الوطنية والأممية في فكر علي يعته

أولت الاشتراكية الماركسية، باعتبارها تراثا مشتركا «لجميع شعوب العالم، كما هو شأن تراث كل علم» كما يقول علي يعته، أهمية بالغة للأممية البروليتارية، التي تمثل «الكل». وجعلت منها شرطا ضروريا لبلوغ الغاية الكبرى لنضالات الطبقة العاملة التي تلتقي أمميا في النهاية، وتتقوى أكثر فأكثر بتضامنها واتحادها الذي يتجاوز الحدود القطرية. لذلك آمن علي يعته بضرورة نشر أطروحة الأممية البروليتارية، كمبادئ نشأت ونمت انطلاقا من تجارب الدول الاشتراكية بالمعسكر الشرقي، والتي وجدت صداها لدى قوى اليسار والأحزاب والمنظمات الاشتراكية والشيوعية عبر العالم. رابطا في الوقت نفسه بين «كفاح الطبقة العاملة المغربية». و»نضال الشعب المغربي» لأنهما يشكلان معا أداة ثورية واحدة ينبغي توجيه نشاطها في الجوهر لمكافحة الإمبريالية ومقاومة الاستعمار ومواجهة النظام الرأسمالي. من هذا المنطلق، آمن علي يعته بأن كفاح الطبقة العاملة المغربية يلتقي موضوعيا مع كفاحات قوى التحرر الوطني العاملة في الدول الرأسمالية والاتحاد السوفياتي «كدولة اشتراكية وحيدة في العالم آنذاك». متمسكا «بمبادئ الأممية البروليتارية القائمة على الشعار الخالد: يا عمال العالم اتحدوا»، ومدركا أن «مواجهة الإمبريالية والاستعمار، وإحراز الاستقلال لبلادنا والحفاظ عليه، والسير في طريق التقدم، لا يمكن أن يتم دون التحالف الأممي، والتضامن مع كل ما هو معاد لأنظمة القهر والاستغلال، في إطار السيادة الوطنية»، ووحدة الحركة العمالية العالمية، وأن كل هذا، سيفضي إلى تكوين جبهة ضد «الإمبريالية» سواء على صعيد «فصائل الحركة العمالية»، أو على الصعيد الداخلي المتعلق بـ «فصائل حركات التحرر الوطني» بحكم وواقع انتمائها للفصائل الثلاث للمسيرة الثورية العالمية، وهي: النظام الاشتراكي العالمي، حركات التحرر الوطني، ثم الحركة العمالية العالمية.
وتبعا لذلك، لم يدخر علي يعته جهدا في الدفاع عن هذا التوجه الأممي انطلاقا من إيمانه بمبادئ الاشتراكية العلمية، إذ يعتبرهما وجهين لعملة واحدة، ولا يمكن للإنسان أن يكون اشتراكيا دون أن تكون له قناعات أممية. ومن أفضل مقولاته في هذا الباب قوله: «إن اختيارنا الاشتراكي الصادق علمنا التحلي بهذه الروح الأممية العالية، وأبعدنا عن السقوط في الشوفينية، فما دام العدو واحدا، وهو الإمبريالية وبيادقها، ومادام الهدف مشتركا وهو التحرر والتقدم والمساواة، فإن التضامن الأممي سيبقى، إلى النهاية، مبدأ الثوريين الحقيقيين في كل بلدان العالم، مبدأ يسنح بتوحيد قوى الشعوب المكافحة ويعزز قدرتها، ويجنب التشتت والانشقاق والعزلة ويضمن الفوز والانتصار».
