النقد المسرحي بين المتن الانطباعي والتحليل الدراماتورجي / سؤال «الكم»

«الكم» وسلطة المتلقي
سؤال ما فتئ ينبسط أمامي كلما باشرت الكتابة عن إبداع فني ما، استثارني إيجابا، أغنية كان أو مسرحية أو فيلما سينمائيا…
وإني، وإن كنت أتردد في الحسم بجواب فاصل أنهي به هذا «الحراك» النفسي المهموم، إلا أني اهتديت في المقابل إلى الحسم في ملمح من «السؤال/الإشكالية»: هل يعتد النقد بالكم (/الحجم)؟…
ذلك أن السؤال ينبعث إلى ذهني مباشرة وأوتوماتيكيا كلما كتبت عن عمل فني ما عموما، ومسرحي خاصة، «متنا قليلا» وفي سطور؛ ولا ينطرح المشكل بتاتا إذا كان الكم في صفحات!…
إذن فالمعطى الأول: مركزية ذاك «القليل» المثير للجدل.
لكن، ما المقصود بهذا «القليل»؟… هل هو «الانطباع» (اليسير كما بطبعه)؟…
المعطى الثاني، المحسوم فيه عندي هو الآخر، ارتباط الأمر بالمتلقي: فحيثما تكون الحصيلة فقرات معدودة أجدني عرضة لأنظار القراء المتفحصة، فأستحضرها في صيغتها المرتابة والمشككة في «احترامي» للقارئ، وكأني به يخاطبني، بالعامية المغربية في الغالب:
«صافي؟!… هاذ الشيء اللي عندك؟!…»
وقد يستطرد مخاطبي «الافتراضي» في تحد لومي تحقيري تنقيصي، باللسان الدارج دائما:
«داخلنا عليك بالله هذا نقد هذا؟!…»
هي إذن محاولة لـتشخيص ملابسات «»الحالة/النازلة» عبر أعراضها الواضحة، وبالتالي الوصول إلى الحسم الشامل والنهائي المنشود، أستأذن القارئ الكريم في تقاسمهما معه (التشخيص والحسم).

شرعية السؤال
معلوم أن «الكم» يلازم «الكيف» عادة في المناهج الدراسية منذ سنوات التعليم التمهيدية إلى الأسلاك الجامعية، وهذا طبيعي جدا ومقبول على كافة المستويات، سيما البيداغوجية، وما يتصل منها بمراحل النمو في إطار علم النفس التربوي والاجتماعي.
وهكذا «تأقلمنا» مع تعابير تأطيرية في فروضنا واختباراتنا المدرسية من قبيل: «تحدث، في بضعة أسطر، عن…»
كما أن أبحاث التخرج ونهاية المسالك الجامعية -عندنا وعند غيرنا- مرهونة بعدد الصفحات المحصور بمذكرات تنظيمية وبالعرف الأكاديمي عموما بين أرقام تخص كل مسلك، في تراتبية تصاعدية، من الإجازة إلى الماستر فالدكتوراة.
ويمتد سؤال الكم إلى ميادين غير الدراسة النظامية، تعتد بعدد الحروف والسطور والصفحات، كالصحافة المكتوبة والإلكترونية، ومسابقات الجوائز التنافسية في الإبداع الأدبي (القصصي والروائي على الخصوص).
وعليه، فلا غرابة أجد في بسط سؤال الكم من باب التعميم، ما دام المقام يسعه لارتباطه بما سبق ارتباطا وثيقا من خلال انتماء الكل لـ «فعل الكتابة».

الإيجاز العربي: هل من علاقة؟
لشد ما كانت تثيرني، وأنا طالب دارس للآداب، أحكام قيمة في التراث الشعري العربي من قبيل: «أشعر بيت»، و»أجزله»، و»أمدحه»، لتقييم هذا البيت أو ذاك؛ أقول البيت لا القصيدة، وإن كانت القصيدة التي تضم البيت!
وغالبا ما نصادف هذا النوع من التعابير «الوازنة» مستقلة، أو شبه مستقلة، دون تعليق أو تعقيب تفسيري أو تبريري من قائلها أو كاتبها، ويصدق هذا كلما توغلنا القهقرى انطلاقا من أواخر الحقبة العباسية إلى حدود العصر الجاهلي أيام المعلقات والحوليات.
أبادر قبل الاستطراد في هذا الاستحضار التاريخي بإلغاء فرضية «التسرع غير المحسوبة عواقبه» إلغاء تاما، لقيمة «مصدري الأحكام»: فهم إما شعراء «ممارسين»، أو موسوعيي حفظ واطلاع وتصنيف، وفي كلتي الحالتين هم ناس خبروا القوافي والبحور والأغراض، ويميزون بسهولة بين الطبع والصنعة…
الأكيد أن ناعت شاعر أو قصيدة أو بيت من معدن هؤلاء بنعت قيمة «شديد الاختصار»، بعد الاستماع والاطلاع ولو للمرة الأولى مباشرة وفي مجلس، لا يطلق نعته ذاك على عواهنه، بل إن وراء الأمر دربة واحتراف ممارس، أو دراية وتخصص عالم!
لقد تم كل شيء عند الاستماع أو الاطلاع، موازاة معهما زمنيا عند التلقي السمعي المباشر أو البصري/الذهني: التدبر والتمحيص، فإعداد الحكم: حكم القيمة، وعلى نفس الوثيرة السريعة يصدر الحكم، وقد يكون أسرع من البرق! (في تعبير القدماء، بسرعة الضوء عند المحدثين).
هذا عن سرعة التقييم الذي يأتي كما أسلفنا بصيغة قطعية لا «مساومة» فيها، وبالتالي يكشف بسفور جنوح شعرائنا ومصنفينا لذاك النوع من «الحكم السريع».
أما المتن اللفظي للحكم ففي غاية الإيجاز، وتلك لعمري غاية مقصودة منشودة، لافتتان العرب منذ القديم بما قل لفظه وعظم معناه: ألم يأت القرآن الكريم معجزهم بهذا الذي برعوا فيه ؟!…

