بيان اليوم تنشر النص الكامل لمذكرة التقدم والاشتراكية حول النموذج التنموي الجديد

1 . استجابة لنداء جلالة الملك محمد السادس، يتقدم حزب التقدم والاشتراكية بهذه المذكرة المتضمنة لرؤيته واقتراحاته بخصوص النموذج التنموي الجديد، مُنطلِقا من مقتضيات الدستور، ومرتكزا على مرجعيته التقدمية والاشتراكية، ومعتمدا على تراكم إنتاجه الفكري ورصيده السياسي الذي مكَنه من التكيف المتواصل مع تطور المعطيات المجتمعية، لا سيما من خلال استثمار الاجتهاد الجماعي نظريا وممارسة، ومُستنِدا بالخصوص إلى خلاصات الجامعة السنوية التي نظمها حول النموذج التنموي، وكذا مخرجات منتديات النقاش الموضوعاتية التي تلتها، آملا أن تشكل مُساهمتُهُ لَــبِنَةً صلبةً من ضِمْنِ للبنات هذا الورش الوطني البالغ الأهمية.
2 .إِن صياغةَ بديلٍ جديدٍ وناجحٍ لنموذجٍ تنموي مُتَجَاوَز، تقتضي إحداثَ القطائعِ الجريئة والضرورية في المنهجيات كما في المقاربات التي تختزل التنمية فقط في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أنَّ أَيَّ إقلاعٍ تنمويٍّ قوي يَــمُــرُّ أساسا، وبالضرورة، من خلال إصلاحٍ سياسي ومؤسساتي عميق يتوجه، بلا أدنى تردد، نحو استئناف مهمة بناء الديموقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات القوية بمصداقيتها ونجاعتها، ونحو تعزيز قدرات جميع الفاعلين المجتمعيين، وتمكين كافة المواطنات والمواطنين من حق المشاركة الفعلية في صناعة القرار العمومي، حفظا وتعزيزا لكرامتهم وضمانا لحقوقهم في حرية الاختيار والقرار والولوج المتكافئ للموارد العمومية المختلفة.
3 . وإذا كانت بلادُنا قد حققت مكتسباتٍ لا تُنكَــر، وقطعتْ أشواطًا مُعْــتَبَــرةً على طريق الإصلاح، لا سيما خلال العقدين الأخيرين، فإنها بالمقابل أفرزت، من خلال تجاربَ متفاوتــةِ النجاعة، منظومةً مؤسساتية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تتأرجح بين عناصر النجاح وعوامل النكوص.
4 . واليوم، بفعل الترابطات الجدلية بين كافة المتغيرات، ومن أهمها تأزمُ الأوضاع الدولية لا سيما منها التقلبات التي تجري في العالم الغربي، وتَــبِعَاتُ الانتقال الديموغرافي الحاد التي تعرفها الدول النامية كالمغرب، نحن في مرحلة تاريخية تستلزم، بإلحاح، إعمالَ التفكير الجماعي وتَــمَلُّـــكَ الإرادة القوية، من أجل التقييم الرصين والموضوعي لكل التراكمات واستخلاص ما يتعين علينا القيام به، وتشكيل رؤيةٍ للحاضر والمستقبل، عبر المزج الخلاق بين ثلاثة توجهات أساسية:
> تثمين التراكمات الحضارية والموروث التاريخي الذي يجسد موضوعَ إجماعٍ وطني لا يجوز التفريط فيه بأي شكل من الأشكال ولأي سبب من الأسباب،
> تطلع مكونات المجتمع المغربي وقواه الفاعلة نحو بلوغ أفق وطني حداثي ديمقراطي وعادل، يَــمْــتَــحُ من شرعية التاريخ ويتقيد بضرورة ومتطلبات التجديد،
> الانخراط الجماعي والإرادي والحاسم في بناء الوطن على أسسٍ إيجابية جديدة، بما يجعل كُلَّ مواطنٍ يشعر بالثقة والانتماء والكرامة والأمان والإنصاف، بعيدا عن أَيِّ إحساسٍ بالهامشية أو المهانة أو اللاجدوى.
ولن يتأتى ذلك إلا بفضل سياسات إرادية وقوية تشارك في بلورتها وتفعيلها كافةُ القوى والمؤسسات، وترتكز على منهجياتٍ جديدةٍ تُشكلُ قطائعَ حقيقيةً مع منطقِ الخضوع للمصالح الفئوية، ومع الحلول السطحية، والإجراءات الظرفية، والمُقاربات القصيرةِ النَّفَس.I

