“بارطاجي يا مواطن”.. أو “البراح الرقمي”

انقرض البراح واندثر صوته المبحوح في ضجيج زخم الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي وغابت لازمته (لا إلاه إلا الله .. تسمعوا خير إن شاء الله) التي كان يتردد صداها في دروبنا وأزقتنا العتيقة بهدف التعبئة الاجتماعية، وارتفع بدلا عنها اليوم بوق رقمي يردد “بارطاجي يا مواطن”؛ وهي دعوة والتماس ملح من صاحب المنشور “البراح الرقمي” للقراء والمشاهدين لإعادة نشر تلك المادة إما بالنقر على زر “مشاركة” أو بنسخ الرابط ونشره على صفحة أخرى بهدف توسيع منسوب المقروئية أو المشاهدة والتفاعل معه بشكل من الأشكال.
وهكذا يقوم كل “قارئ مفترض” بدوره في المشاركة وبالتالي فعملية نشر الخبر الأصلي تشبه تلك الحصاة التي نلقيها في الماء فتتناسل دوائرها وتتسع امتداداتها واحدة تلو أخرى إلى أن تختفي في أفق المشهد العام.
عديد من المفاهيم والمصطلحات والمفردات التي ألزمتنا الثورة الرقمية على إدراجها في لغتنا العامية اليومية وغذت مظهرا سيميائيا من مظاهر الثقافة الرقمية الاستعمارية الجديدة ..
قبل أيام قليلة شاهدت في أحد المتاجر الكبرى سيدة قروية ترتدي جلبابا متواضعا وتنتعل صندالا بلاستيكيا رخيصا.. كانت منهمكة في محادثة مباشرة بالفيديو على موقع التواصل واتساب مع إحدى قريباتها تستشيرها عن أي منتوج تقتنيه لإعداد طعام الغذاء. كانت هذه السيدة القروية في تلك اللحظة تركز كاميرا هاتفها الذكي على ماركات المنتوجات المختلفة وتنتقل بين هذه وتلك.. وكم استبدت بي الدهشة لهذا المشهد الذي يختزل صورة دالة عن تحول مجتمعنا في عصر تحدي الأمية الرقمية وتجاوز فجوتها بين مختلف الشرائح الاجتماعية.
إن آلية “بارطاجي يا مواطن” لا تختلف عن هذا المشهد طالما أن تلك السيدة تشارك نقلا مباشرا مع سيدة أخرى. إلا أن هذا “البارطاج” التشاركي الرقمي غالبا ما ارتبط في ثقافة مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار الفضائح والوقائع الاجتماعية التي تحدث هنا وهناك وهي تتلبس بلون الشوهة والتشهير والنبش في عش الدبابير..
هناك أسباب عديدة لا حصر لها تحرض البعض على “التبراح الرقمي” وتختلف النوايا والأهداف بين البحث عن “البوز” ورغبة القفز إلى أعلى مراتب “الطوندونس” في المشاهدة وأحيانا بحثا عن التميز وتحقيق الذات في واقع مغربي موسوم بتهميش الطاقات الشبابية، وأحيانا أخرى يكون الدافع طمعا في “مصروف” إعلانات “الأدسينس” من اليوتوب حيث إن شهرة هذه المنصة الاجتماعية قد حققت ثروات هائلة لكثير من “اليوتوبورز” المغاربة الذين تمكنوا بفضلها من إنشاء مقاولات متوسطة واقتناء فيلات وتحسين مستواهم المعيشي.. إلخ
وإذا كانت هذه الثورة الرقمية والتكنولوجية قد أسهمت في دمقرطة وسائط التواصل بين مختلف شرائح المجتمع، وأشاعت المعلومة الصحيحة أو المغرضة، فإنها من دون شك قد خلخلت كثيرا من يقينيات المواطن ورمت به في بحر من الشكوك والتشكيك في كل ما يتلقاه قراءة وسمعا ومشاهدة.. حيث بات في مقابل كل معلومة معلومة تناقضها، ولكل صورة خلفية مبيتة تشوهها، ولكل خبر يقين خبر يقلبه رأسا على عقب.. وكل هذه الفوضى تحت يافطة “بارطاجي يا مواطن”. فلم نعد نعرف الحدود بين الحقيقة والكذب وبين المواطن الغيور على وطنه وبين المرتزقة والخونة الذين يختالون بيننا في مواقع التواصل الاجتماعي .
إننا اليوم لا نعيش حربا باردة واحدة ضد أعداء متربصين بنا في معسكر إيديولوجي خارجي كما كان الأمر قبل هدم جدار برلين، بل بتنا نعيش مئات الحروب في كل لحظة وحين في الداخل قبل الخارج وعلى صعيد عدة جبهات سوسيو رقمية تهدف أساسا إلى الإجهاز على طمأنينتنا الاجتماعية والنفسية واستقرارنا السياسي.

< بقلم: عبده حقي

Related posts

Top