بين الرسم والأثر

حين التقى بها لأول مرة، هم بها منجذبا قائلا لها: ياملاك، لك شان عظيم في هوى النفس يستوجب معه حسن مقام وحنان أنامل فنان ولين ألوان، لتشكيل جسدك الناعم المكتسح الحدود والابعاد… “.
– قالت وهي مترددة: قد يبتلعنا المقام وكلام الناس سهام وتصير اللحظة المنفلثة من الزمن إعدام….
– و أضافت متغنجة : ” إنك جدي عنيد كيف استبحت ولوج حديقة أسراري و ما بي آثام … ”
– قال مصرا: انه ليس كالأماسي وانت قطب الدائرة هذا المساء فاترك نفسك وتعال، فمرسمي بر الأمان مليء بلطائف الأشعار والأنغام مفروش بالزعفران معطر بالورود على اختلاف الألوان….
– قال ملحا مجددا: اتركي نفسك وتعالي، لنحيا اشراقات عاشقين في أخر لفحاتهما بعيدا عن رقباء النهار وعن عيون فقهاء الظلام قريبا من ذواتنا من جسدينا من نفسينا….
– قالت وهي تنظر الى عيني: عدني أن تصون حضوري بين الرسم والاثر….
– قال وهو واثق بما يقول فالرسم يا ملاك محدود بإطار اما الاثر فيسع المكان والذاكرة والكون…ولكل لمسة فرشاة عطر وطعم وموسيقى وانفاس وبريق اقوى من الكلام.
أتمعن ولا انظر في تناسق جسدك البهي وفي قسماته الرقيقة اخدت الفرشاة لأرسمك من الأعلى إلى الأسفل…
“وجهك جبينك عيناك حاجباك انفك اذناك وجنتاك عنقك حاجباك عنقك شفتاك نهداك خصرك فخداك ساقاك رجلاك…” انها نظرة تجزيئية افقدت جسدك كينونته”
اعيد رسمك وانت جالسة على كرسي احمر،والساق على الساق في وضعية مثيرة، مرة رافعة يديك ممسكة بهما شعرك الكثيف المنساب على وجهك البهي،ومرة أخرى منحنية الى الامام لتظهر فتحة بين نهديك المتنافرتين، ومرة وانت تغتسلين في الحمام…ابحث عن”ارمونيا” حركاتك، انفعالاتك، نظراتك، ردود افعالك امام استفزازاتي، علي اجد ما كنت ابحث عنه، وليس ما تبحثين عنه، وانت مختالة على اجنحة الرغبة تفصحين عن مكامن الاثارة فيك … الى ان ارست الفرشاة على هذا الشكل كما ترين…..؟فماذا ترين؟
– قالت : مندهشة، لم اعرف انك سترسمني كما ولدتني امي…..- قال لها: وهو ينظر الى الرسم واليها، ان جسدك غير حيادي، إن”جسدك موهوب في السر والعلن على الاغراء… مشيتك، تمايلك، حركاتك، اهاتك نداء… شفتاك اشتهاء….. عيناك نافدة للابحار بدون عودة..”- قالت : وكانها صعقت ماذا ارى؟ اي رسم مجنون هذا؟ ففرشاتك، فعيناك عرتني بنوع من الايروسية كأيروسية”جيرار شلوسير” وخليل جبران ونزار.- قالت في تماه : فجرار كان منسجما مع نفسه، وجبران خليل له اسلوبه في اختيار رسوماته العارية الملائكية، كما كان “ديكاس” يسرق موضيلاته من خلال ثقب الباب…- قالت : متسائلة في اندهاش ، بربك لو غيرت بعض اللمسات لكان افصل واليق….- قال لها متأسفا:فأي تغيير سيحدث فرقا هائلا في تشكيل تلاوين”البورتري “من ايقاع تنفسك، ومن دقات قلبينا، ومن قبلاتنا، ومن جسدينا، فحسب “ميرلوبنتي” فالجسد موطن المعنى، وانا ابحث في جسدك عن معنى المعنى…ففي هذا “البورتري” وحدت بين اسلوب نزار ونبوءة جبران، ووحدت بين القلوب والانفاس والاديان، ووحدت بين الروح والجسد….فهذا “الجسد” تعاملت معه كقيمة بعد ان كنت اتعامل معه من زاوية ضيقة محصورة في اشباع غريزتي الجنسية ليس الا تعاملت مع جسدك كجوهر، وكذات متفردة مثيرة للمكاشفة والمتعة الجمالية….- قالت بلباقة متعهدة: انت جدي عنيد ومجنون جنون “سالفادور دالي”اذ ينمحي معكما عنصري الزمكان ،ويهون معكما الحلال والحرام….
بنفس الايقاع لها قال : اما عن بريق وجهك ، فيتعذر فهمه منذ الوهلة الاولى والثانية وربما العاشرة .. كما يصعب لمسه ما دام نفسي الطباع ، ورغم ذلك يمكن تحسسه او حدسه : وبالتالي اعطاءه معنى ،او بعدا، او عمقا ، اي : معنى المعنى….
فليس العري مبتغاي ، بل ما تولد عنه من اثر، من انجذاب متنام متبادل حد الصراع… ومن رغبة سافرة بغواية انسلت الى غياهب الذاكرة البشرية .. فانبثق بين الرسم والاثر ظل جلي ، يرافق جسدك الناعم ويمنحه فرادته، وعطره ، وموسيقاه، مكتسحا سلم الابعاد… اما عن جمالية العري ، فهي سيمياء كمناعة فيزيولوجية – كيميائية من إغراءاتك التي صارت اعتداء .شيء فضيع ان يتغير الجسد الى ذرة الى جينيات ليس الا….
– قالت : ففك وصالي من وصالك ، فقد لاح الفجر والكدر….
– قال: مبتهجا كم الليل قصير، لم ندر متى استوقدنا انوارنا ، وطفئنا شموع الرغبة بحديقة اسرارنا ، ولنداء عشق الجمال والفن لبينا…
– قالت :. لقد حان الاوان يا نديم ….
– قال: …. فلكل مقام حوار وتشكيل ، كما لكل عاشق الجمال نديم و مدام …..
– قالت : حيرانة ، اعدني ان تصون سرنا في عمق يم …..
– قال : مقنعا اياها ، انت امواجه ، انفاسه ، وان دلفين ازرق ارحل وارتحل في عوالمك الخرافية القسمات، اتحسس جسدك واهتز باهتزاز انفا سك…..
– قالت :مبهورة ، انك لمجنون حقا ……….
– قال : وكانه وجد صالته ، وبكل عنفوان ، كيف لا اجن ؟ وانت مجنونتي ، وان مجنونك حين اضفنا بعدا ، عمقا لهذا الانجذاب المتنامي والمتبادل بيننا ، وبين الرسم والاثر، وما تولد عنه من رعشة زرقاء لن تتكرر…. كشعلة زرقاء بين يدي خليل جبران، كمناعة من اغراءاتك … فجسدك سيبقى مثار الدهشة والالتباس والالهام…..
– فيا ملاك، لا تحاولي سلب إرادتي والعبث بي كما تشائين. لا تحاول إفراغي من محتواي كيفما تشائين . كفاك إغراء…فإغراؤك صار اعتداء …. صار اعتداء … ورغم ذلك سأبقى محتفيا بهذا “الجسد “، لأنه أكثر جمالا واكتمالا، لدرجة تجعلني مأخوذا به لاكتشاف عوالمه الساحرة … ففي كل مرة يثير في خبايا جديدة ومتجددة.

> بقلم: عبد الرحيم بيضون

الوسوم , ,

Related posts

Top