بمناسبة الذكرى المائوية لمعركة “أنوال” الشهيرة

عبد الهادي بوطالب في بيت محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة

حلت مؤخرا في 21 يوليو، الذكرى المائوية لمعركة “أنوال” الشهيرة، التي انهزم فيها الجيش الإسباني بقيادة سلفستر، أمام القوات الريفية المتواضعة، في هذه المعركة خسر الإسبان 15 ألف جندي و570 أسيرا فضلا عن الغنائم العسكرية التي استولى عليها جيش الخطابي.
عن هذه المعركة وعن الثورة الريفية وما أحيط بها من أسئلة وما أثير حولها من تساؤلات، يتحدث الفقيد الراحل عبد الهادي بوطالب، الذي قام بزيارة خاصة لبيت محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة سنة 1950.
في سن 26 سنة، سافر عبد الهادي بوطالب إلى المشرق العربي في أول رحلة له بالطائرة عبر باريس. فبعد انتهائه من تدريس ولي العهد الملك الحسن الثاني رحمه الله، قرر أن يقوم بزيارة إلى المشرق العربي بتنسيق مع أمين عام حزب الشورى والاستقلال محمد بلحسن الوزاني، حيث كان الراحل أحد أعضائه القياديين ورئيسا آنذاك لتحرير جريدة “الرأي العام”.
وهكذا، فقد أجرى الأستاذ عبد الهادي بوطالب عددا من الاتصالات في القاهرة مع عدد من الساسة والمثقفين وهناك كتب رواية “وزير غرناطة” التي قامت بطبعها إحدى دور النشر المصرية.
كان الراحل مهتما لمعرفة أحوال المشرق العربي، وكانت قضية فلسطين في طليعة اهتماماته وانشغالاته حيث قادته الرحلة المشرقية إلى سوريا ولبنان والأردن والقدس…للاطلاع عن كثب عن مجريات الأحداث والوقائع، حيث يحركه فضوله السياسي والصحفي، ويقول في هذا الصدد: “وكنت أسابق الزمن حتى تكون الرحلة طافحة بالمعلومات، وحتى أتمكن في نهاية المطاف من استكناه ما كان يجري على المسرح السياسي من الظواهر، وتلمس ما كان يختفي من الخلفيات والأسرار”. وفي هذا الصدد، كانت زيارته لبيت محمد بن عبد الكريم الخطابي بالقاهرة، حيث كتب في هذا الباب فصلا تحت عنوان “في بيت محمد بن عبد الكريم الخطابي بين ملامح بطل وأسرار ثورة”.
فصول هذه الرحلة وهذه الزيارة، نشرها الراحل في كتابه الذي يحمل عنوان “ذكريات، شهادات ووجوه” وهو كتاب من جزئين، يتحدث عن تطور الحركة الوطنية وعن معركة الاستقلال وعن مسار الكاتب إلى غير هذا من القضايا التي كانت محور اهتمامات الأستاذ عبد الهادي بوطالب.
وبمناسبة حلول الذكرى المائوية لمعركة “أنوال”، اخترنا للقارئ، جزءا مما كتب عن الخطابي والثورة الريفية في الكتاب المشار إليه. وفيما يلي ما خطه الراحل الكبير، عبد الهادي بوطالب رحمه الله.

