بين المرئي واللامرئي في تجربة الفنان التشكيل رشيد باخوز

في معرضه الموسوم ب «بين المرئي واللامرئي»، يعرض الفنان التشكيلي المغربي رشيد باخوز أعمالا تصويرية ذات بعد تجريبي وروح معاصرة، وذلكبرواق فيلا الفنون بالدار البيضاء، ابتداء من يوم 21 شبتمبر إلى غاية 21 أكتوبر 201
أتي الأعمال المعروضة في هذا المعرض/المشروع متراوحة بين عدة تيارات فنية من برفورمانس وتنصيبات فنية (أنستلايشن) وفيديو فني إلى جانب لوحت صباغية تتسم ببعد تجريدي، كل هذا داخل قالب اشتغال يعتمد التجديد داخل خانة الحروفية. ما يغني الكارتوغرافيا البصرية لهذا الفنان، والتي تمتد لسنوات عدة من الاشتغال بروح تتسم بحساسية رهيفة.
يقوم رشيد باخوز في بحثه الدائم بالاشتغال على تعبيرات غير اعتيادية، وذلك بإطلاق طاقاته الإبداعية، وبكشف عن أساليب جديدة تقود إلى: مغامرات بلاستيكية (تشكيلية) بالمعنى العميق للمصطلح.
وللتأكيد على استمرارية بحثه وتوّجته الاستتيقي، فإن رشيد باخوز يعرض لوحات وأعمالا بارزة وتنصيبات فنية إلى جانب عرض فني وفيديو فني، مما يوضح بشكل جيد نموذجه القائم على الترجمة البصرية لمقولة بول كلي المستنيرة، أي جعل «المرئي في العالم لامرئيا»، بما في ذلك عواطفنا وحساسيتنا.
استطاع الفنان المعاصر رشيد باخوز أن يطوّر لغة خاصة من الأشكال والألوان والعلامات والصور التي تجعل كل عمل من أعماله لغزًا صغيرًا يصعب فكه، إنها متاهة حيث يستطيع كل شخص تتبع مساره الخيالي.
يتميز كل عمل لدى الفنان بشعرية ولذة وحلم خاص. إنها بنية متأصلة تعتمد على حياة الألوان والأشكال والتراكيب. طور الفنان باخوز إذن مواهب متفردة، وفقاً لمخيلته الإبداعية، ومقاربة جديدة لاشتغال التشكيلي متأرجحة بين الفراغ والامتلاء.