‏I – استنفاذ النموذج التنموي الحالي لمهامه والحاجة إلى نموذج تنموي بديل

‏I  -1 -تشخيص تركيبي لفضائل وحدود النموذج التنموي الحالي

5 – تُــقِـــرُّ اليوم جميعُ الفعالياتِ الحية للبلاد باستنفاذِ النموذج التنموي الحالي لمهامه، وبمحدودية فعاليته. ومع ذلك مِنْ بابِ الإنصافِ والموضوعية، يتعين الاعترافُ أيضا بأن النموذجَ التنمويَّ الذي نحن عليه اليوم، أو نموذجَ النمو حسب مَنْ ينازعُ في أن المغرب له أصلا نموذجٌ تنموي، كانت له فضائلُ عدةٌ على مستوى تطوير البناء الديمقراطي، وتمتينِ القدراتِ الاقتصاديةِ والإنتاجيةِ الوطنية، والرفعِ من المستوى المعيشي العام للمواطنات والمواطنين، والانفتاحِ حضاريا وثقافيا على الفضاء الكوني بمفهومه الحداثي وبقيمه المتقدمة، لا سيما خلال العقدين الأخيرين منذ اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس العرش. ومن بين ما تجلى فيه ذلك: المكتسباتُ الديمقراطية والحقوقية التي راكمتها بلادُنا والمُتَــوَّجَةُ بإقرار دستور 2011، ومسلسلُ الإنصافِ والمصالحة، ومدونةُ الأسرة، والقوانينُ المُكَــرِّسَــةُ لحقوق الإنسان والداعمةُ للحريات، ودعم الأحزاب السياسية، إلخ…..
6 – كما برزت حَسَنَاتُ ذلك، اقتصاديا، من خلال مِحْوَرِيَّــةِ دَوْرِ الاستثمار العمومي في تشييد بنياتٍ تحتيةٍ مهمة، واعتماد استراتيجياتٍ قطاعيةٍ في مجالاتٍ اقتصاديةٍ متنوعة، صناعية وفلاحية وخدماتية وطاقية وسياحية وغيرها، لَمْ تَأْتِ بِكُلِّ ما كان منتظرا منها، لكنها رغم ذلك مَكــَّــنَــتْ من تطويرِ قدرات وأداء الاقتصاد الوطني وتقوية نسيجه، ومن ضبطِ التوازنات المالية، والرفعِ من معدلات النمو السنوية، لا سيما خلال العقد الأخير إلى حوالي 5%، مع ما واكبَ كلَّ ذلك من تقدمٍ رقمي.
7 – وسعى بلدنا أيضا إلى مُحاربةِ الفوارقِ الاجتماعية والمجالية، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية، بِـمَا يَصُونُ كرامةً الإنسان ويرفع من مؤشرات التنمية البشرية، خاصة من خلال تعميم التعليم، والشروع في تعميم التغطية الصحية والاجتماعية، واعتماد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتحسين المردودية العامة للتعليم والصحة والسكن، وغير ذلك من الإجراءات الاجتماعية المُفترضِ أن تـُـسْهِمَ في دعم قدرات  الفئات المستضعفة والوسطى.
8 – ضمن هذا الجهد التنموي المُرَكَّب، لا يمكنُ إغفالُ الجوانب القيمية والأبعاد الحضارية والثقافية، لا سيما من خلال الاعترافِ بالأمازيغية كلغةٍ وثقافة، وكذا مقاربةِ تأطيرِ الحقل الديني في اتجاه مزيد من الاعتدال والانفتاح والتسامح، وأيضا عبر انخراط المغرب في عدد من الاتفاقيات الدولية ذات البعد التحديثي والكوني.
9 – لكن مع كل هذه المجهودات، ورغم كل ما بلغه حجم الاستثمار العمومي، ظل اقتصاد بلدنا يعاني من نُمُوٍّ هش ومرتبط بالعامل المناخي والتقلبات الخارجية، وبوتيرةٍ متواضعةٍ معدلها دون 3% في الأعوام الأخيرة من هذا العقد، لا تُمَكِّنُ من استيعاب الأفواج المتصاعدة لطالبي الشغل (حوالي 200.000 سنويا)، كما ظلت الفوارق الاجتماعية والمجالية مُتَّسِعَةً، بما يؤشر على تمركزِ الثروةِ الوطنية بين أيدي أقليةٍ من المجتمع وتداولِهَا في مجالاتٍ ترابيةٍ محدودة، بالإضافة إلى ما يُسَجَّلُ عمليا من مركزيةٍ وتمركزٍ مُفْرِطَيْنِ للدولة، في مقابل هدرِ وإضعافِ القدرات المؤسساتية في استيعاب التعبيرات والحاجات والمطالب الاجتماعية والتجاوب معها داخل المجالات الترابية المحلية.
10 -في نفس الوقت، من الواضح اليوم أن كثيرا من السياسات العمومية لا زالت تغذي نظاما ريعيا يتمظهرِ بالخصوص في عدد من أشكال الدعم العمومي غير المبرر، وفي عدد من التحفيزات الضريبية الانتقائية، وفي تحرير أو فرض الأسعار، وفي تدبير بعض عمليات الخوصصة، وكذا في تدبير عدد من الاستثناءات الممنوحة للولوج إلى العقار، وضعف مجهود تطوير القدرة على مراقبة ومواجهة الممارسات المُنافية للتنافسية Pratiques Anticoncurrentielles))، وغيرها من التمظهرات التي تُعِــيــقُ، بشكل جدي وعميق، انبثاقَ اقتصادٍ وطني منتج ومُدمج وذي إنتاجيةٍ وتنافسيةٍ عاليتين.
11 -لذلك، فهذه السياسات العمومية لم تمتلك المقوماتِ الضروريةَ والكافيةَ من أجل إنتاج خدماتٍ عمومية ناجعة وذات جودة، لا سيما في قطاعات أساسية مثل التعليم وتعميم المعرفة والصحة والتشغيل والسياحة والشباب والعدالة، إلخ…، بل ساهمت نقائصُها، بالمقابل، في إقصاء فئات واسعة من المجتمع من الاندماج الطبيعي في سيرورة الإنتاج والاستفادة المتكافئة من التوزيع العادل لخيرات البلاد.
12 – كما أن جل الاستراتيجيات التنموية والبرامج القطاعية، التي كان يُرْجَى منها نموٌّ اقتصادي وتحسنٌ للأوضاع الاجتماعية العامة، لا تزال تشكو في مجملها من ضعف حكامتها والتقائيتها، ومن صعوبات تمويلها، وضعف قدرتها على مواجهة بعض التحديات الرئيسية المتصلة بإدماج النشاط الاقتصادي غير المهيكل، وبإصلاح الإدارة التي لازالت تتسم خدماتُها بالبطء والتصلب وقلة النجاعة والتدبير الترابي غير السوي، وبتجويد مناخ الأعمال الذي تتجاذبه شوائبُ عديدةٌ منها ضعفُ الشفافية، وهيمنةُ التنافس غير الشريف، وتفشي الرشوة والزبونية والريع، وضعف الثقة في النظام القضائي، وذلك برغم ما يتعين تسجيله من مجهوداتٍ على كل هذه الأصعدة. إنَّ جُلَّ نقط الضعف هاته تجد تفسيرها في عدم تأطير هذه الاستراتيجيات والبرامج بمقاربتَيْ التخطيط والتقييم اللتين تسمحان بالتتبع الصارم لإنجاز المشاريع ومعالجة النقائص.
13 – لقد أضحت أعراضُ ونتائجُ هذه السياسات والاستراتيجيات العمومية التي تؤكدها مؤشرات وتقارير متعددة لمؤسسات وطنية ودولية (مؤشرات التنمية البشرية، ترانسبارانسي، البنك الدولي، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الأعلى للحسابات، المندوبية السامية للإحصاء والتخطيط…)، تتجسد بشكل صارخ ومقلق في أوساطَ مجتمعيةٍ مختلفة، من نساءِ ورجالِ الأعمال إلى الفئاتِ المستضعفة، مرورًا بالطبقاتِ الوسطى، وذلك من خلال تعبيرات عديدة، وبأساليب متنوعة، تعكس حيرةً حقيقيةً وقلقا مستشريا، من جراء النقائصِ والسلبياتِ العديدة التي تواجهها بلادنا.
14 – لكن ما يمكن أن يجعل الوضع يتفاقم أكثر هو الترددُ الحاصلُ على مستوى تفعيل مقتضيات الدستور في بنائه الشامل والمتكامل، وما يتعرض له كذلك الحقلُ العمومي،  ولا سيما مكوناتُهُ المؤسساتية والسياسية والحزبية، من إضعافٍ وإنهاكٍ وتحجيمٍ وتبخيس يجعله عاجزا عن الاضطلاع بوظائفِ الوساطةِ وإنتاجِ الحلول وتنفيذها، وعن إفراز عرضٍ وخطابٍ سياسيين مُقِنِعَيْن ومُؤَطِّرِّيَن ومُعَبِّأَيِن وقادرَيِنِ على فتح آفاق الأمل وعلى تبديد ضبابية الحاضر وانسداد الآفاق.

‏I-  –2ضرورة انبثاق نموذج تنموي بديل للجواب على الأسئلة الكبرى

15 – كما أكد على ذلك صاحبُ الجلالةِ في العديد من خطبه الموجهة للأمة، فقد آن الأوانُ للخوض في رسم وتدقيق مقومات ومداخل وتفاصيل نموذج تنموي جديد يضمن في آن واحد نموا اقتصاديا متسارعا وتنمية شاملة وعادلة وديمقراطية متينة.
16 – إن النموذجَ التنموي لا يعني المشروع المجتمعي، وفي نفس الوقت لا يمكن اختزالُهُ في برنامجٍ إنمائي أو برنامجٍ حكومي بإجراءاتٍ محددة بعينها، فالتنميةُ مفهومٌ أوسعُ يتجاوز مسألة الزيادة في الثروة، ليشملَ أيضا طُرُقَ التوزيع وإصلاحَ الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية، بشكلٍ يتيحُ إحداثَ تغييراتٍ بنيويةٍ في المجتمع، من خلال إطلاقِ دينامياتٍ اجتماعيةٍ تُشِيعُ التعبئة والحماس لدى المواطنات والمواطنين. وبمعنى آخر فإن النموذج التنموي هو بمثابة تصورٍ مرجعي للخياراتِ والإصلاحاتِ والتوجهات والقطائع الكبرى المُتعين إحداثها لــبناء سياساتٍ عموميةٍ بمنهجياتٍ ومقارباتٍ جديدة، في إطارِ مشروعنا المجتمعي القائم، إنما بشكلٍ عابرٍ للأزمنة والبرامج والإجراءات الحكومية والتدابير القطاعية.
17 -يتعين أن ينبثق النموذج التنموي الذي نحن بصدد التفكير فيه وبلورته، من مقومات مجتمعنا ومكتسبات وطننا، وأن ينبع من حاجياته المتصاعدة والمتجددة، ومن خصوصياتنا الثقافية والتاريخية والحضارية، ومن مؤهلاتنا المادية واللامادية، بِمَا يُحَسِّنُ تموقع بلدنا في محيطه الدولي، ويعيدُ الثقة لدى المواطنات والمواطنين في وطنهم ومؤسساته وقواه. ولذلك فالنموذج التنموي الجديد مُطَالَبٌ بتقديم الأجوبة الصريحة على الأسئلة المتعلقة باختياراتنا الكبرى، ومن أهمها:
هل الديمقراطية مُجَرَّدُ تأثيثٍ تكميلي للتنمية؟ أم أنها رافعةٌ أساسيةٌ لا يمكن الاستغناء عنها في بناء وتفعيل النموذج التنموي وإنجاحه؟
* ما الغايات الجوهرية من العملية الاقتصادية؟ وأي مكانة للمواطن فيها؟
* ما دور كل فاعل من مختلف الفاعلين: الدولة والقطاع الخصوصي والمجتمع المدني؟ والهيئات السياسية والمثقفون…؟
*أي أولويات اقتصادية جديدة، بالنظر إلى مستلزمات الاستقلال الاقتصادي ومحاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية وتحسين مستوى عيش المواطنات والمواطنين؟
* ما هي أشكال وآليات الحكامة التي ينبغي اعتمادها وتفعيلها من أجل إنجاح النموذج التنموي الجديد؟
*كيف السبيل إلى اندماجٍ أكثرَ نجاعةً وفاعليةً وتأثيرا في السوق الدولية للاستفادة من إيجابيات العولمة وتفادي، أقصى ما يمكن، سلبياتِهَا؟ ……
‏II- الركائز الأساسية للنموذج التنموي الذي يقترحه حزب التقدم والاشتراكية