سطوة الانطباع و«الآني»
غير أني لا أدعي علما و لا أنسب لنفسي دراية في مقامات ميلي للإيجاز في بعض ما أنجزته من قراءات تحليلية لعروض مسرحية استفزتني (إيجابا على الأرجح) … أستغفر الله: فـ«فوق كل ذي علم عليم»، و أين أنا من بلاغة فصيح أو نبوغ نحرير أو توشية عارف؟!… وأين مني درر «ابن ساعدة» و «أبي عثمان»، أو جواهر «المتنبي» ولآلئ «الشوقيات»؟!…
إيجازي في بعض القراءات – إذا ارتضاه القارئ الكريم إيجازا- ليس إعجازا على الإطلاق، بل لا يعدو أن يكون رد فعل آني ومباشر أمام العرض. قد يتأخر الإعلان عنه يوما أو بضعة أيام، لكنه وليد لحظة العرض في مكانها وزمانها وظروفها العامة.
فكما «يأخذ» المؤدي -ممثلا أو صاحب نص أو مخرجا أو تقنيا- «أجره المعنوي» آنيا و «على المباشر» من الجمهور، تصفيق استحسان أو صفير استهجان، كذلك محلل العرض يصفق أو يصفر «قراءة» و «كتابة» وإن بعد سويعات أو بعد أيام… قد يشارك الحاضرين – الذين هو أحدهم- في الاستحسان أو الاستهجان الحسيين، لينفرد بعدهما بالكتابيين، وقد يلتزم الحياد في قاعة المسرح ويكتفي بتقييمه الورقي أو الإلكتروني البعدي.
غالبا ما يكون تصفيق وصفير الجمهور قصيرين، ويتطاولا نسبيا عند المشهد الأخير؛ لكن التحليل الكتابي هو الآخر يساويهما في التوقيت وإن تمدد في صفحات، فهو يلزم حدود العرض التوقيتية بالضرورة، و من ثم يكتمل «موجزا» بطبعه.
ثم إن قراءة العرض غير قراءة النص منفردا لهذا السبب بالضبط، إذ يظل النص حيا يخترق المسافات الزمنية إلى ما لا نهاية، بينما تنتهي حياة العرض عند آخر مشاهده ويصير ما بعدها «ذكريات» له…
إنه «الإيجاز المسرحي»، وهو طبعا غير «الإيجاز اللغوي» أو «الإيجاز البلاغي»…
بيد أن»أبر» تحليل بالقارئ هو ما لم يقف عند حدود الانطباع –اليسير متنه بذاته كما سبق ذكره- وإنما يسبر أغوار المشاهد والفصول مدققا في اختيارات منتجي العرض الفكرية واللغوية واللعبية والجمالية، ممحصا الرث منها والجيد، مصنفا المنجز ومقارنا بينه وما سواه مما شابهه أو خالفه، وإلا قصر التحليل عن بلوغ رشد النقد، ولا شأن في هذا للكم، كثيره أو قليله!
ولا ضير عندي هنا إذا ما تساوت مدارسات مكونات العرض أو تفاوتت: فقد يستفز المحلل مكون بعينه أو اثنان أكثر من الآخرين (إدارة الممثل/التشخيص/السينوغرافيا…).

على سبيل الختم
… وإن من مفارقات هذه المقاربة التي أشرفت على نقطة نهايتها أنها «أبت» إلا أن تكون هي الأخرى قصيرة موجزة مختزلة مثل موضوعها، رغم أنف كاتبها، وإن حاول جاهدا «تمديد» كمها – استحياء من القارئ الكريم- لكنها استعصت على كل تمطيط وتطويل وإطناب!…
فالعذر ألتمس إن عجزت الأوراق والأقلام عن بلوغ ما يرام….

> بقلم: الحسين فسكا

Related posts

Top