لقد آمن علي يعته، بما لا يدع مجالا للشك، بأن نضالات العمال والفلاحين، كثوابت أساسية ومعارك، لا تعترف بالحدود، ولا ينفصل فيها الوطني عن الإقليمي والأممي. واعتبر بأن «وحدة العمال في انتمائهم الطبقي، وأوضاعهم المعيشية ومطالبهم الاقتصادية والاجتماعية وأماكن تواجدهم، تستلزم بالضرورة وحدة نضالهم». لذلك ظل وفيا لهذه الأسس الإديولوجية مؤمنا بالمبادئ المؤطرة لنظرية الاشتراكية العلمية وملتحما حول اعتناقها التحام الجسد الواحد. ويعتبر أن نظرية الاشتراكية العلمية هي بمثابة هيكل عام يؤطر نضالات الشعوب والحركة العمالية العالمية وحركات التحرر الوطني و»الكفاح العالمي ضد الاستعمار والإمبريالية، في سبيل تحرر الشعوب والسلم العالمي والاشتراكية». وهي بهذا المعنى ذلك «الكل» غير القابل للتجزيء الذي لا يقوم على أساس «الإضافة البسيطة لبعض المعطيات المستقلة والخصوصية». ما جعل علي يعته لا يتحمس «للاشتراكيات» التي «أفرطت في إعطاء الأولوية للجزء على الكل، ولما هو خصوصي على ما هو عالمي. وبكلمة واحدة فإنها نظرية مناوئة للعلم»؛ لأنها فاقدة للبعد والمدلول العلميين، وتتنافى بالتالي مع قوانين الاشتراكية العلمية. ما يعني أن لا وجود ولا قيام للاشتراكية العلمية دون الحفاظ على سمتها الأساسية من حيث المنهج وهي الوعي العلمي. كما سماها نديم البيطار، في كيفية تحديد مفهوم الشخصية الوطنية /الهوية القومية. وهو ما يؤدي في الأخير وكشرط موضوعي أساس لقيام الاشتراكية العلمية القبول بفكرة عدم تقديس الخصوصيات المحلية تقديسا أعمى.
غير أن ذلك لا ينبغي أن يفهم منه بأن علي يعته انتصر للاشتراكية العلمية على حساب «الشخصية الوطنية»، وغلب الكل (الأممية) على الجزء (الوطنية)، وتنكر للخصوصية الوطنية والمقومات التراثية والحضارية المحلية. ففي واقع الأمر، ظل الإيمان القوي بالأممية البروليتارية وبمبادئ الاشتراكية العلمية، لدى علي يعته، مشروطا بعدم تناقضها مع الثوابت الوطنية، وأن لا يكون على حساب القضايا المركزية والمقدسة للوطن والشعب. ويقول بهذا الصدد: «في إطار الحركة العمالية العالمية، نعتقد أن لكل حزب الحق المقدس في وضع سياسته باعتبار الشروط الدقيقة والخاصة لبلده». كما أنه بالمقابل، رفض كذلك، في السياق ذاته، تحويل النزعة الوطنية إلى شوفينية ضيقة: فعلي يعته يعتبر بأن الاشتراكية العلمية هي التي قدمت إجابات وحلولا للمشاكل الناجمة عن التعدد الثقافي وتباين العناصر الثابتة والمتغيرة المحددة للهوية الجماعية. ويستدل بالتجارب الاشتراكية الناجحة التي أكدت بأن الاشتراكية وحدها فقط القادرة على احتواء وضبط وتجاوز الوضعيات الناتجة عن غياب العدالة المجالية وانعدام التوازن الاقتصادي بين الجهات. كما أنها، توفر الوعاء القيمي القادر على معالجة القضايا اللغوية والثقافية المعقدة وكل القضايا المرتبطة بالخصوصيات المحلية. واستثمار ذلك إيجابيا، من شأنه ضمان فرص أقوى لنجاح أوراش التنمية الجهوية «حتى تتمكن كل جهة من التطور الكامل لإمكانياتها وقيمها ولتدخل هذه القيم ضمن قيم الوطن ككل. وبإيجاز، فإن الاشتراكية تحرر الإنسان والمجتمع» وتخدم الخصوصيات المحلية وتحميها.
