المكفوفون.. حلم “الإدماج”المعلق

في الصباح الباكر من يوم الاثنين، تشير عقارب الساعة إلى السابعة وخمس وأربعين دقيقة، وبالشارع الرئيسي والشهير للرباط، محمد الخامس، يجلسون القرفصاء على كراسي صغيرة سهلة الحمل، واضعين صناديق خشبية صغيرة فوق أرجلهم، مكتوب عليها بالبنط الغليظ؛ “مكفوف حامل الشهادة معطل عن العمل”، مع الإشارة إلى اسم التنسيقية التي ينتمون إليها.

يعرف شارع محمد الخامس حركة غير عادية بداية كل أسبوع، حيث يشهد ذهاب ومجيء أفواجا من الموظفين والمستخدمين في القطاعين العام والخاص، يسارعون الزمن للوصول إلى مقرات عملهم، مستغلين مرورهم من الشارع، في الإطلاع على الجرائد التي يعرضها أصحاب الأكشاك، لاسيما “الروبيو” و”السيمو” و”الحاج”.. إلى غيرها من الأسماء المشهورة ببيع الجرائد في الشارع.

ويوجد على قارعة الطريق العشرات من المكفوفين، حاملي الشهادات، في لفت واضح لانتباه المارة، من أجل التضامن معهم ببعض البقشيشات من الدراهم، كمساعدة رمزية وتضامنية، أو من خلال اقتناء “الكلينيكس” (مناديل الجيب) من عندهم مقابل ثمنه الحقيقي، في تعاقد سمته الثقة في المارة الذين يتعاملون مع أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، لا يمكنهم التحقق من القيمة المالية التي يقدمونها لهم.

برد قارس، وزخات مطرية قليلة، تضفي على الوجوه الشاحبة والكئيبة قليلا من الانتعاش، ففي الوقت الذي اختار البعض وضع أصابع يديه في جيبه، ارتأى آخرون فرك أصابعهم وحك كفي يديهم من أجل قليل من الدفء المفقود بين الجدران الضخمة لمقرات المؤسسات العمومية والخاصة المتواجدة بشارع محمد الخامس، التي من بينها البرلمان المغربي..

ويعتبر شارع محمد الخامس المتواجد في وسط العاصمة الإدارية، الرباط، أحد الشوارع الحساسة والمهمة، لذا تواجدهم به ليس اعتباطا ومن باب الصدفة، بل جلوسهم طيلة أيام الأسبوع يدخل ضمن البرنامج النضالي المسطر بشكل فردي وجماعي، خصوصا وأن العديد من المكفوفين المعطلين عن العمل، قادمين من مجموعة من المدن البعيدة عن العاصمة، من قبيل؛ فاس، ومكناس، وبني ملال، ومراكش، والدار البيضاء، وتازة، ووجدة، ومراكش..

قادتنا الجولة الصغيرة، على طول الشارع، إلى لقاء أمين (29 سنة)، مكفوف من حملي الشهادات، والعاطلين عن العمل، الذي قدم من العاصمة العلمية فاس، مباشرة بعد حصوله على شهادة الإجازة، في شعبة اللغة العربية، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، وذلك خلال سنة 2011، إذ لا زال يناضل طيلة هذه السنوات من أجل الحصول على منصب في سلك الوظيفة العمومية، بعد فشله في الحصول على عمل في القطاع الخاص، الذي لا يقبل بحسبه “ذوي الاحتياجات الخاصة، خصوصا المكفوفين”.

أتى لقاء بيان اليوم بأمين انطلاقا من معرفة مسبقة، وهو ما سهل على الجريدة التعرف على شخص يمكن أن يكون دليلا للتقرب عن كثب من أوضاع باقي المكفوفين المعطلين عن العمل، منهم من ينتمي إلى التنسيقية المنخرط بها (الوحدة)، أو باقي التنسيقيات الأخرى، مشيرا إلى أن تواجدنا معه، والذهاب بصحبته نحو الحي الذي يقطن به، وكذا المقهى التي يجلس بها المكفوفون، يشكل نوعا من الريبة، غير أنه سيقدمنا لزملائه، درءا لأي شكوك مفترضة..

وقف أمين من الكرسي البلاستيكي الذي كان يجلس عليه، ووضع صندوقه الخشبي في محفظته الخاصة، ثم تفقد عصاه التي كانت بجانبه، ماسكا إياها بيده اليسرى، إلى جانب، نزع بطاقة عضويته بالتنسيقية من صدره، ووضعها بجيب سترته، مناديا “الحاج” (68 سنة)، صاحب مكتبة لبيع الكتب القديمة بشارع محمد الخامس، من أجل أن يترك لديه الكرسي كما جرت العادة كل يوم.

وضع أمين يده بذراعنا اليسرى، وبخطوات متثاقلة، ودردشة ثنائية حول الأوضاع العامة، اتجهنا على طول الشارع، حيث يتفقد ابن العاصمة العلمية أحوال أصدقائه، الذين يحفظ أماكن جلوسهم، خصوصا وأنه لم يلتق بهم منذ نهاية الأسبوع.. واستغل مرافقنا الفرصة من أجل أن يعرفنا على كل مناضل ومناضلة على حدة، حاكيا لنا قصصهم ومعاناتهم مع الأوضاع المزرية التي يعيشون فيها، أمام قسوة الحياة الاجتماعية والاقتصادية بالرباط، بحيث يواجهون مصيرهم لوحدهم بالمدينة، وهم البعيدون عن أهاليهم وأقاربهم المئات من الكيلومترات، والذين من الممكن أن يكونوا سندا لهم في هذه المحنة التي يمرون بها.