18 – يتعين الإقرارُ بضرورة تأسيس أيِّ نموذجٍ تنموي يتوخى الفعاليةَ والنجاعة على نظرةٍ شموليةٍ للمسار التنموي، تستحضر مُختلِفَ أبعادِهِ وركائزِهِ، بشكل يتيح التكاملَ والالتقائيةَ في ما بينها، مع ضرورةِ إيلاءِ السؤالِ الديمقراطي والمؤسساتي والحقوقي اهتماما أساسيا، باعتبار حقوق الإنسان وحدةً متكاملةُ لا تقبل التجزيء ولا الانتقائية،  فهي مَدَنِيَةٌ وسياسيةٌ واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية.
19 – ذلك دون إغفالِ البعد الدولي والإقليمي، المغاربي والمتوسطي والإفريقي، وما يمكن أن يضطلع به المغربُ بهذا الصدد كشريكٍ اقتصادي قوي وفاعل ومؤثر، وهو الأمر الذي يستدعي الأخذَ بعين الاعتبار التطوراتِ المتسارعة عالميا، بما فيها ما يتصل بالثورة الرقمية وآفاقها، وبالتغيرات المناخية وانعكاساتها، وبالمقاربات الحمائية المتصاعدة والحروب التجارية، وكذا الجوانب الإيكولوجية والثقافية.
20 – كما أن النموذجَ التنموي الجديد ينبغي أن يُدْرِجَ أوضاعَ بلادنا الحالية وآفاقِها المستقبلية ضمن سيرورةِ تفكيرٍ وقرارٍ تفاعلي مع أوضاع جيراننا وشركائنا، مما يحتم علينا إِجراءَ التقييمِ الضروري لآثارِ العواملِ ذاتِ الصلة على اقتصادنا الوطني، خاصةً بالنسبة لاتفاقياتِ التبادل الحر وما تطرحه من أسئلةٍ وتحدياتٍ جدية من حيث وَقْعُهَا السلبي على القدراتِ التنافسية لنسيجنا الاقتصادي وعلى المقاولة المغربية، وهو ما يستدعي اعتمادَ تدبيرٍ جديدٍ لمختلِفِ الشراكات، بما يتيح إمكانياتٍ أفضلَ لخدمة المسار التنموي الوطني وحِفْظِ المصالح التنموية الوطنية، كما يقتضي تدبيرا مشتركا ومندمجا لقضايا الهجرة والأمن والإرهاب، يقوم على تقاسم تَحَمُّلِ المخاطر والمسؤوليات والتَّبِعَات والأعباء مع البلدان والتكتلات الدولية المعنية.
21 – في ذات الوقت، يَــنْــبَــغِي تقويةُ المركز المحوري والرائد والواعد الذي تتجه بلادنا، بثبات، نحو تَبَـوُّئِـــهِ في إفريقيا، وإرفاقُ هذا المسار بتقييــمِ الفرصِ والإمكانياتِ التنموية، وأيضا بتقييم واعتبارِ الرهاناتِ والأعباءِ الاقتصادية والمالية المتصلة بشراكاته الجديدة وبمساعي الانخراط في المسلسلات الاندماجية في غرب إفريقيا وعلى الصعيد القاري عموما.
22 -في ظل ذلك كله، يتعين التحكمُ في قدرةِ بلادنا على الاندماج الإيجابي والفاعل في الاقتصاد العالمي، بما يُمَكِّنُهُ من الاستفادةِ من التطوراتِ العلمية والتكنولوجية المتسارعة، ومن الثورة الرقمية، بغرض الاجتياز الناجح والسلس والسريع لعدة مراحل تنموية والالتحاق بِرَكْبِ الدول الصاعدة، ثم الدول المتقدمة.
استنادا إلى هذه المنطلقات الأساسية العامة، نعتقد في حزب التقدم والاشتراكية أن ثَمَّةَ خمسة مداخلَ أساسية يرتكز عليها النموذج التنموي الجديد الذي نقترحه:

‏II -1 المدخل الأول: وضع الإنسان في قلب العملية التنموية

23 – إن حزبَنَا لا يشاطرُ المقاربةَ القائمةَ على أن آلياتِ النمو الرأسمالي وقوانين السوق قادرةٌ لوحدها تلقائيا على أن تحقق التوازنَ الاجتماعي، من خلال إعطاء الأولوية لإنتاج الثروة على حساب نظامِ توزيعها المنصف، بل يرى أن منطق النمو الاقتصادي ليس نقيضا للعدالة الاجتماعية، وأن العمليتين متلازمتان، والدليلُ على ذلك أن المجتمعات التي تعرف توزيعا عادلا للثروة هي التي تسجل نِسَبَ نمو مرتفعة، وهي التي أيضا تُظهر مناعةً أكبر ومقاومةً أنجع للأزمات، وهو ما اتضح جليا إبان وبعد اندلاع الأزمة المالية الدولية سنة 2008.
24 -وتظل الركيزة الأساس لهذا المدخل الأول هي الاستثمارُ في اقتصاد المعرفة وفي التربية والتكوين، والقضاءُ النهائي على الجهل والأمية، وتحسينُ قدرات النظام التعليمي الوطني، خاصة العمومي، والاعتمادُ على المدرسة العمومية المجانية بمقوماتِ التفوق والجودة، والارتقاءُ بالبحث العلمي والتطوير التكنولوجي ليصلا تدريجيا إلى المستوى الذي بلغاه في الدول الصاعدة.
25 – أما ركيزته الثانية فهي تلك المرتبطةُ بضمان الصحة السليمة للمواطنات والمواطنين، خاصة من خلال تعميم التغطية الصحية وتحسين تدبيرها، وتجويد مستوى الخدمات الصحية، حيث يظل الهدف الأسمى هنا هو تحقيق “أرضية الحماية الاجتماعية الشاملة ” كما هي متعارف عليها دوليا، وذلك بما يبعث روح الاطمئنان لدى المواطنات والمواطنين.
26 – ويشكل خلق فرص الشغل، إلى جانب محاربة البطالة والهشاشة، عنصرا أساسيا في هذا البعد، حيث يقتضي الأمرُ الحرصَ على توفير العمل للباحثين عنه وخاصة الشباب منهم، وتمكين جميع المواطنات والمواطنين من دخل قار، بما يصون كرامتَهُمْ ويُعيد الثقةَ إليهم، لا سيما من خلال إذكاء الشعور لديهم بأنهم مشاركون فعليون وفاعلون في المجهود التنموي الوطني ومستفيدون منه، كما ينبغي إيلاءُ عنايةٍ متميزةٍ للفئاتِ ذاتِ الاحتياجاتِ الخاصة والمسنين، والقضاءُ على كل أشكال التهميش والهشاشة.
27 -ولأجل تقويةِ التلاحم الوطني وتمتين الشعور بالانتماء وتوطيدِ وتَمَلُّكِ كُلِّ المواطنات والمواطنين للنموذج التنموي المقترح، يَتَـعَـيـَّــنُ مُحاربةُ الفوارق الاجتماعية والمجالية والنهوض بالمناطق النائية والجبلية في إطار الأولويات التي سَتُرْسَمُ للسياسات العمومية.
28 -إنما ستظل الأهداف الاجتماعية أعلاه مجرد نوايا عامة، ما لم تواكبها إصلاحاتٌ كبرى كفيلةٌ بتحقيق الوقع الإيجابي المتوخى من السياسات العمومية الاجتماعية على مستوى عيش المواطنات والمواطنين المستهدفين منها، لا سيما من خلال:
> تحسين القدرات المؤسساتية للإدارة في البرمجة والإنجاز والتتبع، في جميع القطاعات، وخاصة في الصحة والتعليم،
< تقوية كفاءة الاستهداف الاجتماعي والمجالي للسياسات العمومية الاجتماعية،
< ترسيخ ثقافة وممارسة الاستهداف بمرجعيات مقاربة النوع،
< تقوية آلية الوساطة المؤسساتية للدولة داخل المجالات الترابية الجهوية والمحلية، لا سيما عبر تطوير مصالح اللاتمركز الإداري وجعلها مُحَاِورًا فعليا وشريكا موثوقا للوحدات الترابية اللامركزية.
< تقوية القدرات التنظيمية داخل المجالات الجهوية والمحلية لمختلف الصناديق والآليات الإدارية التي تستهدف إنعاش الشغل ودعم المقاولة الصغرى.

