النفور من الورق

بات من الملاحظ أن العديد من المشاركين في الندوات والمحاضرات واللقاءات الشعرية والقصصية، هنا وهناك، لم يعودوا يحملون معهم أوراقا للقراءة فيها كما اعتدنا أن نراهم في السابق، قبل عقدين من الزمن على الأقل.
صار يتم النظر إلى أن من يقرأ في الأوراق باعتباره متخلفا عن الركب الحضاري، وبالتالي أضحى العديد من المتدخلين يتحاشون الظهور مصحوبين بأوراق معهم، كأن هذه الأوراق البريئة التي نسودها ونكتب عليها أفكارنا وأحاسيسنا ومشاعرنا تعتبر عيبا يجب إخفاؤه.

****
تجد أمامك على المنصة متدخلا ما وقد جاء دوره لإلقاء محاضرته أو قراءة نصه الشعري أو القصصي، أو ما إلى ذلك، وتنتبه إلى أنه لم يصحب معه أوراقا، وتتساءل:
ليس من عادته أن يرتجل محاضرات وعروضا فكرية، ليس من عادته أن يتلو نصوصه الإبداعية اعتمادا على الذاكرة.
هل يفعلها الآن؟ هل يجرؤ على فعل ذلك الآن؟
على الطاولة أمامه لا أثر لأوراق ولا لقصاصات ولا لأي كتاب ورقي.
ليس هناك غير هاتفه الذكي الذي لا يتعدى سمكه بضعة ملمترات، يشرع في لمسه بأصابعه كما لو أنه مصباح علاء الدين السحري، ويرسم ابتسامة على محياه للظهور بمظهر الواثق من نفسه، ثم يشرع في التحدث وهو يمرر أصبعه على سطح شاشة هاتفه.
إنه لا يخشى من أن تخذله هذه الآلة الالكترونية الدقيقة، مع أنها منذورة للعطب في أي لحظة وحين، يمكن أن تضعف أو تنفد بطاريتها بغتة ولا يعود يرى غير الضباب، يمكن أن تتشابك الكلمات والحروف والسطور بسبب عطب تقني خارج عن إرادته، وبالتالي لن يكون في مقدوره بعد ذلك الاستمرار في القراءة، مهما حاول.
هل سينتظره الجمهور إلى أن يصلح عطب جهازه الالكتروني؟
هذا الميل إلى التحرر من الأوراق، بات بمثابة موضة جديدة في عصرنا الحالي، عصر المعرفة الرقمية. هناك من صار يرغم نفسه على ارتجال مداخلاته، رغم أنه لا يكتسب هذه المهارة، وهي لا تتأتى إلا لقلة معدودة من مثقفينا وأدبائنا، يمكن عدهم على رؤوس أصابع اليد الواحدة.
يمكن اعتبار هذه العادة الجديدة التي اكتسحت لقاءاتنا الثقافية، بمثابة مؤشر هام على أن مستقبل الكتاب الورقي مهدد بشكل حقيقي، وأن نهاية أجله باتت وشيكة.

****
التقيت أحد الأصدقاء الناشرين في المعرض الدولي للنشر والكتاب المقام حاليا بمدينة الدار البيضاء، وأبديت له ملاحظة كونه خلال السنة الأخيرة تجرأ على طبع كتب بالجملة لمؤلفين من أجيال مختلفة، رغم أن أكثر من نصف العناوين المطبوعة غير مدعم من طرف أي جهة حكومية أو غير حكومية؛ ونحن نعلم أن غالبية الناشرين لا يجرؤون على نشر الكتب إلا مدعمة من طرف الدولة؛ فباح لي بسر غريب، بالنظر إلى الصداقة التي تجمعني وإياه، وهو أنه يتوفر على مخزون من بوبينات ورق الطباعة ويريد التخلص منها في أقرب الآجال، ولم يعد يهمه الربح أو الخسارة وأنه لن يستأنف العمل في هذه المهنة التي أصابها الإفلاس المبين والتي أضحى من العبث الاستمرار في مزاولتها.
قدرت موقفه، لكن الشيء الوحيد الذي حز في نفسي، هو أن عدم مبالاته بمخزونه من الأوراق، دفعه إلى نشر كتب لا تستحق – في تقديري الخاص- أن تنشر.

عبد العالي بركات

[email protected]

الوسوم , ,

Related posts

Top