وأمين نموذج لمكفوف قدم من إحدى القرى بضواحي مدينة فاس، دون أن يخبر عائلته الصغيرة عن حقيقة حلوله بالرباط، والمتجلية في النضال من أجل الإدماج بالوظيفة العمومية، التي يرى فيها المنقذ لأوضاعه، وأوضاع أفراد عائلته الذين يمنون النفس هم الآخرين في أن يحصل على شغل يستطيع من خلاله أن يساعدهم ويخرجهم من دوامة الفقر، كما يمكنه أيضا، أن يستقر ماديا ومعنويا.

حل أمين بالرباط بالنسبة لأسرته لإتمام دراسته بسلك الماستر، وليس من أجل النضال، لذا لا زالت أمه تبعث له كل نصف شهر، مبلغا ماليا من أجل أن يؤمن به مصاريفه اليومية، علاوة على تسديد فاتورة الكراء لصاحبة البيت..

وما هي إلا لحظات، حتى اتصلت به أمه “مي فاطمة”، لتخبره بأنها بعثت له 500 درهم، يمكن أن يذهب لسحبها من بنك “..” بعد اطلاعهم على الرقم السري الذي سيرسل له عبر رسالة نصية…

سرقات ورحلات مجانية

تشير الساعة إلى الواحدة وخمس وأربعين دقيقة، ردد أمين قائلا: “يجب أن نذهب لندرك الحافلة رقم 2 التي ستنطلق صوب حي القرية على الساعة الثانية بعد الزوال”، هرولنا متجهين نحو المحطة، قبل أن نجد في طريقنا، ثلاثة أصدقاء له، يتحسسون الطريق بعكاكيزهم، دعاهم إلى الذهاب معنا، وهو ما تم بالفعل، بعدما التحقوا بنا ملبين نداء رفيقنا، فكانت تجربة قيادة مجموعة من المكفوفين في الطريق صعبة جدا، خصوصا بالنسبة لمن له التجربة الأولى، وهو ما ظهر بعد سقوط حمزة (25 سنة) ابن مدينة مكناس، في منتصف الطريق..

الصعود في وقت الذروة إلى الحافلة المتجهة نحو الحي الشعبي “القرية”، ليس بالأمر اليسير، فالازدحام على أشده، ولا مجال هنا، للحديث عن الأسبقية بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة، وهو ما عقد من مهمة الانتباه إلى صعود كل شخص بمفرده، بيد أن المجموعة خبرت أسرار الحافلات، وهو ما جعل أمين، ينبههم إلى البقاء جماعة إلى حين صعود جميع الركاب، الذين يتسابقون لحجز المقاعد الفارغة بالحافلة.

ذكر رفيقنا أصدقاءه مباشرة بعد الصعود إلى الحافلة رقم 2 بتوخي الحيطة والحذر من اللصوص والنشالين، الذين يتواجدون بالحافلة، مشيرا إلى أنه تعرض للسرقة مرة ثالثة خلال الأسبوع الماضي، وبالضبط مساء يوم الأربعاء، بعدما سحبوا من جيب سرواله هاتفه النقال، وسرقوا أيضا، إحدى نظاراته الاحتياطية من محفظته، وهو ما علمه من إحدى النساء مباشرة بعد نزول اللصوص من الحافلة التي كانت تقله إلى الحي..

وبعد استغراب بيان اليوم من الحادث، اعتبر أمين سرقة المكفوفين بالحافلات أمرا عاديا، اعتاد عليه الجميع، واصفا الفعل بـ”الهمجي”، مضيفا، أنه تعرض للسرقة نهارا من طرف ثلاثة مجرمين بحي “القرية”، إذ انهالوا عليه بالضرب والصفع بعد رفض منحهم ما يملكه من الدراهم، وكذا هاتفه الشخصي الذي كان بحوزته، حيث تمكنوا في الأخير من أخذ كل ما يملكه وهربوا إلى الخلاء..

وسرد ابن مدينة فاس لبيان اليوم، مجموعة من الحوادث التي وقعت للمكفوفين، الذين يعتبرون وفقه أشخصا يسهل سرقتهم بالنهار كما في الليل، لاسيما وأن المارة لا يستنكرون هذا السلوك “الدنيء والمشين، خصوصا وأن الحادث يتسم بالحكرة، والاستقواء على أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة”، يعبر أمين بمرارة عن المشهد.

بعد ساعة ونصف من الزمن، التي قطعتها الحافلة من محطة باب الأحد، إلى باب القرية، مرورا عبر مجموعة من المحطات الكثيرة، التي لكل منها حكاية عند حاملي الشهادات من المكفوفين، خصوصا محطة “البطانة” التي كانوا قد احتجوا فيها ذات يوم، عن مجانية النقل لذوي الاحتياجات الخاصة ومرافقيهم في الحافلات، بعدما كان المراقبون يلحون على ضرورة أداء المخالفة عند ضبطهم بدون تذكرة.

ويحكي حمزة للجريدة، كيف كان إنزال المكفوفين كثيفا عدديا، حيث قدم كل المناضلون من مدينة سلا، والرباط، وتمارة، من أجل مواجهة المراقبين ومسؤولي شركة النقل الحضري، التي التزمت في آخر المطاف بالسماح للمكفوفين ومرافقيهم باستخدام الحافلات دون أداء تذكرة، وهو ما وقفت عليه بيان اليوم في رحلتها رفقة المكفوفين الذين رفضوا أن تؤدي الجريدة ثمن التذكرة بحجة “المرافق الخاص لهم”، وذلك ما حدث بالفعل بعد تشكيك الجريدة في الأمر، حيث لم يطلب المراقب التذكرة من بيان اليوم.. وهو ما اعتبره أمين شيئا طبيعيا “جاء نتيجة انتفاضة ضد شركتي حافلات النقل الحضري، وكذا الترامواي الذي يربط بين العدوتين سلا والرباط”.

