، في حين نجد أن عددا من الشركات تغش أو تتملص من أداء الضرائب المفروضة عليها، و2٪ فقط من الشركات تؤدي حوالي 80٪ من الضريبة على الشركات، وأغلبها شركات عمومية وليست خاصة.. إنه أمر غير مقبول، وأتمنى أن يدرك رجال الأعمال المتملصون من أداء الضرائب أن مصلحتهم تكمن في الأداء، لأنهم بحاجة هم أيضا إلى دولة قوية تحمي أعمالهم.
والذين استفادوا لسنوات وراكموا ثروات ضخمة في شتى المجالات عليهم الآن أداء الواجب ليبرهنوا على حد أدنى من التضامن في هذه المرحلة الصعبة التي تمر منها بلادنا.
إن الاصلاح الضريبي اليوم مستعجل، وهو إصلاح يمكن أن يساهم في خلق تعبئة وطنية وثقة، إصلاح قائم على الشفافية وعلى التصاعدية، وحسب قدرة كل ملزم، إصلاح يعتمد على إعفاء حد أدنى من الدخل من أداء الضرائب، وعلى توسيع الوعاء الضريبي، ومحاربة التملص والتهرب من الأداء، وإلزامية الأداء في “القطاع اللاشكلي الكبير”، والذي لا يصرح لا بالعمال ولا بالمداخيل، فلا يمكن بناء اقتصاد قوي ودولة قوية بدون هذا الإصلاح.. إننا نشكو من ضعف في الميزانية، ولابد من حلول لتجاوز هذا الضعف.
أيضا، من الحلول الممكنة: السماح بارتفاع عجز الميزانية، فعدد من الدول تجاوزت معايير ماسترخت التي حددت العجز المقبول في حد 3٪، ففرنسا مثلا وصلت إلى أكثر من 7٪ من العجز وقد تصل الى 10٪.
فعلا نحن ليست لدينا القوة الاقتصادية التي لدى فرنسا أو اليابان، لكن في نفس الوقت لسنا مضطرين إلى الالتزام بنسبة 3٪ كحد أقصى، فيمكن أن نصل حتى إلى 6٪ من العجز، وهذا لا يضر لأنه مؤقت، شريطة أن لا يُخصص الدَّين للتسيير، بل للاستثمار في قضايا أساسية تعود بالنفع، ومعلوم في علم الاقتصاد أنه عندما يستثمر واحد يصبح بعد بضع سنوات خمسة، وهو ما يسمى بالمفاعيل الاستدراجية.
رافعة أخرى ممكنة، وهي الرافعة النقدية، حيث هناك طريقة طبع نقود إضافية، لكن لهذه الطريقة سلبيةً أساسية وهي التضخم المؤدي إلى ارتفاع الأسعار، هذا يكون أحيانا محفزا على النمو إذا لم يصل لحدود عليا ولا يتجاوز 3٪ لمدة سنتين أو ثلاث سنوات لحين حل الأزمة، وبشكل استثنائي، ففي الأوضاع الاستثنائية يمكن أن نلجأ إلى تدابير استثنائية.
لابد كذلك من معالجة وضعية المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تضررت من الجائحة، وهي حوالي 130 ألف مقاولة، وهو عدد قد يزداد حسب تطور الوضع، وإفلاس عدد كبير من المقاولات ليس من مصلحة أحد، لما تقدمه في مجال التشغيل وخلق الثروة، فلابد من مساعدة هذه المقاولات وتوجيهها للأنشطة المرتبطة بالسوق الداخلي.
فخلال سنتين أو ثلاث سنوات ستتراجع المبادلات الخارجية، وكل الدول ستعمل على تقوية أسواقها الداخلية، وبالتالي فإن صادراتنا ستتأثر بهذا الوضع، وسيكون لذلك تأثير على مداخيلنا من العملة الصعبة، وتحويلات عمالنا المهاجرين ستنخفض، وقطاع السياحة الذي هو أحد مصادر العملة الصعبة قد توقف عمليا.. كل ذلك يجعل رصيدنا من العملة الصعبة ينخفض، مما يفرض علينا بعض التدابير، ومنها أن تكون لنا سياسة صارمة في التجارة الخارجية، فلا ينبغي أن نستورد من الخارج إلا ما هو ضروري، والضروري الآن هو المواد الغذائية التي لدينا فيها نقص مثل الحبوب والسكر والزيت، والمواد البترولية التي لا نتوفر عليها، وبعض وسائل التجهيز الصناعي لأننا لا ننتج الآلات.
وبهذا الخصوص، أكرر ما سبق أن أكدناه مرارا من أن الصناعة التي نتوفر عليها ليست صناعة وطنية حقيقية، وأتحدث هنا عن صناعات مثل صناعة السيارات وقطع غيار الطائرات، فهذه ليست صناعة ولا تصنيع، بل مجرد نشاط صناعي يندرج ضمن سلسلة القيم على المستوى العالمي، وفي ملك الأجانب الذين يمكن لهم في أي لحظة مغادرة البلاد.
بالمقابل، الصناعة الوطنية التي ننادي إليها لها ضوابطها وقواعدها، ومنها إشراك الطرف المغربي، وإشراك مؤسسات البحث الوطنية والجامعة المغربية.
في هذا الاطار، لابد من الاهتمام بالبحث العلمي والجامعة المغربية والرفع من النسبة المخصصة للبحث العلمي والتي لا تتجاوز اليوم 0,7%، لنصل إلى 2% خلال سنتين أو ثلاث سنوات، والجامعات عليها أن تكون لها مشاريع بحث، وليس مجرد فضاءات للتدريس.
لدينا طاقات وكفاءات هائلة لابد من تمكينها من وسائل العمل، فإضافةً إلى الكفاءات الوطنية لدينا أيضا كفاءات مغربية بالخارج يعملون أطباء ومهندسين وباحثين في مختلف المجالات بمراكز بحث عالمية وبكفاءة عالية، وقد آن الأوان لاهتمام الدولة بهذه الكفاءات وإيجاد الصيغ لإشراكها في المجهود الوطني المتعلق بالبحث والابتكار، وتوفير شروط مساهمتها، وأساسا وسائل العمل والكرامة.
ثم إن البعد الثقافي أساسي للنهوض بأوضاعنا، حيث عانينا من البؤس الثقافي، وحان الوقت لصحوة ثقافية قوية، من أجل محاربة الفكر الظلامي والمنغلق والتقليداني، وتربية شعبنا بالمقابل على الفكر العقلاني لتحصينه ضد الميولات السلبية، والتربية على حب الوطن وحب العمل وحب الابتكار والاجتهاد والاعتماد على الجهد، وذلك بالموازاة مع إصلاح منظومة التربية والتكوين.
وفي المحصلة، لابد من بُعد استراتيجي في تفكيرنا لنعرف إلى أين نسير، كما أنه لا مناص من أن نزرع الأمل والتفاؤل ونفتح الآفاق، حتى يكون وضعنا غدا أفضل من الأمس ومن اليوم.

د. عبد السلام الصديقي

Related posts

Top