في بيت الخطابي

منذ لحظة وصولي إلى بيته واحتضانه إياي عند السلام عليه أحسست أن زعيم الريف قصد أن يحطم بيني وبينه الحواجز، خاصة وقد حرص على استقبالي في جو عائلي كان محاطا فيه بأسرته: أخيه محمد نائبه ووزير خارجيته أيام حرب الريف، وعمه الشيخ عبد السلام رفيقه في الحرب ووزير المالية الذي وخطه الشيب وأنهكه الهرم، وأبنائه الستة، الأكبر عبد الكريم الذي يحمل اسم جده طبقا للعادة المغربية التي تقضي بأن يحمل الابن البكر اسم جده الراحل، وثاني أبنائه عبد السلام وبقية الأبناء الشباب: إدريس، وعبد المنعم، وسعيد، ومحسن.
كان يتطلع إلى آخر أنباء المغرب التي كان يتابعها بمواظبته على قراءة الصحافة الوطنية التي قال إنها لا تصله بانتظام، ومن خلال رسائل كانت ترد عليه من منطقة الشمال متقطعة وبطرق ملتوية. وبدا لي أنه يعلم عني الكثير، فقد كان مكتب “حزب الشورى والاستقلال” بالقاهرة زوده بمعلومات عني حين طلب إليه أن يستقبلني وأخبره أني أحمل إليه رسالة شفوية من المرحوم محمد حسن الوزاني وفاجأني زعيم الريف يقول: إني قرأت لكم في جريدة “الرأي العام”.
وكان زعيم الريف يقيم في البيت الذي أعدته وجهزته حكومة مصر لاستضافته. وكنت علمت من اتصالاتي الأولى بالقاهرة أنها رصدت لمخصصاته الشهرية مبلغ خمسمائة جنيه مصري الذي كان يبدو في مستوى العيش المصري آنذاك مبلغا خياليا بمقارنته مع مخصصات الوزراء وحاشية الملك، ولكنه مبلغ عادي إذا ما تذكرنا أن أسرة الخطابي التي جاءت معه إلى القاهرة كانت تتألف مما يناهز أربعين فردا بمن فيهم أقرباؤه وأصهاره. وكان على زعيم الريف أن يعول بالكفاف الجميع، وأن يواجه استضافة من يفدون عليه من المغرب من أصدقائه وأنصاره القدامى، وأن يستقبل في بيته الذي أصبح مفتوحا لمن يزورونه من الساسة، وأن يصرف على نشاطه السياسي الذي عرف تزايدا وامتد إلى ما وراء الدفاع عن قضية المغرب بمساندته قضايا الشعوب المغلوبة على أمرها.
وكان التناقض يبدو صارخا في البيت، بين نازليه من أعضاء الأسرة وأثاثه، فابن عبد الكريم وأخوه وعمه وبعض أصهاره من الشيوخ كانوا يرتدون الجلابية الصوفية الرمادية التي تصل في طولها إلى الساقين، وتبقى معها الرجلان عاريتين بدون جوارب، تنتعلان الحذاء المغربي التقليدي المعروف باسم البلغة. وتحت الجلابية قميص معقود الطوق من أحد جانبي العنق، بينما كان البيت مؤثثا بطراز فخم، مفروشا بزرابي تركية، وتقوم في جنباته أرائك مذهبة من أسلوب لويس الرابع عشر.
كانت بساطة ساكني البيت وتقشفهم يناطحان مظاهر الرفاهية والترف، وكانت أصالة البادية تصرخ في وجه الحضارة المجلوبة، تلك الإشكالية التي سبق للشاعر العربي أن حاول التوفيق بين شقيها فأعياه الجهد وفضل في النهاية حسن البداوة فقال :

حسن الحضارة مجلوب بتطرية  وفي البداوة حسن غير مجلوب

وكان كل ذلك يعكس حقيقة المناضل المغربي الذي رفض دائما التأقلم مع المحيط، وظل هو نفسه بزيه التقليدي المتواضع أثناء حرب الريف وعندما أعلن الاستقلال والجمهورية. وفي منفاه السحيق بجزيرة “لارينيون” لم يغير شيئا من عاداته، كما لم ينقطع عن الوفاء لها وهو بمصر. وحتى عندما كان يجبر على التحدث بالفرنسية أو الإسبانية، كان يسارع إلى الإفلات منهما للتحدث باللغة العربية، أو ليخاطب أسرته بلهجة “تاريفيت” البربرية الشائعة في منطقة الريف.