منزل البؤساء

مباشرة بعد الوصول إلى محطة باب حي “القرية” الشعبي، والذي يعد من بين البؤر السوداء والأحياء الخطيرة بمدينة سلا من حيث ارتفاع منسوب الإجرام، بدأ مرافق الجريدة أمين يعطي لبيان اليوم توجيهات وإرشادات للدخول من هذا الزقاق، والتوجه طولا، والانعطاف يمينا، ثم يسارا.. حتى وصلنا إلى المنزل حيث يقطنون، وطلب أمين من الجريدة مرافقة زملائه إلى الطابق الثاني حيث يوجد بيتهم المشترك.

منزل قديم بدون باب، وبيوت مهترئة، ودروج وأسوار متسخة، بالإضافة إلى مرحاض نتن وبدون إنارة يستعمله أشخاص كثر من بينهم المكفوفين، الذين يقضون به حاجاتهم البيولوجية، ويوظفونه في غسل الأواني المنزلية، علاوة على ملأ قارورات الشرب من الصنبور الوحيد الذي يوجد به، وهو ما يتكرر في مختلف طبقات المنزل الأربعة التي تتوفر على مرحاض مشترك بين الأفراد الذين يسكنون في أربعة بيوت بكل طابق.

وقدر أمين عدد الأشخاص الذين يوجدون في الطابق السفلي الذي يقطن به، بإحدى عشرة شخصا (11) !، يتوزعون على أربعة بيوت مختلفة المساحة، استنادا إلى الهندسة العامة للمنزل، مشيرا لبيان اليوم إلى أن جميع هؤلاء الأشخاص الذكور يتقاسمون مرحاضا واحدا، يوظفونه أيضا، في الاستحمام، “الأمر الذي يجعلنا ننتظر في بعض الأحيان وقتا طويلا من أجل استغلال المرحاض، خصوصا في أوقات الذروة؛ الصباح الباكر، وفترة الليل”، يضيف أمين لبيان اليوم.

وقال المتحدث ذاته للجريدة وهو يحضر كأس شاي كما جرت العادة: “لقد اعتدنا على هذا الوضع نتمنى من الله أن يعوض لنا هذه المعاناة بما أحسن”، مردفا: “همي وهم جميع المناضلين من تنسيقيات المكفوفين الذين لا تختلف أوضاعهم عن هذا الوضع الذي تعاينوه، هو الاشتغال في وظيفة مستقرة تضمن لنا الحد الأدنى من كرامتنا وتحفظ سلامتنا الجسدية..”.

وفي هذا الإطار، أشار أمين إلى أنه نجا في الكثير من المرات من حوادث خطيرة، بل وقاتلة، لأن تواجده بشكل وحيد دون مرافق مبصر، تجعله يعاني كثيرا سواء بداخل المنزل أو خارجه، مضيفا أنه تعرض في الكثير من المرات إلى صعقات كهربائية، كما تعرض لسقطات خطيرة في الدروج، أو في أزقة الحي غير المبلطة والتي لا تتواجد بها ممرات ومسالك خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة..

ونحن نستعد للخروج على الساعة السادسة مساء إلى الشارع الرئيسي للحي، أو ما يطلق عليه بـ “اسويقة” للقاء زكرياء ابن مدينة تازة، وأحد أصدقاء أمين الذي يقطن معه تحت سقف بيت واحد، وجدنا عبد العالي (38 سنة، حاصل على دبلوم خاص بتوزيع المكالمات) يتحسس أسوار المنزل للوصول إلى باب البيت، بعد أن رافقه أحد الأشخاص إلى باب المنزل، حاملا معه حقيبة سفره وبعض أغراضه الشخصية، على اعتباره أتى من مدينة بني ملال التي تتواجد بسلسلة الأطلس الكبير، بعد أن قضى بها أزيد من ثلاثة وعشرين يوما، رفقة أمه وإخوانه وأخواته الذين يغيب عنهم مدد طويلة بالعاصمة الرباط، حيث يتفرغ إلى النضال.

تركنا عبد العالي “الكسول” بالمنزل، كما يطلق عليه أمين، لأنه لا يعتمد كثيرا على نفسه في قضاء أغراضه، حيث ساعدناه على ترتيب حقيبته، وقصدنا وجهتنا للقاء زكرياء (27 سنة)، الذي وجدناه يبيع في “اسوقية” حي القرية، القفازات، والجوارب، والطرابيش الشتوية، على اعتبار الموسم الشتوي على الأبواب وهي فرصة بحسب زكرياء لاستغلال “الفراشة” في هذا الوقت من أجل جمع بعض الدراهم، بالرغم من المضايقات التي يتعرض لها من طرف رجال السلطة المحلية الذين يمنعون الباعة الجائلين جميعا من عرض سلعهم بوسط الشارع.

زف زكرياء لأمين خبرا سيئا، مخبرا إياه بأن “الحاجة” طرقت نافذة بيتهم هذا الصباح، تطلب أداء كراء الشهر الماضي والجاري، مهددة إياهم بالإفراغ في حالة مزيد من التمادي والتأخير.. جواب أمين لم يتأخر، وعلق بإيجاب على المستجد، حاثا إياه على ضرورة أداء ثمن الكراء، خصوصا وأنه توصل اليوم بمبلغ مالي من عند والدته، مستطردا أن عبد العالي هو الآخر قدم من “البْلاَدْ” ولا بد من أنه يضع بحسبانه هذا الأمر..

من جهته، اعتبر زكرياء أن “القضية ناشفة والوالدين مسيفطو والو هادي شهراين بسبب مرض الأخت المزمن أخاي أمين، ولكن راني جامع شي صريف مخليه احتياط نخلص بيه الشهر اللي فات على الأقل”، متحسرا على الأزمة المالية التي يمر بها، والناتجة عن عدم مداومته الجلوس بشارع محمد الخامس بالرباط، والذي يعد مصدرا مهما بحسبه في جمع القليل من الدراهم من طرف الناس المتعاطفين مع أوضاع المكفوفين الاجتماعية والاقتصادية..