‏II  -2 المدخل الثاني: نمو اقتصادي سريع ومضطرد

29 -ليس هناك نموذج تنموي جاهزٌ يمكن للمغرب أن ينقله إلى واقعنا بنجاح، بقدر ما يظل إنتاج هذا النموذج رهينا بقدرتنا على صياغته طبقا لواقعنا ولخصوصيات بلادنا، ومن ثمة نعتقد في حزب التقدم والاشتراكية أن اقتصادنا يتعين أن يقوم على دور استثماري وتأطيري وتوجيهي أساسي للدولة، في إطار التكامل والشراكة مع القطاع الخصوصي، ضمن تخطيطٍ استراتيجي يوضح، بشكل غير جامد وقابل للتكيف، الآفاق والأهداف التنموية ودور مختلف الفاعلين، وآجال الإنجاز للتحكم في عنصر الزمن الذي يتعين استحضار أهميته على الدوام.
30 -اقتناعُنَا في حزب التقدم والاشتراكية، إذن، راسخٌ في أن للدولة دورا محوريا في بناء اقتصاد وطني منتج ومدمج، نظرا لضعف نُضْجِ الرأسمال الوطني الذي، على الرغم من أشكال الدعم المختلفة التي يتلقاها من الدولة، لازال يتوجه أساسا نحو النشاط الاقتصادي المرتبط بالعقار والفلاحة والبناء والسياحة والخدمات، ولا يَجْرُؤُ على المجازفة، إلا نادرا، في المجال الصناعي، ولا ينخرط في الممارسات التنافسية إلا لِمَامًا، كما لا يُحْسِنُ الاستفادةَ من الأسواق التي تفتحها أمامه اتفاقيات التبادل الحر. وفي هذا الإطار، يتعين الاعتراف كذلك بأن الاستثمار العمومي الذي بلغ مستوياتٍ مرتفعةً بفعل الحجم الهائل للخصاص الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لم يتمكن من إفراز وتيرة نمو في مستوى الانتظارات والتطلعات، وذلك بسبب كَوْنِ عددٍ من السياسات العمومية في الواقع تغذي نظام الريع بجميع أشكاله وتمظهراته، لا سيما عبر آلياتِ الدعم التي تُخْطِئ الاستهدافَ الاجتماعي المُفترض أنه جوهر وغاية هذه السياسات.
31 -لذلك، فنجاح مسارنا التنموي سيظل رهينا بإحداث قطائع بنيوية تفكك النظام الريعي الذي يؤطر حاليا الاستثمار الوطني، وتُقِـــيمُ نظاما اقتصاديا بديلا يتأسس على المنافسة والابتكار وتكافؤ الفرص، لا سيما من خلال:
* المراجعة الجذرية لأنظمة الدعم والتحفيز من أجل جعلها منسجمةً مع غايات الاستهداف الاجتماعي،
*عقلنة تأطير نظام الاستثناءات وجعله خاضعا لمعايير الاستحقاق والمصلحة العامة،
* إعادة النظر في منظومة الصفقات العمومية، في اتجاه تعميم إلزامية العمل بمقتضياتها على كافة الهيئات العمومية، وبِمَنْحَى تقوية الشفافية وحرية المنافسة وتكافؤ فرص الولوج إليها، مع إدراج مقتضياتٍ تتيح الأفضلية للمقاولة الوطنية الصغيرة والمتوسطة،
* تقوية المؤسسات والآليات التي تساهم في إنعاش اقتصاد وطني يرتكز على تكافؤ الفرص والمنافسة والابتكار.
32 – ونعتقد أن النموذج التنموي، في جوانبه الاقتصادية، يتعين أن يتأسس على المضي قُدُمًا في مسار التصنيع بقدرة عالية على خلق قيمة مضافة كبيرة، والاعتماد على أحدث التكنولوجيات، على أساس الاعتماد  المتوازن على الاستهلاك الوطني وتلبية حاجيات السوق الداخلية من جهة، وعلى تنمية قدراتنا التصديرية من جهة أخرى. ولأجل ذلك يتعين توفيرُ الشروطِ الملائمة لتشجيع المقاولة المغربية والإنتاج الوطني، وهو ما ينبغي أن يتكاملَ مع الاستراتيجيات التنموية القطاعية القائمة، شريطةَ الحرصِ على ضمان حكامتها والتقائيتها.
33 – إن التصنيع البديل الذي يجب اعتمادُهُ هو ذلك الذي يُشَكِّلُ عمليةً داخليةً تروم تغييرَ البنياتِ الاقتصادية ونَسْجَ علاقاتٍ مكثفةٍ بين مختلف مكونات الاقتصاد الوطني، وخاصة بين القطاعين الفلاحي والصناعي، بغرض الزيادة في القيمة المُضافة الوطنية، مما يستدعي الاستثمارَ في توفير المهارات البشرية والتكنولوجية وترسيخَ ثقافةٍ ملائمةٍ تتأسس على تحويلِ موادَ أوليةٍ سواء كانت وطنية أو مستوردة.
34. لقد مكن تطوير المنظومات الاقتصادية (Les Ecosystèmes)، في إطار مخطط التسريع الاقتصادي، بِلَادَنَا من احتلال مواقع رائدة في بعض القطاعات التي باتت تتبوأ مكانة مهمة في الصادرات المغربية، وَاكَبَهَا تطورٌ مهم لنسب الإدماج بــها  (Taux d’intégration)، (معدل الإدماج في قطاع صناعة السيارات مثلا يتجه نحو بلوغ 65%)، وفي هذا الإطار نعتبر أنه من الحيوي مواصلة هذا المجهود في اتجاه تطويرٍ صناعيٍّ على أساس مَسَالِك (Filières) مندمجة ومرتبطة بمنظوماتٍ اقتصادية متخصصة، مما سيتيح تَوَفُّرَ وظهورَ صناعةٍ مُصَنِّعَة ودامجة تكونُ الغايةُ منها تحقيقُ التنمية الاجتماعية والاعتمادُ على العمل المؤهل والحد من سياســـة “العمل الرخيص” المُعتمَــد في نظام المناولة.
35 – فالاندماج الصناعي يظل مسألةً ضروريةً لإنتاج جزءٍ كبيرٍ من الآلات والتجهيزات والبرامج المعلوماتية التي تتطلبها الصناعات، وبدونه يصعب كثيرا الحد من العجز التجاري المزمن الذي تعانيه بلادُنا، كما أنه لا يمكن تحقيق تنمية صناعية حقيقية دون انخراط المقاولة الصغرى والمتوسطة، مما يقتضي إعادةَ هيكلة نسيجها وتقويةَ تنافسيتها وتأهيلها تنظيميا وماليا وبشريا، كما يتعين في نفس الوقت العملُ على خلقِ شركات مغربية بمثابة “أبطالٍ صناعيةٍ وطنية”  (Des champions Industriels Nationaux) في المجال.
36 – في نفس الوقت، فارتكاز النموذج التنموي البديل على التصنيع يتعين أن تُصاحبَهُ تعديلاتٌ جوهريةٌ في سياسة القطاع البنكي الذي على الدولة إعادةُ توجيهِهِ نحو تمويلِ المشاريعِ الاستثمارية الصناعية ذات القيمة المضافة، وتمكينُهُ من الآليات التي تساعده على حُسْنِ تعبئة وتوظيف المدخرات بطريقة تُفضي إلى تحقيق الأهداف التنموية الوطنية،  لا سيما من خلال التركيزِ على القطاع الصناعي وإعادةِ النظر في السياسات الائتمانية الحالية لِتَصِيرَ أكثرَ جرأةً وعدالةً وانحيازًا إلى التنوع الاقتصادي والقطاعي، بعيدا عن المقارباتِ المُرْتَكِنَةِ إلى البحث عن المكسب السهل، وبعيدا كذلك عن التعقيدات الإدارية وغير الإدارية.