تتصاعد متعة المشاهدة، كما عاينتها في مشتل الولادة، قبل كل شيء، عبر غنى لوني نقي،في غاية التناغم القائمعلى رغبة عميقة في توكيد الاحتفاء بالحرف العربي وأناقة حركيته. والأمر هنا لا يتعلق ببهرجة كارنافالية، بقدر ما يرتبط باختيار تصويري موصوف بحرفية عالية تجعل من رشيد باخوز مُلَوِّن Coloriste متمكن يتماهى مع الصفاءالكروماتيكي بسلاسة العارف الذي يبتعد كل البعد عن التكلف وما يتبعه من خلفيات الجَذْب المصطنعة.
إن سلسلة الأعمال التي نحن بصددها، تعتبر في الأصل امتدادا لمنجزه السابق، قبل حوالي سنتين (“شطحات الحرف”، رواق باب الكبير بالرباط، أكتوبر 2016)، بحيث تمت مضاعفة تكثيف الحرف ومده بتكوينات أخرى مُغايِرة وبديعة، مع المزيد من الدفع به ليتمثل بوصفه علامة Signeدالة، تتوخى الاسترسالية والتمديد السَّلِس، بقدر ما تتلاحم وتتداخل مع الخلفية Le fond والعناصر الغرافيكية واللونية، ولذلك تحتفظ الحروف بحيويتها المتفاعلة، حتى وهي تختفي في ثنايا مادية الضربات العريضة، إذ هناك اشتغال على المحو، بالطريقة التي تجعلنا – كمشاهدين – أمام توليفات بصريةشذرية أحيانا، فيما تضعنا بإزاء “صور” الطِّرْس Palimpseste، في الوقت الذي تتكرر فيه “كتابة” الحرف ومحوه لينبعث من جديد. والحال أن تشكيلِيَّة Plasticité اللوحات تستند إلى فعل التشكيل المتراكب، “أثر” فوق “أثر”، ملء وإفراغ عبر تبادلفضائي نزق، لتتدافع الحروف إلى أن تتخطى حدود اللوحة، أو تنمحي تحت سطوة السواد الذي يسود في عدد من الأعمال، الأعمال التي تحمل في عمقها، كما في مظهرها، اشتغالا حثيثا حول الضوء والشفافية وإمكاناتهما الجمالية الدفينة والدقيقة، وذلك ما يبرر عنوانة المعرض “بين المرئي واللامرئي”، ضمن ثائيات الظهور والتخفي، الانقشاع والانطفاء، النور والعتمة، الحضور والغياب، الكشف والحجب، الحركة والثبات، “الكتابة” والمحو، وكذا الحياة والموت، ضمن إحاءات وجودية.
إضافة إلى الحرف العربي واللاتيني اللذَيْن وظفهُما في معرضه الفارط، تمت إضافة الحرف العبري في أعماله الجديدة، كـ “تأطير دلالي” لمجموع اللغات المؤثرة في أوضاع العالم العربي وشمال إفريقيا حيث نتَمَوْقَع، اللغات المُحَمَّلَة بالأجناس والأعراق والأديان والخلفيات والتوجُّهات والإيديولوجيات المتعارضة، فيما تظل الأداة المؤثرةوالمُوَجِّهَة باعتبار الإنسان “يفكر باللغة”. من هذا المنطلق، أنجز رشيدباخوز منشأةInstallation متناسلة عبر خمس قطع (يتحدد تقديم عدد القطع بحسب سعة الفضاء المخصص للعرض)، تحت عنوان “ترميم 1″، كل قطعة منها، عبارة عن ركام من حروف خشبية بمقاسات متباينة (عربية ولاتينية وعبرية) مصبوغة (ملونة) داخل إناء معدني للتصبينBassineمع تثبيت لوح التصبين التقليدي (فرّاكَة)، فيما تم تشخيص العملية على ضفة بُحيْرة لالة تاكركوست بكثير من الإيحاء والترميز عبر فيديو بعنوان “ترميم 2” (المدة: دقيقتان، تشخيص: الممثلة نادية الزاوي)، والمسألة هنا تتعلق في النَّمَطَيْن التَّعْبيريَّيْن معا، كما يشير العنوانان، إلى تصور رمزي يدعو إلى ترميم “مضمون اللغة” في ما تحمله من “خطاب”(Discours)معطوب (لغة الخشب) بين الحضارات والأديان والأقطار، في اتجاه اعتماد “خطاب” مُتَنَوِّر ومتآلف، تتحاور فيه الاختلافات والمواقف، كما تتواشج من خلاله قيم الحرية والتعايش الإنساني بعامة. في السياق ذاته، يقترح الفنان أداء مشهدياPerformance في مدخل بناية المعرض، ذا طبيعة ميكانيكية باستعمال آلتَيْ نَفْخ (Gonfleurs) في وضعية تقابل، تنفثان حروفا ورقية متطايرة بألوان رمادية (Les gris colorés)، يعمل على جمعها عامل نظافة بمكنسته في نهاية المطاف.
إلى جانب ذلك، تستدعينا مُنْشَأَة “تَعالي” (Transcendance) لتأمل تركيب فضائي حروفي (عربي) ملون من صفائح معدنية (قطر Diamètre: 200 سم، ارتفاع: 350 سم)، تم تقطيع وحداته بتقنية الليزر، مع اعتماد التلحيم عبر نقط مُحدَّدة لتثبيت تَمَفْصلات الحروف “الحديدية” التي أمست مِطْواعة وأكثر حركية بطرق تكييفها مع انْسِيابِيَّة دَوَران موزون يتمَدَّد نحو الأعلى، بحيث تتمثل القطعة بحركيَّة جيبَوِيَّةSinusoïdale مدَبَّرَة بدقة مهارية بادية، تنتصر من خلالها الجمالية ذات الحس البنائي (Constructiviste) للعربية، في تشكيلكوريغرافية حروفها، كما في تساميها اللَّوْلَبي الشامخ.
كان على رشيد باخوز أن يختار الانعزال بنفسه بعيدا عن صخب الميتروبول، ليتخذ له معملا فسيحا وهادئا على سفوح الأطلس بلالة تاكركوست (ضواحي مراكش)، ليمنح ليده وجسده وذهنه الانتقال المتأني بين الأسناد والوسائط والمواد والتقنيات. بحيث نجح في التشبثبعشقه للقماشة (كسند تقليدي) وفِعل التصويرPeinture، دون كبح رغبته التجريبِيَّة المُثمِرة.من ثمة، تتقاسم القماشات والفيديو والمنشأة والأداء المشهدي نفس المَيْل البحثي، ضمن مجموعة متكاملة تجعل من المعرض وحدة متوافِقَة. جميع القِطع هنا تخضع لخصائص الفن المعاصر، لكن مع الإبقاء على جدوى جدران العرض (متكآت اللوحات Cimaises)، بحيث يتخذ مجموع المُنْجَز الذي يتحاور فيه محتوى جدار التعليق (Accrochage) ومحتوى الفضاء الذي يحتضن المنشآت Les installations نَفَسا أسلوبيا مشتركا، دون الفصل بين طبيعة الأسناد وطرق التقديم، ما يجعل الكل يخضع إلى السينوغرافيا التي يقترحها الفنان مع إمكانية تغييرها من معرض لآخر، ومن خلالها يتم تمفصل الأعمال فيما بينها بالشكل الذي يجعل أبعاد أخرى تنبثق من خلال طريقة التقديم، فـفي الأصل، “ليس المعرض مجموعة من القطع، بل يعد عملا واحدا، إنه طريق” كما يؤكد كريستيان بولتانسكيChristian Boltanski.
بتوَفُّقِه في إشراك وحدة الرؤية والمفهومبين اللوحة وباقي الأشكال التعبيرية الجديدة التي يقترحها في معرضه الحالي (فيلا الفنون بالدار البيضاء، شتنبر 2018)، يسجل الفنان المعاصر رشيد باخوزانعطافة ملحوظة في مساره الإبداعي، ليشق طريقه نحو فنون ما بعد الحداثة بالحماسة المشفوعة بالوعي والقدرات الإنجازية، فيما يمنحنا تلمس قدر استفزازاته الناعمة كمحفز للانفعال الذي يقوم عليه الفن المعاصر.