سألت بيان اليوم زكرياء عن عدد السنوات التي قضاها وهو بمدينة الرباط يناضل بعيدا عن أحبابه وأفراد أسرته، فكان جوابه، أنه منذ صيف سنة 2011  وهو مستقر بالعاصمة الإدارية، مباشرة بعد حصوله على شهادة الإجازة في شعبة التاريخ من الكلية المتعددة التخصصات بتازة، معلقا: “شوارع وأناس الرباط حفظونا عن ظهر قلب، الله يفرج وصافي..”، وزاد ابن تازة بلغة عربية بليغة: “كل سنة نراهن على حل أوضاعنا ولكن مصيرنا يبقى غامضا ومستقبلنا تغشاه ظلمة عتمة شبيهة بالظلمة التي تغشى عيوننا نحن المكفوفين”.

دفع البرد القارس للجو المتقلب رفيقنا أمين إلى إخبار زكرياء بأننا سنذهب إلى “البيرو”، أي المقهى الذي يجتمع فيه مختلف المناضلين المكفوفين كل مساء لنقاش المستجدات التي تخص ملفهم، وكذا الحديث عن مستقبلهم في ظل الحكومة الحالية، رد عليه زكرياء: “سألتحق بكما يا صديقي ريثما ينتهي المصلون من أداء صلاة المغرب.. انتظراني حتى نذهب سويا إلى المنزل، لعل عبد العالي يخبأ لنا مفاجأة هذه الليلة” (يقول زكرياء ضاحكا).

قبل أن يتفاعل معه أمين مبتسما: “ضروري سي زكي عبد العالي ميكون جايب شي دجاجة بلدية مشرملة معاه من اَلْبْلَيْدَة كيف العادة فمي عيشة تتقن جيدا الطبخ كما أن خبزها لذيذ اصاحبي..”.

زكرياء: إذن نحن اليوم معفيان من الطبخ.

أمين: أكيد ..

المقهى.. المقر المركزي

المقهى الشعبي الذي يرتاده المكفوفون بحي القرية مملوء عن الآخر، وكأن جميع مكفوفي المغرب اجتمعوا به، فأعدادهم كثيرة بوجوه مختلفة، وملابس وأحذية جد متواضعة؛ تظهر عليها بعض الأوساخ وآثار العرق.. ، موضحا أمين في هذا الصدد، أن كل فرد منهم موجز من إحدى الجامعات بالمدينة التي ينحدر منها، أتوا إلى الرباط لهدف واحد، وهو النضال من أجل الحصول على وظيفة في القطاع العام، بإحدى المؤسسات العمومية للدولة.

وكشف أمين لبيان اليوم، أن هذا المقهى هو المقر والمركز الرئيسي لجميع مناضلي تنسيقيات ومجموعات المكفوفين حاملي الشهادات، خصوصا تنسيقية “الوحدة”، والعدد الكبير الذي عاينته الجريدة عن قرب أكد صحة ما قاله أمين، الذي استقبل من طرف زملائه، بالترحيب به وبضيوفه الذين حلوا معه (بيان اليوم)، رغم تأخره قليلا عن الوقت الذي كان مبرمجا فيه الاجتماع اليومي الذي يخصص للحديث عن الجديد الذي تحمله الحكومة، خصوصا بعد اعتصامهم المفتوح الأخير فوق سطح وزارة الأسرة والتنمية الاجتماعية، الذي راح ضحيته المكفوف صابر الحلوي (25 سنة حامل للإجازة في شعبة اللغة العربية من جامعة القاضي عياض بمراكش) الذي توفي بعد سقوطه من أعلى بناية الوزارة، حيث خلفت وفاته جدلا كبيرا في أوساط حقوقيين محليين ودوليين، وهيئات نقابية، وجمعيات المجتمع المدني، وكذا رواد وسائط التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام..

تواجد بيان اليوم بين هؤلاء المناضلين أزعج البعض، في الوقت الذي رحب فيه آخرون بالجريدة، وهو ما جعل أمين يطمئنهم عن تواجدنا إلى جانبهم، مبددا بذلك سوء الفهم الذي قد حصل.. قبل أن يستدركوا مناقشتهم مع قليل من المستملحات والقفشات التي تضفي على الجلسة قليلا من الحميمة وتخفف من وطأة ضغط الحياة اليومية، مسترقين هذه اللحظات من الزمن للحديث عن المستقبل الذي تنتظرهم فيه مفاجئات كالزواج من الحبيبة، واقتناء بيت، وشراء سيارة يقودها سائق خاص.. إلى غيرها من الأحلام التي لا زالت تُتَقاذف في ملفات بين مكاتب الوزارات بالعاصمة الرباط.

وأخبر هشام (27 سنة) بيان اليوم، بأن ملفهم لم يراوح مكانه منذ حكومة عبد الإله بنكيران الذي “ظل يعدنا بحل مشكلنا ودمجنا في سلك الوظيفة العمومية، وهو الأمر الذي لم يحصل بالرغم من مرور خمس سنوات من الانتظار والنضال من أمام منزله، وقبة البرلمان، ووزارة التنمية (في إحالة على وزارة الأسرة والتنمية الاجتماعية)، وكذا وزارة الاقتصاد والمالية..”.

وأضاف هشام، ابن مدينة مراكش، والحاصل على شهادة الإجازة في شعبة القانون العام، أن “التنسيقية صعدت من خطواتها النضالية، وهو ما ظهر خلال الأيام الأخيرة، بعد اقتحام وزارة بسيمة الحقاوي، التي لم تحرك ساكنا طيلة سبع سنوات تقريبا”، مردفا: “أنه وبالرغم من سوء الأحوال الجوية بقينا صامدين ومعتصمين فوق سطح الوزارة، إلى أن سقط صابر الحلوي من فوق البناية، الأمر الذي خلق ذعرا في أوساطنا، وحصل استنفارا كبيرا من داخل الوزارة”.