وفي المقابل، يقدم علي يعته الجزء الآخر المكمل لهذه الفكرة والذي لا تكتمل بدونه، والقاضي بأن الخصوصيات المحلية بدورها تخدم الاشتراكية العلمية، وتساهم في تقوية ونجاح التجارب الاشتراكية عبر بقاع المعمور. فالاشتراكية باعتبارها تراثا مشتركا لكل الشعوب قائم الذات على أسس علمية، وكما هو الشأن بالنسبة لكل العلوم، يتغذى فكريا ويكتسب قيمته وترتفع أهميته بحسب مستوى التفاعل الإيجابي بين النظرية العلمية والبيئة المجتمعية. وليس المطلوب هنا التطبيق الحرفي لنماذج جاهزة وفق قوالب موحدة، بل الاستناد عليها من حيث التطبيق باعتبارها «منهجا للتحليل العلمي للمعطيات الخاصة بكل وضعية انطلاقا من التجربة النضالية الخاصة بكل شعب وبتاريخه وخصائصه الثقافية». وهكذا مع تعدد التجارب الاشتراكية الناجحة وتباينها من حيث مستويات التفاعل بين النظرية العلمية والوسط المجتمعي تتوفر للشعوب أمثلة متنوعة ونماذج مختلفة لدراستها والبحث في أسباب نجاحها. كما تشكل مصادر غنى تساهم إيجابا في تطور الوعاء النظري للاشتراكية العلمية. ويتأكد ذلك أكثر بالرجوع لما تضمنه كتاب لحزب التقدم والاشتراكية بعنوان «اللغات والثقافات الأمازيغية جزء لا يتجزأ من التراث الوطني المغربي» الاستشهاد التالي: «لا تنفي الأممية البروليتارية (الوطنية) بل إن الأمر خلاف ذلك، لقد قال (جوريس): «إن القليل من الأممية يبعد المرء عن الوطن والكثير يقربه منه». ولعل هذا الاستشهاد يؤكد بأن علي يعته لم يكن أبدا ليلغي الشخصية الوطنية أو يغلب عليها الروح الأممية. كما أن حزب التقدم والاشتراكية اعتبر دائما بأن «الشيوعي الأممي هو أولا وطني»، ويأخذ بعين الاعتبار مشاعر شعبه، وفي مناسبات مختلفة وعلاقة بعدة قضايا كان باستمرار «يحث على أن لا تتحول المرجعية الأممية إلى أداة تفقد المناضل كل اتصال مع واقع وطنه وأحاسيس شعبه». حتى أن الملك محمد السادس قال عن علي يعته في هذا الاتجاه نفسه: «ينبغي التذكير بما كان يتميز به من التزام جاد ومسؤول بالقضايا الوطنية التي جعلها في صلب تفكيره ونضاله، وبوأها الأولوية، على الرغم من المرجعية الفكرية لحزبه، ذات الأبعاد الدولية».
وحرص علي يعته بنفسه، في هذا الاتجاه، علي التأكيد بأن إيمانه القوي بمذهب الاشتراكية العلمية «لا يشوه ولا يقلل في شيء من أهمية المعطيات الوطنية الخاصة بالمغرب، بمجتمعه وتاريخه، بحضارته وقيمه، بثقافته وتراثه العربي الإسلامي، وبدين شعبه الذي هو الإسلام». غير أنه يدرج الخصوصية الوطنية في «الإطار العام الشمولي». أي أنه يجعل من الخصوصية الوطنية «جزءا» ضروريا داخل «الكل» الاشتراكي. فيقول: إنها «الخصوصية التي آمنا بها ومارسناها واحترمناها منذ عشرات السنين». وهو ما يقود كخلاصة للموضوع بأن علي يعته لم يلغ الجزء ولم يلغ الكل. ولم يغلب أي من الخصوصية الوطنية والنزعة الأممية الواحدة على الأخرى. بل بالعكس اتخذ موقفا صارما من ضرورة توفر مقاربة تجمعهما وتراعي تكاملهما معا. وآمن على الدوام بشعار «لا يمكن أبدا أن تكون شيوعيا أمميا دون أن تكون وطنيا». لذلك رفض بشكل قاطع، من جهة، أي توجه نحو إلغاء الشخصية الوطنية في التجارب الاشتراكية. وحذر بشدة، من جهة أخرى، أن تتحول النزعة الوطنية إلى «وطنية ضيقة شوفينية».