37 -أما بالنسبة للقطاع الفلاحي، فقد حققت بلادُنَا تقدما كبيرا في ما يتعلق بتطوير الفلاحة العصرية الموجهة نحو التصدير التي تهم المناطق السقوية، إلا أن هذا التقدم لم يستفد منه ذوو الحيازات المتوسطة والصغرى بنفس المستوى والوتيرة، حيث حققت هذه الأخيرة بدورها تقدما محدودا دون أن تتمكن من الاستيعَابِ المُرْضِي لفئاتٍ واسعةٍ من المجتمع القروي، برغم أنها تشغل العددَ الأكبر من الفلاحين وتتوجه أساسا نحو تلبية احتياجات السوق الداخلية.
38 – لذلك، فالنموذج التنموي الذي نقترحه، وهو يستحضر تحدي سيادتنا وأمننا الغذائي، يقوم، من بين ما يقوم عليه، على ضرورة تعبئة الإمكانات المالية اللازمة لفائدة الفلاحين الصغار والاستغلاليات المتوسطة، وتشجيع هذه الأخيرة على خلق أو الانضمام إلى تعاونيات، بهدف الاستفادة من وُفُورَاتِ الحجم  (économies d’échelle)، واستعمال المكننة بغرض الرفع من الإنتاجية، وعصرنة قنوات وآليات التسويق، لا سيما إذا كانت هذه العملية مصحوبة بحملة قوية لاستئصال الأمية من بين صفوف الفلاحين الذين لم تشملهم لحد اليوم الأَلْفَبَة (L’Alphabétisation).
39 -كما يتعين تحفيزُ وتكثيفُ عملياتِ تحويلِ المواد الفلاحية، عبر إنشاءِ وحداتٍ صناعيةٍ في المجال القروي، بهدف تثمين المنتوجات الفلاحية، وخلق مزيد من القيمة المُضافة، وتوفير مناصب شغل قارة في الوسط القروي، للحد من العمل الموسمي و”التشغيل القاصـر” Le sous-emploi)).
40 -مع كل ذلك، فالتنمية الفلاحية لن تستقيم إلا بإدراجها ضمن رؤيةٍ أوسعَ لتنمية البوادي والأرياف، تلك التنمية التي تشمل مختلفَ مجالاتِ الحياة، وخاصة البنيات التحتية والمنشآت الثقافية والخدمات الاجتماعية الأساسية، مما سيُسْهِمُ في الحد من الفوارق المجالية وفي تقليص بؤر الفقر والهدر المدرسي ومختلف أشكال التهميش والإقصاء الاجتماعي.
41 -في نفس السياق، يتعين استكشافُ كل الطاقاتِ والإمكانات التي يتيحها الاقتصادُ الاجتماعي والتضامني لإشراك أكبر عددٍ ممكن من المواطنات والمواطنين في عملية الإنتاج، حيث في هذا السياق تنبغي الإشارةُ إلى أن القطاع التعاوني في الفلاحة والصناعة التقليدية، خصوصا، يشهد انكماشا وتراجعا من جَرَّاءِ الهجوم المنهجي الذي يتعرض له من قِبَلِ الرأسمال الكبير، مما يحتم على الدولة اعتمادَ آلياتٍ تنظيميةٍ وتحفيزية وحمائية لإنعاش هذا المُكَوِّنِ الاقتصادي الهام وإِكْسَابِهِ المناعةَ الضرورية أمام تحدياتِ العولمة والليبرالية المتوحشة.
42 -إن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي ننشده ليس شعارا أجوفا للاستهلاك السياسوي، بقدر ما هو حكامةٌ اقتصاديةٌ مُكَرَّسَةٌ بالأساس لخدمة وإدماج الطبقات والفئات التي ظلت على الهامش غَيْرَ معنية بالحركية الاقتصادية الوطنية، والتي لم تستفد منها لحد الساعة إلا الفئات الميسورة.
43 -كما نعتقد أيضا أنه يتعين، بشكلٍ أَوْلَوِي، استحضارُ البُعْدِ الإيكولوجي في الإنتاج الاقتصادي، والاعتمادُ أكثر فأكثر على الفرص التي يتيحها كُلٌّ من الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الدائري والاقتصاد الأزرق، مع الاستمرار بشكل إرادي في الاعتماد على الطاقات المتجددة والحفاظ على ثروات بلادنا وصيانة حقوق ومستقبل الأجيال القادمة، خصوصا ما يتعلق بمواردنا المائية وثرواتنا البحرية وغطائنا النباتي، أحراشا وغابات.
44 -إن تحقيق نمو اقتصادي سريع ومضطرد، يمر بالضرورة عبر توفير وسائل التمويل، لذا ينبغي الاعتمادُ بالأساس على تعبئة مواردنا الذاتية، تفاديا لإغراق البلاد في الديون الخارجية باستثناء الاستثمارات الخارجية المباشرة، وهو ما يستوجب ضخ دينامية جديدة في بورصة القيم وإصلاح السوق المالية، وتبسيط مساطر التمويل، والمبادرة إلى إنشاء مؤسسة ائتمانية عمومية يُعهد إليها بتمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا.
45 -ويظل الإصلاح الجبائي من أهم المداخل لتمويل الاقتصاد، فضلا عن دوره في إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية، مما يستوجب توسيع الوعاء، ومحاربة الغش والتملص الضريبيين، وإعمال مبدأ مساواة المواطنين أمام التحملات العمومية تطبيقا للمقتضى الدستوري.
46 – ويعتمد النظام الجبائي البديل الذي نقترحه، على المبادئ التالية:
> التضامن بين الطبقات والفئات الاجتماعية، لتحقيق مزيد من التماسك الاجتماعي والرفع من القدرة الشرائية، لا سيما بالنسبة للفقراء والمُعْوِزِين والمُسْتَضْعَفِين،
> الإنصاف والتكافؤ في تحمل التكاليف العمومية، حتى يشعر المواطنات والمواطنون فعلا بأنهم سواسية كما ينص على ذلك دستور البلاد،
> التحفيز لتشجيع السلوكات الجيدة والممارسات الفُضلى في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، كحماية البيئة، واقتصاد الطاقة، والبحث والابتكار والاستثمار، وخلق فرص الشغل، والتنقيب عن الأسواق الخارجية،
> الشفافية ووضع حد للاستثناءات والإعفاءات والامتيازات والتخفيضات الضريبية غير المبررة، ومحاربة كل أشكال الغش والتملص الضريبيين، وأساسا بالاعتماد على المراقبة الصارمة،
> إصلاح الجباية المحلية لجعلها وسيلةً فعالة في التمويل الذاتي للبرامج والمخططات التنموية بالنسبة للجماعات الترابية، وفي دعم تنافسية وجاذبية المجالات الترابية المحلية والجهوية.