وفي الوقت الذي كان فيه باقي المكفوفين من حاملي الشهادات يدردشون مع بعضهم البعض في المقهى، سواء بشكل ثنائي أو ثلاثي..، حكى هشام بإسهاب للجريدة وقائع الحادث الأليم، الذي “صدمنا ولم نكن نتوقعه، فصابر كان صديقا مقربا لي لاسيما وأنه ابن مدينة مراكش التي أنحذر منها”، يقول المتحدث.

ولا زال يتذكر هشام واقعة صادمة شبيهة بحادثة صابر، بعدما سقط ميلود الحمراوي من مكان المصعد الكهربائي، من داخل وزارة “التنمية” كما يطلقون عليها، بعدما كانوا معتصمين من داخلها أيضا، حيث فتح ميلود الحمراوي باب المصعد بيديه وليس بشكل أوتوماتيكي، وأراد أن ينزل إلى الأسفل، فإذا بقدماه تطآن الخواء المظلم للمصعد الذي عطل وفقه عن العمل، حتى لا يتمكن المكفوفون من استعماله، إذ سقط الحمراوي على رأسه من الطابق الخامس وهو ما عجل بموته بعد نقله إلى المركب الاستشفائي ابن سينا بالرباط، خالقا بذلك ضجة أخرى حول الموضوع، شبيهة بضجة حادثة صابر الحلوي..

وأضاف هشام، أن حادث سقوط الحمراوي من المصعد الكهربائي، خلال سنة 2011، دفع حكومة عبد الإله بنكيران آنذاك إلى التفاعل مع الملف، ووعدها بإدماج مجموعة من المكفوفين في الوظيفة العمومية.. قبل أن تخلف وعدها (الحكومة).. مستطردا: “وكأننا في حاجة دائما إلى أن نقدم صديقا لنا قربانا للوزارة وللحكومة من أجل أن يحرك ملفنا ونسمع صوتنا”.

من جانبه، يرى عيسى (26 سنة) الذي التحق بنقاشنا، أن “رئيس الحكومة أعلن في جلسته الشهرية بالبرلمان أن الحكومة خصصت 50 منصبا للمكفوفين، وهو ما نعتبره رقما هزيلا جدا ولا يرقى إلى ما نطمح إليه، خصوصا وأن حوالي 3000 مكفوف من مختلف التنسيقيات يناضلون للحصول على وظيفة بشوارع الرباط، والذين يعانون من البطالة والفقر والهشاشة، وينتظرون عرضا جادا وحقيقيا من الحكومة لإنهاء سيناريو معاناتهم”.

وزاد عيسى بلهجة شمالية، وهو ابن مدينة طنجة، التي حصل بها على شهادة الإجازة في شعبة الفيزياء، خلال سنة 2012، “حنا العايل ما كنطلبوشي الصدقة ولا الإحسان من الحكومة حنا باغيين وظيفة ليتضمن لينا كرامتنا ومتخليناشي مجرجرين في هاد الوضعية البئيسة، والدستور يكفل هذا الحق بالنسبة للمكفوفين من ذوي الاحتياجات الخاصة المخصص لهم 7 في المائة من المناصب في كل قطاع سنويا”.

ضحكات وقفشات لا تنتهي بين الوجوه المبتسمة للمكفوفين، والتي تخفي من ورائها حكايات عنوانها “المعاناة” ومواجهة قسوة الحياة والنضال من أجل مجهول قد يأتي أو لا يأتي، وبدون تاريخ محدد، ببساطة إنه “حلم الإدماج المعلق”..

زيارة المقهى أمر ضروري بالنسبة للمناضلين المكفوفين، وهو ما ظهر من خلال قدوم مجموعة من المكفوفين الواحد تلو الآخر إلى المكان بعد جلوسنا، بحيث يستطيعون من خلال هذا الفضاء الاتصال بشكل مباشر مع بعضهم البعض، موازاة مع الاتصالات عبر مجموعات الفايسبوك وتطبيق الواتساب، التي تطلع عبرها قيادة التنسيقيات القواعد من المناضلين عن ما جد حول الموضوع، علاوة على نشر البرنامج النضالي الخاص بهم، خصوصا وأن الفترة الحالية تتسم بالدخول السياسي وعودة المسؤولين إلى مكاتبهم بعد قضاء العطلة الصيفية، الأمر الذي يستدعي تحديد أجندة الوقفات الاحتجاجية وأماكنها.

وبالرغم من موت صابر الحلوي وتفاعل الحكومة مع الملف أبدى العديد من المكفوفين خلال جلستهم الرغبة في المزيد من النضال والتصعيد، وذلك، بتنظيم مجموعة من الوقفات الاحتجاجية أمام وزارة الأسرة والتنمية الاجتماعية، والداخلية، والاقتصاد والمالية، وكذا البرلمان.. قصد إسماع صوتهم وفتح حوار “جدي حول ملفهم”، كما أكد على ذلك أحد المناضلين المكفوفين، وهو الطرح الذي زكاه آخرون، بحجة أن الفترة تقتضي رص الصفوف واستغلال هذه الدينامية لكسب المعركة.

الرجوع إلى..

لحظات قليلة وبدأ الشباب المكفوف والعاطل عن العمل، ينسحب من المقهى، في انتظار الإعلان عن ساعة ومكان وقفتين احتجاجيتين كما جرت العادة كل يوم ثلاثاء، الأولى على الساعة الثالثة عصرا من أمام قبة البرلمان، والثانية سيحدد زمكانها خلال الساعات القادمة حتى يتسن للجميع تسجيل حضورهم، نظرا لأن الحضور في الوقفات الاحتجاجية ضروري، وهناك لجنة تنكب على هذا الشأن، حيث تسجل الأسماء في اللائحة الخاصة بالتنسيقية التي تشمل أيضا، التنقيط عن المشاركة.