اجتماعات وأحاديث

شجعني جو الاستقبال الحار الذي خصصه لي محمد ابن عبد الكريم الخطابي على الإفضاء إليه بتطلعي إلى أن أظفر منه بالأجوبة على عدة أسئلة لتضمينها في كتاب عن رحلتي إلى المشرق العربي، ولم أخفه أن ذلك قد يتطلب أكثر من جلسة، ولاحظت على وجهه الارتياح. وكانت الأسئلة التي دونتها بعدما اتفقت معه على مبدأ طرحها عليه في جلسات تعكس ما كان لي من فضول وتطلع إلى سد الثغرات التي كانت عندي في تقييمي لحركة الريف، واستجلاء مواقف ابن عبد الكريم العسكرية والسياسية خلالها، ثم عن بعض مواقفه المستجدة منذ نزوله بالقاهرة.
وقبل كل شئ: كان السؤال الذي فرض أسبقيته هو: لماذا حرب الريف؟ وما حقيقة ما كنت قرأته عنها في بعض المصادر الأجنبية أنها إنما كانت رد فعل من زعيم الريف على لطمة تلقاها من رئيسه الإسباني، فألب لغسل عارها قبيلة بني ورياغل التي ينتمي إليها للانتقام من الإسبان ثم حولها إلى حرب؟
أم أن الحرب التي شنها جاءت –كما قيل في رواية أجنبية أخرى- على إثر خصومة بينه وبين الجنرال الإسباني “فونديز سيلفستر” الذي سجنه وظل معتقلا إلى أن تخطى سور السجن هاربا فتكسرت ساقه وظل يعاني نقصها في مشيته؟
أو بعبارة أخرى أكانت حرب الريف نعرة عصبية؟ أم جهادا مقدسا ضد النصارى كما قال عنها خصومها؟ أم حربا تحريرية بالمعنى الحضاري المعاصر؟
وأثناء الحرب هل كان الزعيم الخطابي يتوقع انتهاءه إلى الاستسلام الذي اضطر إليه؟ وإن كان لا، فعلى أي شئ كان يعتمد لتحقيق الانتصار على دولتين أوروبيتين كبريين مجهزتين بسلاح لا مقارنة بينه وبين سلاحه؟ فضلا عن أن كل واحدة منهما كانت قريبة من مواقعها اللوجيستيكية للتزود بالسلاح والذخيرة.
ولماذا أعلن جمهورية الريف باستقلال عن النظام الوطني المغربي وبواسطة حكومة تمارس مظاهر السيادة بما في ذلك شؤون الدبلوماسية الخارجية؟ الحكومة التي تجرأت على مخاطبة سلطان المغرب مولاي يوسف بواسطة المقيم العام الفرنسي، مما يوحي بأن جمهورية الريف كانت تعتبر نفسها إمارة مغربية مستقلة، خاصة وزعيمها كان يحمل لقب الأمير.
أكان قادة حرب الريف ينوون ضم المغرب إلى نفوذهم خاصة بعدما اخترق جيشهم حدود المنطقة السلطانية ووطئت أقدامه مشارف مدينة وزان بالجنوب، وأصبح يهدد عاصمة فاس؟، وهذا في الوقت الذي لم يجرؤ على اقتحام مدينة مليلية المحتلة من الإسبان عندما كان في أوج انتصاره عليهم.
وما مقدار تأثره بحركة كمال أتاتورك التي عاصرتها حركة الريف في بعض مراحلها؟ هل كان زعيم الريف متأثرا بسلوك أبي الأتراك الذي تمرد على حكومة الأستانة وأطاح بالخلافة العثمانية؟ وإلى أي حد تأثر قادة حرب الريف بالمثال التركي في تنظيمات الدولة وسير معارك الحرب؟ ثم ما هو موقفه من جهاد محمد الخامس وأسرته ونظرته إلى وحدة المغرب المستقل؟
ولماذا اختار مصر ملجأ له؟ ومن كان وراء نزوله بمصر؟
وما علاقته بزعماء المغرب العربي؟ وما سبب خصومته مع الزعيم علال الفاسي؟ وهل أنه كتب مذكراته عن حرب الريف وأنها جاهزة للطبع؟

أجوبة “الخطابي” على الأسئلة

كان حواري مع زعيم الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي يجري في جو يسوغ لي أن أصفه بالعائلي. لم يكن تحقيقا صحفيا معدا للنشر بقدر ما كنت أستهدف منه التعرف على ما كان ينقصني من معلومات عن حرب الريف وتوجهات قائدها.
وكان معروفا عن ابن عبد الكريم عزوفه عن مواجهة الصحفيين، لذا كان في حواره معي متحللا من القيود التي يخضع لها عادة المسؤولون في الاستجوابات الصحفية.
كان حديثنا ذا شجون، وكانت تتخلله استطرادات، وتوزع بين أكثر من لقاء، وأسهم في الأجوبة على أسئلتي أحيانا شقيقه محمد نائبه ووزير خارجيته.