‏II -3 المدخل الثالث: تحسين الحكامة، إصلاح القضاء وضمان مَنَاخ مناسب للعمل والأعمال

47 -سيصعب على بلادنا أن تتحكم في نموذجها التنموي، وأن تُؤَمِّنَ شروطَ نجاحه، إِنْ لم تكنْ قادرةً على تحسينِ نظامِ الحكامة، وعلى ضمانِ مَنَاخٍ مُلائمٍ للعمل وللأعمال، وعلى تأمين مستلزماتِ دولة الحق والقانون في المجال الاقتصادي، خاصة من خلال القضاء الحاسم على مختلف مظاهر وأشكال الفساد والرشوة، وإقرار شروط الشفافية والتنافس الشريف، والقضاء على مظاهر الاحتكار غير المشروع واقتصاد الريع، وضمان شروطٍ مناسبة للاستثمار الوطني والأجنبي، وهو ما يستلزم التحكم في سرعة القرار ونجاعته وشفافية مساطره، والقيام بإصلاحٍ إداري حقيقي يعتمد، من بين ما يعتمد عليه، على تعميم رقمنة الإدارة، وربط تحفيز الموارد البشرية بالتكوين والتأهيل والمردودية، والتفعيل الجريء لمبدأَيْ اللاتمركز واللاتركيز، بما يوفر شروط تدبير ترابي ناجع للسياسات والتوجهات العمومية، وعلى المضي قُدُمًا في تفعيل الجهوية بشكل يتلائم مع مضامين دستور 2011، وعلى القطع مع التردد في بناء الدولة الترابية.
48 – في هذا السياق، يظل نجاحُ النموذج التنموي مرتبطا بمدى نجاعة والتقائية البرامج العمومية داخل المجالات الترابية المحلية والجهوية، مما يستلزم إرادةً سياسية أقوى لبلورة إصلاحٍ عميق يهم التنظيم الترابي للدولة الذي تشوبه الآن ازدواجيةٌ غيرُ متناغمةٍ، ويكتنفه غموضٌ حاد  في المسؤوليتين السياسية والإدارية، ولذلك يتعين:
> إعادة النظر في العلاقة القائمة اليوم بين اللامركزية واللاتمركز الإداري، والاتجاه نحو إقرار الوَحْدَة المؤسساتية، لتجاوز النموذج الترابي الحالي المتسم بعدم الانسجام وبانفصام المسؤولية السياسية عن المسؤولية الإدارية؛
*إصلاح منظومة لاتمركز الدولة، بما يضمن سرعة تنفيذ البرامج وفعالية التنسيق والتزامن، مع اعتماد مبدأ التفريع في توزيع الاختصاصات وممارستها بين الدولة ووحداتها اللاممركزة، وتقوية القدرات الإدارية والتنظيمية للإدارات الجهوية، خاصة في مجال البرمجة والتنفيذ والتتبع والتقييم؛
> تطوير اللامركزية،  لا سيما من خلال إضفاء قيمة أكبر على مبدأ التدبير الحر، وتعميم الاقتراع العام المباشر في انتخاب جميع المنتخبين والرؤساء والمستشارين بالجماعات الترابية، وتقوية التكامل والتفاعل بين مختلف الجماعات الترابية لأجل ضمان انخراطها في نفس الأهداف التنموية المجالية؛
>عقلنة وإعادة هيكلة توزيع الموارد العمومية، عبر إدراج معيار المؤهلات الترابية  للجهات Vocations Territoriales))، إلى جانب المعايير الأخرى المعمول بها حاليا؛
> إحداث القطيعة مع المقاربة الضبطية التي تؤطر التقطيعات الإدارية والتقسيمات الترابية، وإعادة النظر في الموضوع، من خلال إحلال المقاربة التنموية بشكل حاسم؛
>ضمان مشاركة المواطنات والمواطنين في بلورة السياسات العمومية الترابية، كما ينص على ذلك الدستور، وإخضاع جميع البرامج للمناقشة والمصادقة داخل المجالس المنتخبة، واعتماد تقارير نصف سنوية (Semestriels)، تُقدَّمُ وتُناقَشُ في إطار هذه المجالس، لتقييم الإنجاز مرحليا.
49 -ولأن اقتناعَنَا راسخٌ في كون أيِّ نموذجٍ تنموي لن يُكتبَ له النجاحُ دون تَمَلُّكِهِ من قِبَلِ الطبقة العاملة وانخراطها القوي فيه، فإنه من الأساسي التفافُ الدولة والمقاولين والنقابات، عبر حوار اجتماعي وطني منتج وخلاق، حول ميثاق اجتماعي يصون حقوق وواجبات كل طرف في عملية الإنتاج والتنمية، ويوفر مناخا سليما لتطوير الاستثمار، ويقوي جاذبية الاقتصاد المغربي وتنافسيته.
50.    وبنفس عُمْقِ الاقتناع، نعتقد أن حكامةَ النموذج التنموي، مرتبطةٌ أشَدَّ ما يكون الارتباط، بقضايا المساواة بين النساء والرجال، لذلك فالحَاجَةُ مُلِحَّةٌ اليوم للتفعيل الحاسم للمقتضيات الدستورية ذات الصلة، ارتكازا على المكتسبات والرصيد المُحَقَّقِ على هذا الصعيد، لا سيما من خلال:
> مراجعة مدونة الأسرة في اتجاه ملاءمتها مع المقتضيات الدستورية؛
> تحفيز ولوج المرأة إلى سوق الشغل، والرفع من معدل نشاطها وانخراطها في الشغل بِضِعْفِ ما هو مسجل الآن على الأقل، ليصير في مستوى المتوسط العالمي (50% عوض 25% حاليا)، مع الإقرار العملي للمساواة في الرواتب والأجور بين الرجل والمرأة في القطاعين العمومي والخصوصي؛
> إعمال إلزامية المناصفة في الولوج إلى المناصب العليا ومراكز القرار العمومي؛
> تجريم الصور النمطية الحَاطَّة من كرامة ومكانة النساء، في كافة مناحي وفضاءات الحياة العامة؛
> إدماج مقاربة النوع، إجباريا، في كل السياسات والاستراتيجيات والمخططات العمومية، وفي البرامج والمناهج التعليمية؛
> إدراج مقاربة النوع في كل مقاربات وسياسات الاستهداف الاجتماعي القطاعي والأفقي؛
> مراجعة وإعادة تأهيل كافة النصوص القانونية وتَنْقِيَّتُهَا من العبارات والتعابير والمقتضيات التمييزية؛
> إعطاءُ العملِ المنزلي للنساء ربات البيوت الاعتبارَ المعنويَ الذي يستحقه وترجمةُ ذلك على أرض المعاملات المادية والمالية، وكذا في الحسابات الوطنية.
51. كما تُطرح، بقوة اليوم في مجتمعنا، مسألةُ ممارسة المسؤولية وما يلازمها من مُساءلة، في إطار التطلع الشديد إلى ترسيخ قيم جودة التدبير والشفافية والثقة والمصداقية، مما يُحَتِّمُ ضرورةَ مراجعةِ الإطارِ القانوني لعدد من مؤسسات الحكامة والمراقبة والضبط، وإعادة تقييم عملها وأدائها ومنهجياتها، ووضع الإمكانات والوسائل اللازمة رهن إشارتها لتضطلع بوظائفها الدستورية على الوجه الأكمل، مع تسريعِ وتيرة إصلاح القضاء، وتكريس ثنائية الحق والواجب في جميع مستويات ومفاصل الفضاء العمومي.
52. يُعتبر الحفاظُ على الأمن الحقوقي والقانوني والقضائي غايةَ كل ديموقراطية وضامنَ كل تنمية مستدامة، ولذلك تتعين مُباشرة إصلاح القضاء، بشكل عميق وسريع، من زاوية تفعيل روح وفلسفة كل المقتضيات الدستورية ذات الصلة بمجاليْ الحريات وسيادة القانون، لا سيما من خلال:
> الحرص على إلغاء كافة المساطر والمقتضيات المنطوية على التمييز أو الامتياز؛
> إقرار وتعميم مجانية التقاضي؛
> اعتماد خيار القضاء الرقمي، ضمانا للتحكم في الزمن القضائي، وتقريبا للقضاء من المواطن، وتأمينا لشفافيته؛
>فتح إمكانيات أوسع أمام المواطنات والمواطنين للتظلم من القضاء وخدماته، وذلك لدى المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
>إحداث هيئة عليا للرقابة على خيارات السياسة الجنائية الوطنية، باعتبار هذه الأخيرة مجالا مُهَــيْــكــِلًا لحقوق المواطنة وثقافة حقوق الإنسان، مع الحرص على ملاءمة السياسة الجنائية مع تحدي مكافحة الجريمة المنظمة والجريمة العابرة للحدود؛
>تعديل أسس التنظيم القضائي بما يعزز الرقابة المواكِبة على التط بيق السليم للقانون، وبما يقوي ربط المسؤولية بالمحاسبة في القضاء.

‏-II  -4 المدخل الرابع: البعد القيمي والثقافي والمجتمعي

53 – من البديهي أنَّ تعميم المعرفة بين صفوف المواطنات والمواطنين والاعتناء بتكوين الناشئةِ تكوينا قائما على التقيد بقيم الوطنية والمواطنة ستكون له انعكاساتٌ إيجابيةٌ على الحياة العمومية الوطنية، سواء على مستوى مؤسسات المجتمع المدني، ما فيها الأحزاب والنقابات والإعلام والمنظمات غير الحكومية، أو على مستوى مؤسسات ممارسة السلطة، وخاصة منها السلطة الحكومية والمنتخبة.
54 – هناك حاجةٌ مُلِحَّةٌ لتفعيل ما سبق، لأنه هو الذي يخلق إطارَ ترسيخِ حكامةٍ ديمقراطية عصرية ناجعة، من شأنها تعزيزُ قدرةِ المغرب على كسب رهانات نموذجه التنموي وتحقيق أهدافه. ومما لاشك فيه أن هذا يُعد رهانا أساسيا في النقاش الجاري حاليا ببلادنا لرسم معالم هذا النموذج الذي نقوم بصياغة ملامحه المُجَدِّدَةَ بشكل جماعي.
55 – وكما أكد على ذلك كثيرا أحَدُ مؤسسي الفكر الاقتصادي المغربي، الفقيد الدكتور عزيز بلال، فالنموذج التنموي لا يستقيم دون الاعتماد على ما أسماه بالعوامل غير الاقتصادية للتنمية.
56 -وتتجسد هذه العوامل خصوصا في قدرة المغرب على اختراق عالم الحداثة والمعرفة من الباب الواسع، لا سيما من خلال تطوير استعمال العقل والتحليل العلمي في مقاربة الواقع والقدرة على استيعاب الجديد، وهو ما لا يتناقض مع صَوْنِ تراثنا الوطني وإعطائه القيمة العالية التي يستحقها.
57 – في هذا السياق، يتعين مواصلة وتقوية الانفتاح على الثقافة الكونية، والسعي إلى استفادة عموم الشعب من تطوير الكفاءات والمهارات، من خلال استئصال الأمية والجهل وتعميم الولوج إلى الثقافة وفضاءاتها كوسيلة أساسية لدعم استقرار البلاد وتطويرها، عبر تقاسم قيم مشتركة، وبالتالي تقوية التماسك الاجتماعي، وهو ما يتكامل مع ضرورة صيانة التنوع الثقافي والتدبير الجيد للمسألة الأمازيغية في إطار وحدة الانتماء.
58 – إن أي نموذج تنموي لا يمكن أن يقفز على ما يكتسيه التقدمُ  في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية من أهميةٍ بالغةٍ في صَوْنِ تلاحم مقومات هويتنا الوطنية الموحدة، بانصهارِ كل مكوناتها العربية الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
59 -ويظل دور المثقفين والمفكرين والمُبدعين أساسيا على كل المستويات، من خلال توفير الشروط الملائمة للنهوض بأدوارهم في إنتاج الأفكار والقيم، والتعبير الحر عنها، وتبادلها، وفي حمل التطلع إلى الإبداع والابتكار والتجديد، علما أنه يتعين النظرُ إلى المسألة الثقافية ليس كعبءٍ مجتمعي، بل كرافعة لقيمة شعبنا بين الشعوب، وكفضاءٍ منتجٍ يتيح بدوره فرص الاستثمار والشغل والدخل.
60 – اعتبارا لضعف النفقات الثقافية لدى الأسر المغربية، وبالنظر إلى الطابع الجنيني لبعض الصناعات الثقافية والإبداعية التي لا تمتلك المناعة الكافية لمواجهة المنافسة، ونظرا لخصوصية الإنتاج الثقافي الذي يجمع في آن واحد ما بين الطابع القيمي والطابع التجاري، يتعين أن يشكل دعمُ المشاريع الثقافية والفنية من طرف الدولة والمؤسسات والمقاولات العمومية والخاصة والجماعات الترابية الرافعةَ الأساسية في تطوير الإنتاج الثقافي والإبداع الفني.
61 – في هذا الصدد، نقترح إضافة آلية تمويلية جديدة، أبانت عن فعاليتها وجدواها في الدول التي اعتمدتها، من أجل تقوية وتنويع العرض الثقافي وتقريب الجمهور الواسع من الفنون، وفتح آفاق جديدة للمبدعين الشباب، ويتعلق الأمر بآلية التمويل الإجباري، من خلال رصد نسبة مئوية من ميزانية استثمار هذه الهيئات والمؤسسات للأعمال الإبداعية.
62 -من جهة أخرى، يستلزم النموذج التنموي الجديد بالضرورة الرفع من مكانة وأدوارِ المثقفين وتيسيرَ إسهامهم في الديبلوماسيةِ الأكاديمية والثقافية والفنية، كما يقتضي توفيرَ الشروطِ الملائمة لانبثاق الجودة في الإنتاج الفكري والثقافي والفني.
63 -في نفس الوقت، ينبغي القطعُ مع التردد في إعطاء المكانة المتميزة للثقافة والفن ولدراسة المناهج الفلسفية والتاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية عموما، داخل منظومتنا التعليمية.

