بسبب كورونا، وضد التيار : الحنين إلى أيام الحجر

لكل من سيقع هذا اللغو أمام نظره، وقد يقرؤه كاملا أو بعضه، كل الحق في أن يقرأ ويتصور كلمة “الحجر” الواردة في آخر العنوان، حسب نيته، ولكل وجهة هو  مواليها.
أما العبد الضعيف، فإنه قد حسم نيته،  فالحديث هنا عن “الحجر الصحي” الكامل بكل طقوسه، تماما كما عشناه من 20 مارس إلى بداية يونيو 2020.
ولن أخفي سرا أبدا، إذا بحت بكل تلقائية وقلت إني أعيش الآن مفارقة غريبة ومقلقة، وهي أني لم أستطع ملاءمة “أنا” الآني، مع “أنا” الذي كان خلال الحجر.
إنني لم أجد نفسي – كما كنت أخالها – وقد صدق المغاربة في قولهم: “دخول لحمام ماشي بحال خروجو”، وقد ينطبق هذا المثل على: “الدخول إلى الحجر، ليس كالخروج منه*.
 فماذا حدث بالضبط؟
أظن أن لولبا محوريا في آلة ضبط الإيقاع الذاتي،  قد أصابه الخلل ما بين الدخول والخروج، فكانت النتيجة هي اصطدام بين حقيقتين، الأولى هي أن الذي مضى لن يعود، والثانية هي أن الآتي مجهول.
لم أكن أدري أن أسابيع معدودة من الحجر، كانت قادرة على أن تجعلني غير ما كنت خلال أكثر من خمسة عقود، وأنه قد أضحى الآن من العبث البحث “عني” بين ركام ما كان.
الآن وقد انتشر القوم وافرنقعوا ، ودارت العجلات في كل اتجاه، فقد ازداد في أعماق الوجدان ذلك الإحساس الغريب في الحاجة الملحة إلى “حياة الحجر” التي مرت قصيرة، لكنها تركت آثارها طويلة عميقة.
يبدو أنني قد تقمصت شخصية الكائن “الحجري” وإنني لن أغادرها، كما كنت ذات لحظات أقدر على مغادرة الشخصيات الدرامية التي شخصتها كممثل، أو تعاملت معها كمخرج .
لست أدري – وما أكثر جهلي – لماذا أحن  اليوم إلى هدوء أيام الحجر، حيث السكينة وصمت القبور يعم الحواري والأزقة.؟!
لست أدري لِمَ لم أتمكن من  الاستئناس بطوابير السيارات تجوب في صخب الشوارع المؤدية إلى شيء ما؟!، وكم أتساءل هل كان لزاما بعد حياة الحجر، أن يعود الكل إلى كل ما كان قبل الحجر، وكأن شيئا لم يحدث.؟!
الكل جازم أن أشياء كثيرة جدا قد حدثت، وأن ماءً طوفانيا قد مر تحت الجسر، ومع ذلك فلا أحد يقوى على التخلي عن شيء مما كان.
أنا جازم أن هناك حلقة مفقودة ما بين “الدخول والخروج”، ويزداد يقيني بهذا الظن، كلما تذكرت صاحبي الذي كان يردد على مسمعي عبر الهاتف ساعات من التأكيد على أن “كورونا”، فيصل فاصل بين زمنين في حياته، وإنه قد تحول إلى إنسان آخر في كل تفاصيل يومه .
وكم كنت أصدق قوله، إلى أن جاء موعد “الخروج”، وكان ما كان، إذ أن الصاحب عاد إلى ما كان وبقوة كاسحة جارفة، وكأنه ثور من ثيران “لا كوريدا”.
فماذا حدث بالضبط؟
كيف توفق الصاحب في التخلص من كل رواسب زمن الحجر الكوروني، وماذا أصابني أنا حتى بقيت سجين ذاك الزمن؟
أعترف أن العطب – كل العطب – في العبد الضعيف، وإنني ارتكبت الخطيئة حين نسجت صلات الود مع زمن حجر عابر، وإنني رهنت الدائم بالفاني، والثابت بالمار.
لكن هل يكفي هذا الاعتراف؟ ألا يحتاج الأمر إلى تصحيح وتقويم؟
إذا أجبت بـ “لا”، فقد أوصف بالجنون، وإذا قلت “نعم”، فوجب شروعي في ترتيبات الخروج من “ثقافة الحجر” الآن قبل الغد.
ولأن ما بين نهاية “الآن” وحلول “الغد” فسحة، فدعوني أعيشها كاملة في الحنين إلى زمن الحجر، فاليوم “حنين”، والغد مدبره رحيم كريم.

*سلا يوم: 25 يوليوز 2020
*مخرج مسرحي وباحث في الثراث

Related posts

Top