وشرح أمين لبيان اليوم هذه النقطة، بالقول: “إن المشاركة في وقفة احتجاجية عادية تختلف عن وقفة احتجاجية استثنائية والتي تحصل فيها المواجهة مع ‘السيمي’ (رجال الأمن)”، مبرزا أن سلم التنقيط يختلف أيضا، والذي على أساسه تحاور قيادة التنسيقيات الحكومة وتحدد الأسماء التي ترابط في مدينة الرباط منذ مدة طويلة، مناضلة بشكل مستمر عن الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية.

بعد قدوم زكرياء إلى المقهى طلب أمين من بيان اليوم التوجه مجددا إلى البيت في انتظار الإعلان عن زمكان الوقفة الاحتجاجية الصباحية، التي ألحت الجريدة على المشاركة فيها من داخل التنسيقية، كما هو الحال في الوقفة التي ستنظم عصرا أمام مقر البرلمان بالشارع الرئيسي لمدينة الرباط، لتتمكن بيان اليوم من التقرب أكثر من الوضع، وعيش تجربة احتجاج المكفوفين، بالرغم من تحذيرات أمين للجريدة الذي اعتبر الخطوة “مغامرة”، لأن رجال الأمن يتدخلون بعنف في الكثير من الأحيان لفض وقفاتهم..

بدخولنا إلى البيت وجدنا عبد العالي إلى جانب مكفوف آخر، يقطن في نفس الزقاق، اكتشفت الجريدة فيما بعد أن اسمه عمر (32 سنة) متزوج من مكفوفة وله بنت صغيرة مبصرة، يستحيي أن يدخن أمامها، لذلك يأتي إلى بيت رفاقه كل مساء، من أجل الحديث والتدخين مع زكرياء من نفس السجارة عملا بمبدأ “التشاركية”، كما قال ضاحكا.

قصة عمر ابن مدينة فاس والحاصل على شهادة الإجازة في شعبة التاريخ، منذ سنة 2008، لا تختلف عن باقي القصص الأخرى، بل إنها قصة “معقدة” كما وصفها، لاسيما وأنه متزوج وله ابنة صغيرة (أربع سنوات) تكلفه مصاريف يومية من أجل توفير حاجياتها الضرورية، كالملابس، والحفاظات.. وبعد سؤال بيان اليوم عن كيف تعيش هذه البنت وسط أم وأب مكفوفين ؟، كان رده أن شيماء ابنة صغيرة “وعت بالوضع واعتادت عليه، فهي ترشدنا في الكثير من الأحيان داخل البيت، وتنبهنا لتجنب السقوط أو إسقاط وتكسير بعض التجهيزات..”.

ويعقد عمر الأمل في الحصول على وظيفة قارة هو وزوجته الموجزة أيضا، ليتمكن من إسعاد فلذة كبده التي وصفها بالوردة “والحديقة التي أستنشق من براءتها رائحة الحياة، وتجعلني صابرا مناضلا في شوارع الرباط التي كرهتها ومللتها”..

وختم عمر حديثه مع الجريدة، بالإشارة إلى أن شيماء كمدت في الكثير من الأحيان دغدغات الضرب الذي يتلقاه من طرف رجال الأمن في كاحلي رجليه بأسفل جسمه، “وهي المنطقة التي يحبها السيمي” كما قال أمين مقاطعا صديقه عمر.

طلب عبد العالي من زكرياء أن يسخن دجاجة بلدية محمرة أعدتها له والدته القروية، كهدية لصديقيه اللذين يقطنان معه، وهو تقليد اعتاد عليه الثلاثة كلما سافر أحدهم عند أهله وأحبابه..

وجبة العشاء الشهية بين مكفوفين على الحصير، “ممتعة”، وما زاد من متعتها هو الملفات الرومانسية والحميمية لكل فرد منهم، حيث يتبادلون مع بعضهم البعض الأحاديث عن حبيبات بروح مرحة وخفيفة، فلأمين وزكرياء وعبد العالي، قصص مع فتيات مكفوفات، تعرفن عليهن في الجامعة أو مراكز التكوين الخاصة بالمكفوفين، أو في ساحة النضال كما هو الحال مع أمين الذي التقى بسناء ابنة مدينة خريبكة، وهو ينوي اليوم خطبتها من أهل منزلها، الذين رفض جزء كبير منهم (خالها، وعمتها، وأمها..) فكرة أن تتزوج ابنتهم من مكفوف بالرغم من حبها له، بحجة أنها في حاجة إلى زوج مبصر يمكن أن يساعدها في حياتها اليومية ويكون ضوءا منيرا لطريقها..

لم يذهب عمر إلى منزله إلا قبل إخباره من طرف أمين بأن يوم غد ستكون الوقفة الاحتجاجية الصباحية من أمام وزارة الاقتصاد والمالية على الساعة العاشرة والنصف صباحا، موضحا بأن: “اللجنة التنظيمية اختارت هذه الوزارة لأنها المكلفة بإعداد مشروع قانون مالية سنة 2019، وهي مناسبة لتذكير هذه الوزارة بملفنا المطلبي حتى تضع في الحسبان مناصبا كافية ومحترمة للمكفوفين”..

 

ليلة بيضاء

فلما جن الليل بدأت الأمطار في التساقط، وعلى ما بدا من خلال صوت أنبوب الماء الذي يقسم  بيت كل من أمين وعبد العالي وزكرياء، هي أمطار غزيرة، حيث يزعجهم صوت الماء الذي يمر عبر الأنبوب الذي به ثقب يسمح لبعض القطرات بالدخول للبيت، والذي يعاني من قبل من رطوبة كثيرة أثرت على عيني كل من عبد العالي وزكرياء اللذان نصحهما الطبيب بتغيير سكنهما، لأن ذلك سيأثر كثيرا على سلامة أعينهما المريضة..