‏II  -5 المدخل الخامس: الديمقراطية لحمل النموذج التنموي

64. إننا نعتقد أن الممارسة الخلاقة للديمقراطية ببلادنا، في نطاق التقيد بأخلاقياتها وميكانزماتها المجرَّبَة، هي الكفيلة بتخصيب الحقل السياسي الوطني، وبتأمين أجواء الثقة والاطمئنان، التي وحدها ستجعل المغاربة يشعرون بالرضى عن العيش في وطنهم، بعيدا عن الرغبة المتصاعدة في مغادرته بحثا عن “حياة مثالية افتراضية” في الضفة الأخرى.
65. ويتعين هنا التذكير بأن مسألتي الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، عنصران جوهريان ومتلازمان ومتكاملان لبناء ثقة المغاربة في مستقبل بلادهم.
66. ولاشك أن الديمقراطيةَ المغربيةَ الواجب تحصينُها وتطويرُها، قد تم إغناؤها ضمن المتن الدستوري لسنة2011، خصوصا من خلال التأكيدِ على الملكية الدستورية الديمقراطية البرلمانية والاجتماعية، وكذا الارتقاءِ بالخيار الديمقراطي إلى مرتبة الثوابت الجامعة للأمة، وهي المبادئ الدستورية التي يتعين الحسمُ في تفعيلها والقطعُ مع الترددِ في السيرِ على نهجها وتحملِ أعبائها وتبعاتها بقناعةٍ راسخةٍ في أنها وحدَهَا الكفيلةُ بضمان مستقبلٍ أفضل لوطننا وشعبنا، على الرغم من العثرات الطبيعية التي يمكن أن تبرز في الطريق نحو ذلك ، فالشعوبُ لا تتعلم سوى من أخطائِهَا.
67.    كما أرسى الدستور دعامتين متكاملتين هما الديمقراطية التمثيلية باعتبارها المقاربة المرجعية للموضوع، والتي لا بديل عنها ولا مناص منها، ثم الديمقراطية التشاركية بوصفها تجديدا مُستحدثا يُثْري ويُكَمِّلُ الديمقراطية النيابية، من خلال إلزامية إشراك المواطنات والمواطنين في القرار والفعل العموميين والمؤسساتيين، وذلك مدخلٌ أساسي من مداخل النموذج التنموي البديل، إذ نؤكد على أن الآليات الدستورية الجديدة تتسم بالطموح الكبير، ويتوجب أن تنصب جهودُ جميع الفاعلين على تنفيذها وتفعيلها على أرض الواقع، دون تردد أو نكوص أو تراجع أو تأخر.
68. فبقدر ما يتعين العمل على تفعيل مضامين الدستور في المجالين السياسي والمؤسساتي، من خلال تقوية دور الفاعلين السياسيين، وتمتين مهام وصلاحيات المؤسسات المنتخبة، وضمان توازن حقيقي للسلط، والإقرار بقدرة كل هؤلاء المتدخلين على قيادة مسلسل التغيير، بقدر ما يتعين ضمانُ ممارسة الحريات الفردية والجماعية في إطارِ تَمَلُّكٍ خلاقٍ لثنائيةِ وجدليةِ الحقوق والواجبات، وإقرارٍ لمبدأ المساواة بجميع أشكالها وفي جميع مستوياتها: المساواة بين المواطنين، المساواة بين المجالات، المساواة بين المرأة والرجل، المساواة في الفرص والمؤهلات، المساواة في الولوج إلى الخدمات، المساواة أمام الضرائب وإزاء تحمل التكاليف العامة حسب إمكانياتِ كل شخصٍ ذاتيًا كان أو معنويًا.
69. إن الإِقْرَارَ بكل ذلك وتفعيلَهُ، هو ما من شأنه أن يُعِيدَ الثقة للمواطن في وطنه، وفي الدولة ومؤسساتها، وذاك هو السبيلُ لإشاعة الطمأنينة العامة في مختلف أوساط المجتمع، ولإذكاء الحمية في النفوس، ولترويج خطاب التفاؤل والأمل والتطلع إلى غد أفضل، خِطابٍ يضع حدا لثقافة التشاؤم والعدمية، مما سيمكن من توفير المناخ النفسي والاجتماعي والمجتمعي الملائم، وتأمين أجواء التعبئة اللازمة لإنجاح النموذج التنموي البديل.
70. وبعبارات أوضح، نموذجٌ تنموي جديدٌ يحتاج، من دون شك، إلى خبرة ومعرفة وكفاءات ومهارات وقدرات تقنية وموارد بشرية متطورة، لكنه، كما هو الشأن في كل المجتمعات المتقدمة على اختلاف أنظمتها السياسية، يحتاج كذلك وبشكل أساسي إلى فاعلين سياسيين أقوياء يتمتعون بثقة الناس وبمصداقية خطابهم وبنفوذ رسالتهم إلى مختلف أوساط المجتمع. وعلى رأس هؤلاء الفاعلين، يبرز الدور الذي لا يُعَوَّضُ لأحزابٍ سياسيةٍ  تحمل النموذجَ التنموي المنشودَ، وتتحمل أعباءَهُ ومُستلزماتِهِ وصعابَ بلورته ومُخَلَّفَاتِ إجراءاته الإصلاحية، وتكون قادرةً على الإقناع وعلى التدبير الجيد لمسلسل التغيير.
71.  ولن يستقيم ذلك إلا من خلال حفاظ هذه الأحزاب على مصداقية قراراتها، ومن تـَـــمَّ يتعين اليوم كما ورد في خطابي صاحب الجلالة بمناسبة عيد العرش الأخير وبمناسبة افتتاح السنة التشريعية، رّدُّ الاعتبار للعمل السياسي من حيث وظيفتُهُ التأطيرية والقيادية، وإحداث مصالحةٍ حقيقية بين المواطن والفعل السياسي، إذ يتعين الإقرار بِأَنْ لا نموذجَ تنموي حقيقي بدون الاعتماد على من سيحمله سياسيا.
72.  على هذا الأساس، تتعين مصاحبةُ بحثنا المشترك عن نموذج تنموي ناجع بنقاش وطني واسع قادر على حشد الطاقات، وترويج الأفكار، واستنهاض الهمم، وبعث نَفَسٍ ديمقراطي جديد في المجتمع. 

ملخص مساهمة حزب التقدم والاشتراكية في خمسين (50) مقترحا إصلاحيا تحت خمسة مرتكزات

في ختام هذه الوثيقة، نقدم صيغة مكثفة لمساهمة حزب التقدم والاشتراكية، وذلك في شكل اقتراحات إصلاحية كبرى تضمنتها المذكرة، كما يلي:

المدخل الأول: وضع الإنسان في قلب
العملية التنموية

* الاستثمار في اقتصاد المعرفة، وفي التربية والتكوين، والقضاءُ النهائي على الجهل والأمية؛
* تحقيق أرضية الحماية الاجتماعية الشاملة، كما هو متعارف عليها دوليا؛
* إيلاءُ عنايةٍ متميزةٍ للفئاتِ ذاتِ الاحتياجاتِ الخاصة والمسنين، والقضاءُ على كل أشكال التهميش والهشاشة؛
*مضاعفة الجهد العمومي لمُحاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية والنهوض بالمناطق النائية والجبلية؛
*تقوية كفاءة الاستهداف الاجتماعي والمجالي للسياسات العمومية الاجتماعية؛
*ضمان الوقع الاجتماعي المنصف للسياسات العمومية من خلال تطوير مصالح اللاتمركز الإداري وجعلها مُحَاِورًا فعليا وشريكا موثوقا للوحدات الترابية اللامركزية المتميزة بالقرب من المواطنات والمواطنين.

