الملتقى الدولي للفن التشكيلي الخامس “الأيادي التي تبصر”

يأخذك العنوان المتخير من قاموس الشعر إلى منطقة إحساس مختلفة عن المألوف رغم مسافة القرب الشعورية بين اللمس والبصر.. أليس البصر مَلْمَس لمادة ما ولو عن بعد أليس الإحساس فيزيقيا هو الشعور بتأثير خارجي مباشر على الذات ؟
الجواب لا محالة هو نعم، إيجابي بالتأكيد. يتأكد الأمر أكثر في الفنون التشكيلية حين تمر الصورة عبر اليد، هذه الصورة التي ستعرض أمام البصر.. هي سبل متشابهة متقاربة متعاضدة، متآخية بالضرورة، رغم أن الأصابع لا تصور بل تنفذ ما تصوره …ها هنا الطريق واحدة. لكن قبل التقاء الأيدي ومعانقة الصور. حقا وصل الصلة بين اليد والعين، كحاستين خالقتين وكأداتين تسمحان للإبداع بالتواجد في شكله المادي الملموس.
تدور هذه الأفكار بشكل عفوي أمام معروضات الدورة الخامسة من ملتقى “الأيادي التي تبصر”. وحين نتأمل الاختيار لا نملك سوى أن نلج مساحات توقع لخيالات مجسدة على أسانيد، معلقة أو منتصبة أو منحوتة. لأننا نحب أن نلمس ذاك الخيط الناظم، وذلك التجانس المنتظر.
وفعلا نكتشف ذلك حين نزور المعرض المنظم من طرف جمعية ” إبداع وتواصل” التي تحملها على عانقها الفنانة زهرة ألغو. هي لوحات من آفاق متعددة يجملها اتجاهان فنيان يتم التلاقي بينهما للحوار والتناظر. اتجاه الفنانين المرسخين الذين تم اختيار لوحات من لوحاتهم يرون أنها الأقدر على التعبير عن مميزات التيار الفني أو الثيمات الفنية التي تمثل مشوارهم. واتجاه من طلبة معهد الفنون الجميلة أو الفنانين الجدد الذي يتلمسون الطريق نحو تكريس ما يرونه الأجدر بإدخالهم إلى باحة المشهد الفني الشاسعة والمتنوعة. إذن هو تواجد مشترك جميل يجعل من اللقاء فرصة للاكتشاف والمقارنة والبحث والدراسة.
نجد اسما ثابتا في الفنون التشكيلية المغربية من خلال لوحتين للمرحومة الركراكية بنحيلة. نطلع بفرح على الإنسيابية اللونية في عملها، عن الشخوص النسوية بلباسها التقليدي المائلة في وضعيات تحيل على التسامي في أجواء متناغمة مع ألوان زاهية متوافقة مع بعضها البعض. نجد لوحة للفنان سعيد الراجي بعالمها اللوني الرصاصي والكولاج لمادة مزيدة عن أساسيات اللوحة الكلاسيكية وذلك المخلوق المُحيل على الولادة الأولى. ونجد أيضا لوحة لعبد المجيد زويتينة التي تمثل عازف الساكسوفون في مشهد لوني رمادي رسم بشكل تربيعي صغير يمنح في الأخير صورة مخيلة العازف معبرة بقوة. هذا على سبيل المثال لا الحصر.
لكن الأهم حقا في هذه الدورة هو التكريم الذي يمنحها عنوانها الكبير. تكريم الفنانة الرائدة مريم مزيان (1930- 2009). تلك المرأة التي كانت الأولى في مجالها التي عَرضَتْ إبداعها الفني الموهوب أصلا قبل أن ترتاد المجال الأكاديمي وتدرس الفن في مدريد. والأولى التي سجلت اسمها مجال التشكيل المغربي من بداياته في اعتماد كلي على قريحتها الفنية وعشقها للفن التصويري، والتي خلقت لها أسلوبا خاصا يتضمن البراعة والإتقان والابتكار والريادة. مَنَاحٍ تشخيصية تنهل من الشخصي الفردي ومن العام المشترك، مع تعلق بالثابت المغربي في الثقافة المتعددة المتنوعة رمزا وعلامة في كل ملمح من ملامح الحياة. والأبرز هو تلك الخاصية المنفردة في نحت سجل كبير يجمع التشكيلة الفنية بين الجنوب والشمال المغربي عبر المثير من الأعمال الفنية التي جابت العالم، واختطت للمغرب موقعا في مجال التشكيل. التذكير بمسار هذه الفنانة الكبيرة بادرة طيبة ستُفَصِّلها وتتناولها بالتحليل والدراسة الندوة التي ستخصص لها يوم السبت القادم بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، من خلال مداخلات نقاد وفنانين معروفين.
وأن يحدث كل هذه في قاعة العرض التابعة للمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء لأمر له أهميته الكبرى. فهذه المؤسسة هي تلك الواحة التي تمنح للفنون الجميلة المغربية أحد مقومات وجودها وتميزها. هو جواب واعترف وتأكيد لدورها أن ينظم هذه اللقاء بهذه المواصفات التي تمزج بين الحديث والاصيل، بين المعاصر والمتراكم منذ زمن البدايات الأولى للفن التشكيلي. وفعلا نستمتع ونستفيد ونحن نقف تجاه اللوحات كل واحدة على حدة، نلقي البصر ونحاول التمعن في المعمار الفني وتجاور المكونات من لون وأشكال والوان، من ضوء وظلال، من اقتراض للمرجع الواقعي ومن اختلاق يعتمد على النفسي والروحي والذاتي.
> مبارك حسني

Related posts

Top