في الوقت الذي يغرق فيه زكرياء في نوم عميق، قضى كل من أمين وعبد العالي ليلة بيضاء، بسبب اقتحام “جرذ” كبير للبيت، أتى من ثقب المرحاض المشترك للمنزل، والذي أزعجهما كثيرا، بسبب تحركاته “المقرفة” كما عبر عن ذلك عبد العالي، الذي اعتبر هجومه عليهم ضريبة رخص كراء البيت والسكن في حي شعبي لا يتوفر على قنوات الصرف الصحي، مشيرا لبيان اليوم أنهم عندما كانوا يقطنون بالطابق الثالث كانوا مرتاحين من هذا الجانب، قبل أن تنقلهم “الحاجة” صاحبة المنزل قسرا إلى الأسفل، كعقاب على ضجيجهم الذي كانوا يصدرونه كل ليلة، جراء النقاشات والحوارات الجماعية الساخنة..

في الصباح الباكر وعلى الساعة السادسة والنصف بالتحديد، أعد الجميع عدته، وخرجوا إلى محطة الحافلة التي ستقلع من مكانها على الساعة السابعة صباحا، متجهة مرة أخرى إلى العاصمة الإدارية الرباط..

بعد تجشم عناء الوقوف بالمحطة، والازدحام في الحافلة، وفي الطريق.. نزل الجميع بمحطة باب شالة، متفرقين على أماكنهم المتواجدة بشارع محمد الخامس في انتظار الساعة العاشرة والنصف للالتحاق “بالشكل النضالي أمام مقر وزارة الاقتصاد والمالية”، كما ذكر أمين بذلك، كلا من زكرياء وعبد العالي..

مباشرة بعد التحاق الثلاثة بالوقفة الاحتجاجية التي كانت ترتب لها اللجنة التنظيمية، وبدأت في تسجيل الحاضرين، شرع الجميع في ترديد الشعارات، المطالبة بالإدماج، ورفع الحيف، وبإدراج أكبر عدد ممكن من المناصب الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة في قانون مالية سنة 2019، من قبيل؛ رفع شعار “لا إدماج لا رعاية غير الإشهار والدعاية”، “لا لا ولا للقمعية ثم لا للزرواطة المخزانية.. أخي الكفيف هيا نناضل سوية.. بلا نضال نبقى في الهامشية”، “العثماني سعد الدين.. تقصي وتهمش مكفوفين.. ذنبنا معطلين.. وفي الشوارع مرميين وللشهادات حاملين يالله ارحل سعد الدين.. يالله ارحل سعد الدين”، “بيعو البرلمان في المزاد العلني.. المسؤول كلا الفلوس وخلا الكفيف يعاني”..

وما هي إلا لحظات قليلة حتى وصلت حافلة كبيرة، وثلاث سيارات صغيرة محملة بالأمن لتطويق المحتجين، إلى جانب عناصر الوقاية المدنية، وسيارتين للإسعاف، وهو مشهد اعتادت عليه التنسيقية الوطنية للمكفوفين في الظرفية الحالية، حيث أصبح الأمن بحسب أمين: “منتبها ومراقبا لتحركات المناضلين أينما حلوا وارتحلوا، خصوصا بعد اقتحام مجموعة من المعطلين المكفوفين وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية”.

رُفع الشكل النضالي للوقفة الاحتجاجية التي مرت في ظروف عادية بعدما استغرقت أزيد من ساعتين وحضرها عددا كبيرا من المحتجين ينتمون إلى مختلف المدن المغربية، وشاركت فيها مكفوفات حاملات الشهادات، اللائي بالمناسبة، ينزوين إلى الخلف، كما عاينت بيان اليوم، تجنبا لبعض التدخلات العنيفة لرجال الأمن، التي لا يمكن أن تتحملن قسوتها وضرباتها أثناء فض الوقفات الاحتجاجية، كما أوضح ذلك عبد العالي، الذي يتوسط الوقفة الاحتجاجية، لأنه قصير القامة، في الوقت الذي كان فيه أمين يتقدم الوقفة كما العادة، نظرا لطول قامته التي تسمح له ولأمثاله، بالتصدي للتدخلات الأمنية.

 

مسيرة، حلقية ثم مواجهة

التكتيك الذي تنهجه التنسيقية، سيظهر خلال الوقفة الاحتجاجية التي نظمت على الساعة الثالثة عصرا، أمام مقر البرلمان، بعد أن جاب المحتجون الشارع الرئيسي لمحمد الخامس، بعدما كانت الانطلاقة من باب الأحد، حيث يتقدم المكفوفون المسيرة الاحتجاجية بمراعاة القامة والبنية الجسمانية، متبوعين بأصحاب البنية الجسدية الضعيفة، فالمكفوفات اللائي لم يثنيهن الجو البارد والسيء من تجسيد الحضور في هذه الوقفة الاحتجاجية..

عاشت جريدة بيان اليوم تفاصيل هذه الوقفة الاحتجاجية بحذافيرها ومن داخل إطار التنسيقية كباقي المكفوفين الذين يضعون النظارات السوداء على عينوهم، وينضبطون لتوجيهات وأوامر اللجنة التنظيمية التي توجه الوقفة والمسيرة الاحتجاجية، استنادا إلى برنامج مضبوط التوقيت والمكان..

فبعد المسيرة الاحتجاجية التي كانت مرفوقة بالشعارات وحملت فيها اللافتات المطالبة بالإدماج وتسوية وضعية المئات من المكفوفين من ذوي الاحتياجات الخاصة، فتحت حلقية أمام الباب الرئيسي للبرلمان عرفت تسجيل مجموعة من المداخلات المختلفة، حللت المعطيات الواردة من كواليس وزارات حكومة سعد الدين العثماني، وكذا مساهمة البرلمانيين في تحريك الملف والضغط على الحكومة من أجل إدراج أكبر عدد من المناصب المالية في قانون الميزانية الجديد (2019)، الذي تشير أرقامه إلى وجود 50 منصب شغل خاص بذوي الاحتياجات الخاصة، والذي يعتبره مناضلو التنسيقية رقما “ضعيفا”، مطالبين بالرفع منه، ورافضين في الشأن ذاته مقترح بعض البرلمانيين الذين طالبوا بتخصيص 200 منصب شغل في ميزانية السنة القادمة..