المدخل الثاني: نمو اقتصادي
سريع ومضطرد

* تعزيز دور الدولة المحوري في بناء اقتصاد وطني منتج ومدمج، خاصة بالنظر إلى ضعف نُضْجِ الرأسمال الوطني؛
* إحداث قطائع بنيوية تفكك النظام الريعي الذي يؤطر حاليا معظم الاستثمار الوطني، وتؤسس لنظام اقتصادي بديل يقوم على المنافسة والابتكار وتكافؤ الفرص؛
*المراجعة الجذرية لأنظمة الدعم من أجل جعلها منسجمةً مع غايات الاستهداف الاجتماعي، وعقلنة نظام الاستثناءات لجعله خاضعا لمعايير الاستحقاق والمصلحة العامة؛
* إعادة النظر في منظومة الصفقات العمومية، في اتجاه تعميم إلزامية العمل بها على كافة الهيئات العمومية، وفي منحى تقوية الشفافية والمنافسة وتكافؤ الفرص؛
* الاستثمار في توفير المهارات البشرية والتكنولوجية وترسيخَ ثقافةٍ صناعية ملائمةٍ تتأسس على تحويلِ المواد الأولية؛
* اعتماد تطوير صناعي وطني يقوم على أساس مَسَالِك (Filières) مندمجة ومرتبطة بمنظوماتٍ اقتصادية متخصصة؛
*العمل على خلقِ شركات مغربية بمثابة “أبـطالٍ صـــناعيةٍ وطنية” (Des champions Industriels Nationaux)؛
* إعادة توجيه سياسة القطاع البنكي نحو التركيز على تمويلِ المشاريعِ الاستثمارية الصناعية ذات القيمة المضافة، والانحياز الإيجابي إلى التنوع الاقتصادي والقطاعي؛
*تعبئة الإمكانات المالية اللازمة لفائدة الفلاحين الصغار والاستغلاليات المتوسطة، والتشجيع على خلق أو الانضمام إلى تعاونيات؛
* تحفيز وتكثيف عملياتِ تحويلِ المواد الفلاحية، عبر إنشاءِ وحداتٍ صناعيةٍ في المجال القروي؛
* إشراك أكبر عددٍ ممكن من المواطنات والمواطنين في عملية الإنتاج، من خلال استكشاف واستثمار كل الإمكانات التي يتيحها الاقتصادُ الاجتماعي والتضامني؛
* استحضارُ البُعْدِ الإيكولوجي في الإنتاج، والاعتمادُ على الفرص التي يتيحها كُلٌّ من الاقتصاد الأخضر والاقتصاد الدائري والاقتصاد الأزرق، مع تعزيز الاعتماد على الطاقات المتجددة، والحرص على الحفاظ على الثروات الطبيعية لبلادنا؛
* الاعتمادُ أكثر على تعبئة مواردنا الذاتية في تمويل الاقتصاد الوطني، وإنشاء مؤسسة ائتمانية عمومية يُعهد إليها بتمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا؛
* توسيع الوعاء الضريبي، ومحاربة الغش والتملص الضريبيين، والتفعيل الصارم لمبدأ المساواة أمام التحملات العمومية؛
* اعتماد نظام جبائي بديل يقوم على مبادئ: التضامن بين الفئات والطبقات الاجتماعية، الإنصاف والتكافؤ، التحفيز، والشفافية؛
* إصلاح الجباية المحلية لجعلها وسيلةً قوية وفعالة في التمويل الذاتي للبرامج والمخططات التنموية بالنسبة للجماعات الترابية.

المدخل الثالث: تحسين الحكامة،
إصلاح القضاء وضمان مَنَاخ مناسب
للعمل والأعمال

* تأمين مستلزماتِ دولة الحق والقانون في المجال الاقتصادي، والقضاء الحاسم على مختلف مظاهر وأشكال الفساد والرشوة والريع والاحتكار غير المشروع؛
*مباشرة إصلاحٍ إداري يعتمد على تعميم رقمنة الإدارة، وربط تحفيز الموارد البشرية بالتكوين والتأهيل والمردودية، والتفعيل الجريء لمبدأَيْ اللاتمركز واللاتركيز؛
* بلورة إصلاحٍ عميق للتنظيم الترابي للدولة للحد من ازدواجية وغموض المسؤوليتين السياسية والإدارية، وإعادة النظر في العلاقة القائمة بين اللامركزية واللاتمركز؛
*إضفاء قيمة أكبر على مبدأ التدبير الحر، وتعميم الاقتراع العام المباشر في انتخاب جميع رؤساء الجماعات المحلية والإقليمية والجهوية، وتقوية التكامل بين الجماعات الترابية؛
* إعادة هيكلة توزيع الموارد العمومية، عبر إدراج معيار المؤهلات الترابية للجهات Vocations Territoriales))؛
*إ حداث القطيعة مع المقاربة الضبطية التي تؤطر التقطيعات الإدارية والتقسيمات الترابية، وإحلال المقاربة التنموية بشكل حاسم؛
*بلورة ميثاق اجتماعي يصون حقوق وواجبات جميع أطراف الإنتاج، من أجل توفير مناخ سليم لتطوير الاستثمار، وتقوية جاذبية الاقتصاد الوطني وتنافسيته؛
* الحسم في إعمال المساواة بين النساء والرجال، ومراجعة مدونة الأسرة في اتجاه ملاءمتها مع المقتضيات الدستورية، وتجريم الصور النمطية الحَاطَّة من كرامة ومكانة النساء؛
* الرفع الإرادي من معدل انخراط المرأة في الشغل بِالضعف على الأقل، مع الإقرار العملي للمساواة في الأجر؛
* إعمال إلزامية المناصفة في الولوج إلى المناصب العليا ومراكز القرار العمومي،
* إدماج مقاربة النوع، إجباريا، في كل السياسات العمومية، وفي المناهج التعليمية، وفي كل سياسات الاستهداف الاقتصادي والاجتماعي،
* إعطاء العملِ المنزلي للنساء ربات البيوت الاعتبارَ الذي يستحقه، وترجمة ذلك على أرض المعاملات المادية والمالية، وكذا في الحسابات الوطنية،
*مراجعة الإطار القانوني لعدد من مؤسسات الحكامة والمراقبة والضبط، وإعادة تقييم عملها وأدائها ومنهجياتها،
* تسريع وتيرة إصلاح القضاء، وتكريس ثنائية الحق والواجب في كافة مستويات ومفاصل الفضاء العمومي.

المدخل الرابع: البعد القيمي والثقافي والمجتمعي

* تعميم المعرفة والثقافة بين صفوف المواطنات والمواطنين، والاعتناء بتكوين الناشئة تكوينا قائما على قيم الوطنية والمواطنة،
*إدماج العوامل غير الاقتصادية في كل ما يرتبط بالتنمية، تخطيطا وتنفيذا وتقييما،
*تكريس الانفتاح على الثقافة الكونية، واختراق عالم الحداثة والمعرفة، خاصة من خلال تطوير استعمال العقل والتحليل العلمي في مقاربة الواقع،
*صيانة التنوع الثقافي والحرص على التدبير الجيد للمسألة الأمازيغية في إطار وحدة الانتماء، والتقدم في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية،
* توفير الشروط الملائمة للنهوض بأدوار المثقفين في إنتاج الأفكار والقيم، والتعبير الحر عنها، وتبادلها، وفي حمل الإبداع والابتكار والتجديد،
*رصد نسبة مئوية من ميزانية استثمار الدولة والمؤسسات والمقاولات العمومية والخاصة والجماعات الترابية، للأعمال الإبداعية،
* الرفع من مكانة وأدوارِ المثقفين والمُبدعين وتيسير إسهامهم في الديبلوماسيةِ الأكاديمية والثقافية والفنية،
* القطعُ مع التردد في إعطاء المكانة المتميزة للثقافة والفن ودراسة المناهج الفلسفية والتاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية، داخل منظومتنا التعليمية.

المدخل الخامس: الديمقراطية  لحمل النموذج التنموي

* ترسيخ تَلَازُمِ الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كعنصرين متكاملين، لبناء ثقة المغاربة في مستقبل بلادهم،
* الحسمُ في تفعيل المبادئ والمقتضيات الدستورية الديمقراطية، والقطعُ مع الترددِ في السيرِ على نهجها وتحملِ أعبائها وتبعاتها،
* حرص جميع الفاعلين على تفعيل الديمقراطية التشاركية، دون تردد أو نكوص أو تراجع أو تأخر،
* تقوية دور الفاعلين السياسيين، وتمتين مهام وصلاحيات المؤسسات المنتخبة، وضمان توازن حقيقي للسلط، والإقرار بقدرة كل هؤلاء المتدخلين على قيادة مسلسل التغيير،
* ضمانُ ممارسة الحريات الفردية والجماعية في إطارِ تَمَلُّكٍ خلاقٍ لثنائيةِ وجدليةِ الحقوق والواجبات، وإقرارٍ مبدأ المساواة بجميع أشكالها وفي جميع مستوياتها،
* رد الاعتبار للعمل السياسي من حيث وظيفته التأطيرية والقيادية، وإحداث مصالحةٍ حقيقية بين المواطن والفعل السياسي، والحرص على مصداقية واستقلالية الأحزاب السياسية.

Related posts

Top