الأجوبة: لماذا حرب الريف؟

أعود إلى إضباراتي لآخذ منها قصاصات الأجوبة التي سجلتها بالاختزال، والتي استبقتها من الآخرين، لأنهما كانا يتعاونان ويتعاقبان عليها، مما لم يعد معه ممكنا أن أنسب كل فقرة واردة في الحديث إلى صاحبها.
ولأعط الآن الكلمة لقائدي حركة الريف مجتمعين، وعند الاقتضاء سأميز بينهما عندما يستأثر واحد منهما بتوضيح، أو يتحدث عما يخصه وحده:
“لم يكن وراء ثورة الريف أي دافع شخصي، ولا نزوع انتقامي من أية شخصية إسبانية معينة، فالحركة الريفية التي قدناها كانت حربا تحريرية ضد إسبانيا قصدنا منها رفع احتلالها عن الشمال المغربي، وتطورت إلى حرب مع فرنسا أيضا عندما زجت بنفسها مختارة في الحرب، مما فرض علينا مقاومة الزحف الفرنسي واقتحام حدود المنطقة السلطانية التي أخضعتها فرنسا لحمايتها”.
ويقول محمد ابن عبد الكريم: “لو أن الأمر كان يتعلق بالرد على لطمة تلقيتها من أي إسباني لهان. ولو كان مجرد انتقام ممن أمر بسجني –كما قد قيل- لكنت عرفت كيف أنتقم لنفسي ممن اعتدى علي، وإنما قصد من اختلقوا قصصا من هذا النوع عن حركتنا تشويه أهدافها والتشكيك في عدالة قضيتنا التي كانت تستهدف التحرر من الاحتلال. وقد أطلقوا لعنانهم الخيال ليجعلوا منها قضية انتقام شخصي تارة، أو ليصبغوها بصبغة النعرة القبلية تارة أخرى في نسيج ذهني يجعل منها قصة روائية مبتذلة”.
“إننا لم ننطلق من دافع عداوة أو بغض للأجنبي –كما قيل أيضا- بالرغم من أننا كنا نحرص على الجهاد في سبيل الله لتحرير أرضنا فقط، وليس لمطاردة المشركين حيثما كانوا، والحرب لتحرير الأرض حرب مشروعة في الاعتبار الدولي ولو كان اسمها في الإسلام الجهاد في سبيل الله”.
“لا تنسوا أننا رضعنا لبان الثورة في صبانا وعشنا في أحضانها فترة من شبابنا قبل أن نأخذ قيادة حرب الريف: إن قبائل الريف ظلت رافضة للاحتلال الإسباني قبل المعاهدة الفرنسية الإسبانية وحتى بعدما أهدت فرنسا لإسبانيا منطقة الشمال بمقتضى تلك المعاهدة، حيث أخذت لنفسها حصة الأسد من أراضي المغرب بنسبة 95% وتركت الحصة الهزيلة التي فضلت عنها لإسبانيا، أي المنطقة المغربية الشمالية التي لم يكن سكانها يبلغون المليون نسمة”.
“وقد أخضعت إسبانيا ما احتلته من منطقة الشمال إلى الحكم العسكري سواء تعلق الأمر بمدينتي مليلية وسبتة اللتين سقطتا تحت الاحتلال الإسباني في وقت مبكر، أو بمدينتي العرائش والقصر الكبير وقد دخلتهما سنة 1907 على إثر احتلال فرنسا لمدينة الدارالبيضاء في الجنوب المغربي.
“وتابعت إسبانيا بسط نفوذها على المنطقة كلها بعد إلزامها مع فرنسا معاهدة تقسيم المغرب إلى منطقتين: سلطانية بالجنوب وخليفية بالشمال. وفي جميع الظروف لم يعرف “الريف” الهدوء. لأن قبائله ثارت في وجه إسبانيا، وذلك قبل أن نعلن نحن حرب الريف”.
ثورات سابقة