مداخلات طويلة من مكفوفات ومكفوفين حاملي الشهادات، تُستعرض فيها المعانات وبؤس مسلسل الانتظار.. ويحال فيها على القانون الدولي، والاتفاقيات والمعاهدات التي وقعها المغرب، والتي تتعلق بتحسين وضعية ذوي الاحتياجات الخاصة والاعتناء بحالتهم، واعتبارهم فئة خاصة داخل المجتمع، مشيرين إلى ضرورة توظيفهم في سلك الوظيفة العمومية كباقي الطلبة المنحدرين من الأقاليم الجنوبية للمغرب (والقاطنين بالصحراء المغربية) والذين يعتبرون استثناء، “فلم لا يتم توظيفنا نحن الآخرين إسوة بالطلبة الصحراويين ؟” يتساءل أحد المتدخلين..

بعد استيفاء الزمن المحدد للحلقية من أمام الباب المركزي للبرلمان، تم توجيه جميع المكفوفين صوب محطة القطار “الرباط المدينة” التي لا تنقطع بها حركة الراجلين من مسافرين وركاب التراموي الذي تحاذي محطته محطة القطار، وهي مناسبة يستغلها المكفوفون للترويج لملفهم، أمام الأعين البيولوجية والاصطناعية للمارة الذين تغريهم المسيرات بالمتابعة ويدفعهم الفضول إلى معرفة تفاصيل الوقفة الاحتجاجية، خصوصا خلال الالتحام بين المكفوفين ورجال الأمن..

سيناريو المواجهة لم يتأخر كثيرا، والالتحام الذي يبحث عنه الفضوليون وعيون المتلصصين، الذين يرفعون هواتهم إلى الأعلى لتوثيق التدخل سيتحقق، بعدما قرر الجميع احتلال سكة الترامواي للخط الأول الذي يربط بين مدينة العرفان (الرباط)، وحي كريمة (سلا).. والذي يعد تجاوزا للخط الأحمر، حيث تلقى رجال الأمن إشارة فض المسيرة من طرف القائد الذي ظل يراقب تحرك التنسيقية منذ الساعة الثالثة عصرا.. مرافقا بمجموعته الشكل النضالي للمحتجين.

ووجهت رغبة المكفوفين المكبلين بسلسلة في احتلال سكة الترامواي، بجدار بشري أمني قوي، صد اندفاعهم، خصوصا المكفوفين المتواجدين في الأمام، حيث سمعت الجريدة ترديد بعض رجال الأمن لسلسة من الشتائم، سابين بذلك، أمهات وآباء ودين هؤلاء المحتجين، مثال؛ “ديـ.. مهم هد العميان باغيين يحتلوا عاوتاني السكة”، “دفع العور ديال مو يرجع اللور”، “ضرب لجدو رجليه لتحت باش يتقصح ويرجع اصاحبي”… إلى غيرها من السبائب التي اعتاد على سماعها أعضاء التنسيقية، وهو ما كان قد أكده لبيان اليوم زكرياء في دردشة ثنائية..

الاحتكاك الذي وقع بين رجال الأمن والمحتجين، جذب مجموعة من المارة نحو الحدث، موجهين الأعين الإلكترونية لهواتفهم النقالة إلى مكان الاحتجاج الذي قطع الطريق، ليتمكن الكل من احتلال السكة بعد انسلال البعض من المجموعة، مباغتين رجال الأمن بهذه الخطوة، والذين أحرجوا بتلصص المارة على تدخلهم..

احتلال السكة لأزيد من 20 دقيقة خلق ارتباكا كبيرا، في حركة السير والجولان وبرمجة عربات الترامواي، الشيء الذي استدعى تدخل رجال الأمن بشكل عنيف بعد تلقي الأوامر بفض الاحتجاج وإفراغ المحتجين بالقوة، وهو ما تم بالفعل، حيث قطع رجال الوقاية المدنية السلسلة التي كانت تربط بعض المكفوفين، في الوقت الذي كان فيه رجال الأمن، يحملون المكفوفين إلى خارج السكة، موجهين لهم ضربات إلى الأقدام بشكل مستتر، حتى لا يحسب ضدهم بعد التقاط عدسات الكاميرات لهذا التدخل..

حصيلة التدخل كانت ثقيلة كما جرت العادة، حيث تم نقل أزيد من سبع مكفوفات إلى المركب الجامعي ابن سينا بعد تعرضهن لانهيار عصبي، علاوة على نقل خمسة مكفوفين آخرين إلى المركب عينه، بعد إصابتهم بشكل بليغ، بيد أن آخرين اختاروا الصبر وتضميد دغدغاتهم وجروحهم بشكل شخصي، رافضين حملهم إلى المستشفى، كما هو الحال بالنسبة لعبد العالي وأمين اللذين تلقيا ضربات قوية من طرف رجال الأمن..

وقال زكرياء الذي انسحب من المواجهة مع بيان اليوم، بعد إلحاحه الشديد على هذا القرار، “إن هذا هو سيناريو المسلسل الذي يعاد كل أسبوع، وكل شهر، ومنذ سبع سنوات دون أن تتغير الأوضاع، ولا أن يجد هذا الملف حلا جديا، خصوصا وأن العديد من المكفوفين الحاصلين على شهادات الإجازة وغيرها، يزدادون كل سنة”..

يوسف الخيدر

Related posts

Top