بناء الإنسان قبل الحجر

أثناء إحدى الزيارات لجهة طنجة تطوان الحسيمة، خاصة عروسة الشمال طنجة، أثار ت انتباهي ظاهرتان كبيرتان إحداهما تتمثل في التوافد الكبير الذي تعرفه المدينة للمهاجرين من القرى المجاورة بشكل خاص ومن باقي المدن الداخلية بشكل عام، بحثا عن فرص الشغل، فيما يشكل الارتفاع المهول لعدد مستعملي المخدرات خاصة منها التي تؤخذ عن طريق الحقن إحدى مظاهر الظاهرة الثانية.

وعندما نتأمل في الفئتين معا، نجد أن مسألة الاندماج داخل المجتمع إحدى تحدياتها، خصوصا ما يرتبط بولوج سوق الشغل لاعتبارات مختلفة ومتعددة، يشكل التكوين والموارد البشرية اللازمة التحدي الأصعب، قصد الرهان على  نقل الفئتين من العتمة إلى النور ثم الإدماج.

وإذا كانت الفئة الأولى تعاني ومعها أيضا الطبقة الهشة التي تنتمي في الأصل إلى المدينة، وتتمركز في الأحياء الهامشية في غالب الأحيان، حيث غياب التكوين الملائم والمناسب الذي يؤهلها لولوج فرص الشغل الكبيرة المتاحة بالمنطقة، فإن الفئة الثانية (مستعملي المخدرات عن طريق الحقن) والتي تعد بعشرات الآلاف، تعاني الأمرين، حيث إنه إلى جانب غياب التكوين فإنها إن خرجت من “سجن” المخدرات تجد نفسها داخل أسوار الوصم الاجتماعي، مما يعقد عملية إدماجها.

إن الفئتين المعنيتين، تعكسان بشكل بارز، صورة عدم التوازن والانسجام بين المخططات التي يتم إطلاقها لأجل النهوض بالشباب بشكل عام، وهذه الفئات بشكل خاص، وبين الواقع المعاش، خاصة على مستوى مدينة مثل طنجة، المدينة المليونية، التي عرفت خلال العقد الأخير تشييد بنيات تحتية بمواصفات جد عالية، وتجهيزات حديثة، للنهوض بالشباب، منها جزء مهم موجه لصالح الفئتين سالفتي الذكر، حيث يهدف بعضها لتكوين الشباب في مجالات عدة حتى يتم إدماجها في سوق الشغل وإبعادها عن مرتع البطالة والمخدرات، والآخر لمعالجة مستعملي المخدرات خاصة منها التي تؤخذ عن طريق الحقن، وإدماجهم أيضا، إلا أن غياب الموارد البشرية الكافية في هذه المراكز، جعلها مجرد بنايات “كالأجسام الخالية من الروح”، حيث إنه في الوقت الذي يتم محاولة تنشيط بعضها بالاعتماد على متطوعين أو مكونين بشكل محدود جدا لا يستجيب للقدر المطلوب، فإن العديد منها لا تزال مقفلة إلى أجل غير مسمى.

لذا فإن غياب سياسات عمومية حقيقية لدى القائمين على الجهة بشكل عام والمدينة بشكل خاص، تضع هذه الفئات ضمن أولوياتها، للنهوض بها، بدءا من توفير الموارد البشرية اللازمة والمؤهلة كما يجب (مكونين، موجهين، أطباء نفسيين، مختصين في المصاحبة وعلاج الادمان وإعادة التأهيل…)، لإعطاء الحياة لهذه المراكز التي كلفت ملايير الدراهم من صناديق المال العام، حتى يتم تأهيل الشباب وتكوينهم وفق متطلبات سوق الشغل، ومعالجة المدمنين، وتشجيع الشركات على إدماجهم بعد استشفائهم من خلال التوعية بأهمية هذا المكون المجتمعي والقضاء على الوصم الخاطئ الذي يبقى ملتصقا به، (فإن غياب هذه السياسات)، يجعل من هذه المراكز التي يتم تدشينها مجرد ثقوب سوداء لهدر المال العام، وتلميع صورة منطقة تأكل أبنائها وبناتها من خلال رميهم في أحضان الشارع، يواجهون مصيرهم المجهول، ويضرب كل مجهودات فعاليات المجتمع المدني عرض الحائط.

لذلك لا بد اليوم، من التفكير بجدية في هذه الفئات الاجتماعية التي تتسع قاعدتها يوما بعد آخر، ولم تعد “مجرد أقلية” يمكن الحديث أمام وضعها عن أولويات أخرى كيفما كانت نوعيتها، وإن كان الشمال يتربع على قائمة المناطق التي تعاني من الظاهرتين، فإن جميع الجهات والأقاليم تعاني منهما فقط مع اختلاف النسب؛ المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الحكومة ثم المسؤولين الجهويين والمحليين في العمل على توفير الطاقات والموارد البشرية لبعث الحياة بالمراكز القائمة، حتى تقوم بدورها، مع تأهيل وتحديث المراكز التي تحتاج لذلك، وتشييد مراكز جديدة كلما بدت الحاجة لذلك مع التفكير بشكل متواز في الموارد البشرية حتى لا نكون أمام استمرار هدر المال العام؛ لنتساءل هنا وبحرقة: إلى متى يتم الاستمرار في نهج سياسات عمومية ترفع شعارات الشباب على مستوى الخطاب فقط ؟ ألا تستحق هذه الفئات الهشة من الشباب أن يتم الاستثمار فيها حتى تكون منتجة ومساهمة في تحريك عجلة التنمية ؟

لا بد أن تعي الجهات المسؤولة، أن تكوين شاب ومساعدته على تخطي صعاب حياته كيفما كانت، وإدخاله إلى دائرة الشغل والاندماج المهني، يعني النهوض بأوضاع أسر برمتها، حيث إننا في مجتمع يعيش وفق منطق التضامن العضوي، إذ أن الشاب مشروع أسرة برمتها لانتشالها من واقعها البئيس؛ هنا نؤكد أن بناء الإنسان أهم وأسبق من بناء الأحجار.

عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top