ويضيف قائد حرب الريف:
“عرف الريف سلسلة ثورات سبقتنا إلى ميدان الجهاد، وبذلك فلست أنا صانع ثورة الريف، بل يصح القول إن ثورات الريف السابقة هي التي صنعت وفجرت ثورتنا سنة 1921”.
“وقبل ثورتنا ثار المرحوم الشهيد الشريف محمد أمزيان على رأس قبائل الريف إلى أن استشهد سنة 1911، أي عندما كنت في سن التاسعة والعشرين من عمري أعي ما يجري بالريف وأتابع مساندة أسرتي للثورة، وأسجل في ذاكرتي دروسا عنها. وقد سجلت ثورة أمزيان انتصارات على الإسبان وحاصرت قواتهم في مليلية، واستمرت بعد موته بسقوطه في كمين نصب له، لكن قبائل الريف التي كانت على الساحل تمكنت من تحصينه، وحالت دون نزول الجيش الإسباني بالحسيمة. وكان والدنا يربيني أنا وأخي على نهج الثورة، ويعدنا لأخذ زمامها”.
“لقد أدرك حاجة الثورة إلى قيادة مؤهلة لمواجهة الأجانب، فيسر لنا في مطلع شبابنا الأخذ بناصية العلم، ومكننا من الأخذ بنصيب من الثقافة الإسبانية، خاصة أخي محمد الذي حرص والدي على بعثه إلى مدريد للدراسة بها في مدرسة الهندسة المنجمية، لأنه كان يعلم أن خيرات الريف المنجمية تستهوي إسبانيا، بل إنها سبب إصرار الإسبان على احتلاله. وبنظرته البعيدة كان يعلم أن استغلال مناجم الريف من لدن أهله يتطلب مهندسين متخصصين”.
ومضى بطل الريف قائلا:
“أحرص على التذكير بأن إسبانيا لم تقبل الاكتفاء بالهيمنة على منطقة الشمال الفقيرة إلا لأن أطماعها في الريف كانت تشكل في نظرها العوض الباهظ، ومع ذلك فالمقاومة الشرسة التي واجهتها من أهل الريف فرقت مواقف ساستها في مدريد من مشكلة الاحتلال الذي أصبح مكلفا لدولتهم، فتوزعوا بين الواقعيين الذين نصحوا بالعدول عن مغامرة الاحتلال، وبين المتكالبين الذين كانوا يطمعون في كسر مقاومة الريف لتخلو لهم المنطقة ويستتب لهم عليها كامل النفوذ”.
“كما أن علي أن أذكر أن بريطانيا العظمى كانت أكبر مشجع لإسبانيا على مواصلة عمليات إخضاع الريف للنفوذ الإسباني، مما يصح معه القول إن إسبانيا كانت بمثابة كلب الصيد السلوقي الذي كان يحرضه معلمه بريطانيا العظمى على مواصلة نهش الريف حتى لا يسقط في قبضة فرنسا. وكانت بريطانيا تخشى أن يؤدي تخلي إسبانيا عن غزو الريف إلى تحرك فرنسا من طنجة للهيمنة على مضيق جبل طارق، وإلى فقد قاعدته الحيوية، ومن بعد ذلك إلى هيمنة فرنسا على البحر الأبيض المتوسط”.
“وأثناء حربنا مع إسبانيا لم تفتأ بريطانيا تضغط على ملك إسبانيا ألفونسو الثالث عشر ليواصل جيشه المنهزم قتالنا، ولم تتورع عن استخدام زوجته البريطانية لتحريضه على إصدار أوامره لوحدات الجيش الإسباني لمواصلة الحرب”.
استرجاع سبتة ومليلية

وعند سؤالي لماذا توقفتم في زحفكم على الإسبان المنهزمين أمام بابي سبتة ومليلية المغربيتين؟
“كان الجواب: خشينا أن لا يقبل حلفاء إسبانيا أن نمس بمصالح إسبانيا إلى هذا الحد، وأن نثير ثائرتهم، ففضلنا تجزئة المعركة بإرجاء تحرير المدينتين إلى ما بعد”.
“ولقد راجعنا موقفنا بعد نهاية حرب الريف وتبين لنا أننا أخطأنا في التقدير”.

