بيداغوجيا المحبة: من أجل علاقة سليمة بين المتعلم والمدرسة

تعتبر المدرسة ركيزة أساسيّة في بناء مجتمع سليم تنشده الدّولة لتقدّمها ورقيّها، فبعد أن تخلّت الأسرة والشّارع ودُورُ الدّين عن مهمّتهم في التّربية، أخذت المدرسة على عاتقها القيام بهاته المهمّة باعتبارها البيت الثّاني للطّفل والمكان الذّي يقضي فيه جلّ أوقاته رفقة أقرانه. لكنّ ما نلاحظه هو أنّ الكثير من الأطفال لا يجدون ذواتهم داخل فضاء المدرسة ما يجعلهم يشعرون بالإحباط أثناء التّوجه إليها، ولا يمكننا حصر هذا الشّعور فقط لدى المتعلّمين، فالأمر أيضا ينطبق على المدرّسين، إذ نرى وكأنّ المدرسة في بعض الأحيان تصبح كمكان مظلم للركائز التّي من أجلها تمّ بناء المدارس. لهذا سنطرح الأسئلة التّالية على ضوئها نبني مقالنا هذا: لماذا لا يجد المتعلّم ذاته في المدرسة؟ وهل المدرسة والمقرّرات المدرسيّة تتماشى وميولات أطفالنا؟ وما هي الحلول التّي يجب القيام بها لجعل المدرسة فضاء محبوبا لدى الناشئة؟
لا شكّ بأنّ مختلف البيداغوجيّات جاءت من أجل الرقيّ بالممارسة التّربوية، ما يجعل العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة تمرّ بشكل سلس ومعقلن باقتصاد في الجهد والوقت معا، فبعد أن كان الهمّ الوحيد للمدرسة في السّابق هو تلقين المعلومات نظرا للشّحّ الكبير في مصادر المعرفة آنذاك، أصبح للمدرسة الآن أدوار أخرى تجعل من المتعلّم محور الرّحى الذي تقوم عليه العمليّة التّعليميّة التعلّميّة. لكن ما نجده في الواقع هو أن المتعلّم لا يجد ذاته داخل فضاء المدرسة ويعتبر نفسه دخيلا على هذا الوسط وهذا راجع لأسباب عدة نذكر منها:
• التّعامل مع المتعلّم كشخص راشد وتغييب حاجيات ومتطلّبات المتعلّم خصوصا في المرحلة الابتدائية كونه ما يزال طفلا يحب اللّعب وهذا ما يتماشى مع بيداغوجيا اللّعب، لكن مقرّراتنا والوسائل المتاحة في فضاء المدرسة لا تواكب ما تهدف إليه هاته البيداغوجيا وبالتّالي يتم حرمان الطّفل من حقّه في التّعلم باستعمال اللّعب،
• تقديم المعرفة داخل فضاء المدرسة كحقائق جاهزة غير قابلة للنّقد فيعتبرها عقل المتعلّم تعلّمات ميّتة لأنّه لم يساهم في بنائها،
• غيّاب دلالة للتّعلّم إذ نجد بأنّ مختلف المتعلّمين لم يجدوا إجابة للسّؤال التّالي: لماذا ندرس هذا الدرس في الرياضيات مثلا أو ما الفائدة من التعرف على أقسام الكلمة…. ما يجعل التعلّمات بدون معنى ودلالة في ذهن المتعلّم،
• عدم انفتاح المقرّرات الدّراسيّة على محيط المتعلّم وبالتّالي لا نجد هناك تبييئا للتّعلّمات ما يُغَيِّبُ الحافزيّة في بناء التعلّمات من طرف المتعلّم،
• عدم اعتماد وضعيّات تنطلق بالمتعلّم من المحسوس إلى المجرّد بما يتماشى وخصوصيّاته النّمائيّة والعقليّة…،
• التّركيز على النّقط المحصّل عليها في الأخير لا المجهود المبذول، المهارات والكفايات المكتسبة إذ يجد المتعلّم نفسه وكأنه آلة يجب أن يحصل على معدّلات مرتفعة لكي يرضي أهله وليتفاخر أهله به أمام العائلة والجيران والأقران.