إذن، فـ «ليس هناك قالب جاهز للمجتمع الاشتراكي» صالح لكل الشعوب وفي كل الظروف وعلى امتداد كل الأزمنة. لأن الاشتراكية العلمية، كما يرى علي يعته، هي مجموعة من القوانين. والتجارب الناجحة، هي التجارب التي استطاعت فيها الأحزاب الاشتراكية تكييف هذه القوانين، مع الحفاظ على بنائها العام، مع الخصوصيات الوطنية في البلدان التي تمكنت من الوصول إلى «مرحلة القضاء على المجتمع الرأسمالي الاستغلالي القمعي». فهي أحزاب تمكنت من توجيه التجارب الخاصة في إطار القوانين العلمية نفسها. ففي نهاية السبعينيات كان ما يقرب من عشرين بلدا يعيش تجارب اشتراكية ناجحة «تبين أن لكل واحد من هذه البلدان، كبيرا كان أو صغيرا، شكلا خاصا بشخصيته». لذلك فإن الاشتراكية التي ناضل من أجلها علي يعته هي اشتراكية «لها أشكالها الخاصة المطابقة لواقعنا الوطني ولتقاليدنا التاريخية السليمة»، وبالتالي فإن أي مشروع مجتمعي اشتراكي لابد أن «يأخذ بعين الاعتبار شخصية بلادنا وشعبنا وتاريخه وثقافته العربية الإسلامية وتقاليده السليمة من أجل تطوير محتواها التقدمي وتطوير شخصية شعبنا وأصالته وكرامته». بل إن الوطنية الصادقة تقود نحو اختيار الاشتراكية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي السريع. وأثبتت التجربة كذلك أن الأحزاب العمالية التي تناضل من أجل العمال والفلاحين والطبقات الكادحة من الشعب، والتي تؤطر نضالاتها بقوانين الاشتراكية العلمية هي «من أفضل المدافعين عن الوطن». بل إن الأحزاب الشيوعية عبر العالم أعطت لنضالاتها بواجهاتها المتعددة مدلولا وطنيا بطوليا.
الخلاصة المتوصل إليها: هي أن الاشتراكية بمفهومها العلمي بالصيغة التي يترافع بها علي يعته، وفي الحالة المغربية، ستنجح إذا بنيت على أساس الحاجيات الأصيلة وذات الأولوية للشعب المغربي، مستقية قوتها من تجليات الواقع الوطني ومستندة على التشخيص العلمي للمعطيات المغربية ومعتمدة على التراث الثقافي العربي الأمازيغي الإسلامي. ولا مجال نهائيا لأي نوع من «الأفكار البعيدة عن الواقع» كيفما كانت طبيعتها ومصدرها. وهنا يتم الاستدلال بالمنهج العلمي؛ فعلي يعته حين يدافع عن الاشتراكية العلمية، يقصد قوانين علمية، ويقول بأن «التحليل العلمي لا ينطلق من معتقد جامد ليصل إلى الواقع، بل من الواقع الملموس في كل مظاهره وديناميته الجدلية» حيث تتفاعل العناصر المكونة للمحيط العام فيما بينها، وتتجلى التناقضات الرئيسة والاتجاهات التي تأخذها مختلف القوى المتنامية. والاشتراكية العلمية بهذا المعنى، «تمكن من تحليل كل معطيات الواقع في مظاهره الموضوعية وكذا في بنياته الفوقية».. لأن الإرث الثقافي والحضاري للشعب هو الميدان الذي يمر فيه الصراع الإيديولوجي. ومن خلال هذا التحليل العلمي يتم التوصل إلى المسالك الصحيحة وتلمس مفاتيح «الحلول الثورية المناسبة»، لأنها تنطلق من الواقع الوطني وليس من أفكار جاهزة.

بقلم: رشيد روكبان

Related posts

Top