لماذا إعلان الاستقلال والجمهورية؟

وكان هذا السؤال هو أحرج الأسئلة التي ضايقت الأخوين، وأعتقد أنهما لم يكونا ينتظرانه مني خاصة عندما أعلنت لهما أن حركة الريف لو نجحت لتقسم المغرب بين مملكة كبيرة وإمارة مستقلة صغيرة لا تحتضن مقومات الوجود، فكان الجواب : “وضعنا على نفسنا الأخذ بأحد الخيارين : مواصلة الحرب كحركة تحريرية، إو إقامة حكومة مسؤولة، وترددنا قبل اعتماد الخيار الثاني لأننا كنا نسعى إلى استقطاب التأييد الدولي للتحرير. وكان توفر عنصر الحكومة ضرورة تفرض نفسها للاعتراف بمشروعية نضالنا المسلح، لكننا كنا نعتبر ذلك مجرد مرحلة نعود بعدها إلى الاندماج في المغرب المستقل الواحد عندما يتحقق التحرير الشامل.
ومع ذلك ينبغي أن تفهموا أننا لم نضف اسم إمارة الريف ولا الجمهورية إلى الحكومة التي أسسناها، كما أنني –يقول عبد الكريم- لم أسم نفسي أميرا، ولم يستعمل هذا اللقب مقرونا باسمي إلا بمعنى أمير الحرب.
وبدا علي أني لم أقتنع بهذه التأويلات، لكني أمسكت عن الإلحاح على هذا الموضوع الشائك، واستفدت منه في اقتناعي أن تحولا جذريا طرأ على زعيمي الريف بعد أن انطلقا في العمل السياسي الموزون منذ لجوئهما إلى مصر.

علاقته بالسلطان والعرش المغربيين

ومضى الحديث ليتناول نظرة الزعيم الخطابي إلى كفاح الملك محمد الخامس وأسرته، (وقد كنت تركت المغرب ينتظر مواجهة ساخنة بين السلطان وفرنسا) وإلى المرحلة الدقيقة التي تطورت فيها مقاومة الملك في فترة بداية الخمسينات التي كان هذا الحوار يجري فيها فتابع الحديث يقول :
“إن أسرتنا تدين بالإخلاص لجلالة السلطان وتقدر جهاده في هذه المرحلة. وقد كنت أتمنى وأنا أخوض حرب الريف أن يدشنها والده في نفس الفترة. ومنذ أن وصلت للقاهرة وبعد أن زدت اقتناعا بأن فرنسا تجتهد لاستغلال اسمي قصد التفريق بيني وبين جلالة محمد الخامس الذي يشخص اليوم كفاح المغرب، نشرت بجريدة الزمان المصرية بمناسبة عيد العرش لسنة 1947 هذا المقال لقطع دابر الترهات، وتأكيد تعلقي بالسلطان والعرش”.
وأعطاني نسخة مصورة لتصريح مكتوب بالخط المغربي يؤكد ارتباطه بالولاء لشخص الملك وعرشه.

المثال التركي

“لم أسع قط إلى اقتباس أي مثال من الخارج لتطوير الريف، فحركتنا كانت حرمة مسلمة، وكانت تتطلع لإصلاح الأوضاع الداخلية على هدي الإسلام وفي احترام للتقاليد القبلية الأصيلة، وإذا وجد في تنظيماتنا الحكومية والمؤسسية ما يشابه تنظيم ثورة مصطفى كمال فهو من باب وقوع الحافر على الحافر لا غير”.
اللجوء إلى مصر

“لم نكن ونحن على ظهر الباخرة “كاتومبا” التي كان مرسوما لها أن تنقلنا إلى فرنسا نتصور أن نتمكن من الإفلات من رقابة المكلفين بحراستنا، وكنا نستبعد كل احتمال بذلك حتى بعد توقفنا بميناء عدن، بل وإلى حين اختراق السفينة المياه المصرية.
وعندما أرست بالسويس وصعد إليها حاكم السويس المصري ليبلغني تحية الملك فاروق وحكومته خطرت لي فكرة طلب اللجوء إلى مصر، ولكنني لم أنفذها إلا بعد وصول الباخرة لميناء بورسعيد، حيث نزلت بمساعدة السلطات المصرية التي بلغتها رغبتي في البقاء بمصر. وكان رد ملك مصر كريما وحارا”.
“إن قرار البقاء في مصر قراري بمفردي، والحكومة المصرية –شكر الله مسعاها- هي التي صيرته نافذا. وحتى عندما هب لتحيتي ببورسعيد وفد من قادة المغرب العربي كنت وحدي المالك لاتخاذ القرار، ولم يكن لأي كان أن يتخذه بدلا مني. وآسف لكون البعض يحاول السطو على كل حدث لينسب فضله إليه، وهذا واحد من الأسباب التي تجعلني أعتب على بعض الزعماء المغاربة هذا النوع من السلوك، ومع ذلك فلا يمكن التحدث عن خلاف بيني وبينهم، فهو اختلاف من الأسلوب والاجتهاد”.

23 يوليوز 2021

مؤسسة عبد الهادي بوطالب

Related posts

Top