بعد ذكرنا للأسباب أعلاه، لا بدّ أن نشير إلى أنه لا يمكن للمتعلّم أن يجد ذاته في المدرسة دون إحقاق شرط أساسي وفعّال وهو متعة التّعلم فما دام المتعلّم لا يجد متعة في بناء تعلّماته وفي البحث عن الحقائق وتطوير مهاراته وكفاياته فلن يجد ذاته في المدرسة. ومن أجل تحقيق هذا الشّرط اقترحنا ما يسمّى ببيداغوجيا المحبّة كآليّة لتجاوز الأسباب أعلاه.
قبل أن نفصّل في هاته البيداغوجيا، لا بد أن نعطي تعريفا للبيداغوجيا بصفة عامّة؛ إذ أن كلمة البيداغوجيا هي عبارة يونانية الأصل، تتكوّن من كلمتين: péda وتعني الطّفل، وagogé وتعني القيّادة والتّوجيه والتّأطير. أما اصطلاحا: فالبيداغوجيا هي مجموع الآليّات التّي تهمّ رسم الطّريق للمتمدرس لتحقيق تواصل ناجع بينه وبين المعلّم، وتحقيق الغاية من التّعليم ألا وهي إيصال المعرفة وتحقيق التّعليم الصحيح للمادة المُدرّسة مما يحفّز المتعلّم على التّعلّم.. بالموازاة مع هذا التّعريف نشير إلى أن العلاقة بين المتعلّم والمدرّس وبين المتعلّم والمدرسة يغلبُها طابع الرّسمية والخضوع والالتزام إذ نجد أن تمثّل المتعلّم على المدرسة هي تلك البناية التّي تغلق في وجهه إن لم يحضر في الثّامنة صباحا وهي تلك البناية التّي يمكن أن تطرده إن لم يحصل على المعدل في سنين متتالية…. وبالتّالي هاته التّمثّلات تمنع المتعلّم من الشّعور بالانتماء للمدرسة. كما أن علاقة المتعلّم بالمدرّس يغلبُ عليها طابع الأمر والتّنفيذ، إذ يأمر المدرّس بأشياء ويشعر المتعلّم بأن مهمّته داخل المدرسة هي تنفيذ أوامر مدرّسه، وهذا ما يتنافى مع المتعة في التّعلم. لكل هذا لا بد أن نركّز على بيداغوجيا المحبّة لكون ما يحظى به الحبّ كقيمة مركزية برصيد ضخم من الحضور والتّأثير في كينونة المتعلمين بل ويتحكم في تصرفاتهم، لأنهم يقادون به أكثر مما يقادون بشيء آخر، وكون هاته البيداغوجيا من شأنها أن تجعل من المتعلّم متعلّما يشعر بالرّاحة والطّمأنينة والأمان في المدرسة ممّا يجعل منه متعلّما شريكا في بناء تعلماته بعطاء أكثر وجهد أقل، إذ تركّز هاته البيداغوجيا على الجانب الوجداني الذي يجمع بين المدرّس والمتعلّم فتصبح العلاقة بينهما يغلبُها طابع المحبّة ما يكسر تلك الفجوة ما بين المدرّس والمتعلّم إذ يصبح التّواصل بشكل أفقي وبالتّالي يصبح المتعلّم ذلك الأخ الصّغير لمدرسه أو ابنه… ولا يشعر بأي تردّد في التّعبير عن تمثّلاته ومشاكله وتصوّراته ولا يدّخر أيّ جهد في بناء تعلّماته وكفاياته. وحتى لا نبقى حبيسي التنظير لهاته البيداغوجيا لابدّ وأن نقترح بعض الممارسات التّربوية الكفيلة بتحقيق بيداغوجيا المحبّة ويمكن سردها كالآتي:
• الابتعاد عن مبدأ العقاب والترهيب والاعتماد على مبدأ الترغيب والتحبيب، إذ عندما نجد بأن المتعلّم لم يقم بواجباته المنزليّة مثلا فالسّؤال الذي يجب أن نطرح هوّ: ما الذي جعل المتعلّم لا يهتم بواجباته رغم اهتمامه باللّعب أو مشاهدة أفلام الكرتون؟ فنجد الإجابة بأنّ المتعة التّي وجدها المتعلّم في اللّعب ومشاهدة أفلام الكرتون لم يجدها في الواجبات المنزليّة.. وبالتّالي وجب علينا التفكير في واجبات تتماشى مع ميولات المتعلّم ورغباته،
• اجتناب تصحيح التّقويمات الكتابيّة بالقلم الجاف الأحمر لأن هذا اللّون يدل على الخطر والحذر… كما وجبت الإحاطة على الإجابات الصّحيحة للمتعلّمين بقلم جاف بلون محبوب للمتعلّم وندعه يصححّ أخطاءه بشكل ذاتي وبتوجيه من المدرّس،
• تخصيص حصص للأنشطة الموازيّة في استعمال الزمن والتّركيز على الأنشطة التّربويّة التّي تساعد المتعلّم على تفجير طاقاته ومواهبه بكل متعة وأريحيّة كالأعمال اليدويّة والرسم والمسرح…،
• التّركيز على حصص التّربيّة البدنيّة وعدم إهمالها وتوظيفها في بناء بعض التعلّمات إذ نجد مثلا لبناء درس آليّات التّنفس وشرح عمليّتي الشّهيق والزّفير للمتعلّمين في حصّة دراسية سيتطلّب مجهودا ووقتا أطول في حين أن شرح عمليّتي الشّهيق والزّفير أثناء حصة للتّربيّة البدنيّة سيتمّ بشكل سلس وبمتعة أكبر دون الشّعور بأي صعوبة من طرف المتعلّم والمعلّم معا،
• الاعتماد على وضعيّات مشكلة لبناء الدّروس من خصائص هاته الوضعياّت أن تكون دالّة ومحفزّة ومطلقة من محيط المتعلّم ولها معنى وذات سياق ممّا يجعل المتعلّم أمام وضعيّة مشكلة تواجهه في حياته اليوميّة تجعل منه قابلا للتحدّي لتعبئة موارده من أجل إيجاد الحل لها وبالتّالي يصبح شريكا في بناء التّعلّم،
• تكييف المنهاج التّربوي مع خصوصيّة كل جهة ومتطلّباتها وظروفها الاقتصاديّة مما يجعل المدرسة منفتحة على محيطها وليست مقوقعة في منهاج دراسي لا يتماشى مع خصوصيّة بيئتها،
• التّركيز على الكفايات وتنميّة شخصيّة المتعلّم وفق ما يتطلّبه عصرنا الحالي وعدم حصر قيمة المتعلّم في ورقة اختبار أو في نقطة يحصل عليها،
• الاهتمام بالمدرّس وذلك بحفظ حقوقه الماديّة والمعنويّة وكذلك تنظيم دورات تكوينيّة لفائدة المدرّسين تهمّ الشّق التّربوي ممّا يساعدهم على مواكبة المستجدّات التّربويّة، لأن شعور المدرّس بالتقدير الذّاتي يؤدي به إلى الفعّالية الذّاتية وهذا ما سيؤثر إيجابا على المدرسة والمتعلّم معا.
وفي الأخير لابدّ وأن نشير إلى أنّ المدرسة لا يجب أن تكون مكانا يراقب فيه المتعلّم والمدرّس الوقت لانتظار رنّة الجرس حتى يتخلّصوا من عبئها، بل يجب أن تكون فضاء للمعرفة والحياة والمتعة والتّعاون ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بتظافر الجهود، كلّ من جهته الخاصّة، لجعل المدرسة الصدر الرحب الذّي يحتضن المتعلّمين ويرعاهم رعاية الأم لأبنائها قصد بناء متعلّم متشبّع بروح النّقد البنّاء قادر على الاختيّار ومتحلّ بروح المسؤوليّة تجاه نفسه ومجتمعه ما يجعل منه مواطنا صالحا للغد به يُبنى مجتمع المحبّة والتّعاون والتّكافل

< بقلم: ياسين فريدي

Related posts

Top