 > بنيونس عميروش*
تشكيلي وناقد فني

***

بلاغة الرمز عند باخوز

 > عزالدين بوركة *
• عتبة الرؤية:
استطاع الفنان التشكيلي المغربي رشيد باخوز أن يتجاوز في تجربته “بين المرئي واللامرئي”، تلك التصورات السائدة عن الاشتغال الحروفي، حيث أنه اشتغل على رؤية مغايرة ضمن مشروع جمالي معاصر.لقد اختار رشيد باخوز هذا المسلك كمنطلق أساسي لإنجاز آثاره الفنية، إذ أنه جعل الحرف منسابا داخل اللوحة بشكل تكميلي مع تطويعه ليصير تركيبا بصريا ضمن المنجز التشكيلي. يتجسد ذلك في كل من التنصيبة الفنية “التعالي transcendance” والفيديو الفني “ترميم réfection” وأيضا التنصيبة الثانية التي تحمل العنوان نفسه، والعرض الفني “محو  suppression”.وليس من العبث أن يختار رشيد باخوز عنوانا لحدثه “بين المرئي واللامرئي”، إذ ارتبط هذا العنوان بمفاهيم كثيرة كالكشف والإخفاء، والإظهار والإضمار، والإفشاء والستر، والإبراز والمحو، والملء والفراغ… وفي نفس الوقت فهو يضعنا أمام مرحلتين بصريتين: “الحديث والمعاصر”، في اشتغاله الجمالي. • الحساسية المعاصرة:      جاءت أعمال الفنان باخوز، متنوعة بأساليب وتقنيات مختلفة بنفس معاصر، حيث تم انتقال الحرف من بعدين إلى بعد ثالث في علاقته بالفضاء، في اشتغال استتيقي منتمي لما نسميه بـ”الحساسية الجديدة”، تلك الحساسية المفرطة في تعاملها مع العمل الفني والمواضيع الفنية المتولد عنها. إذ أنه في تنصيبته الفنية “التعالي Transcendance” قد اتخذ الحرف أشكالا لولبية ومتشابكة ليعكس الفنان دلالتها الرمزية والجمالية بشكل يتعالى عن الأرض في اتجاه الأسمى، في إحالة إلى الترفع عن الصراعات الحضارية المرتبطة بالخطاب اللغوي. أما بخصوص الفيديو المكمل للتنصيبة الفنية “ترميم”، فرشيد باخوز يدعو من خلالها إلى ضرورة إعادة النظر في الخطاب اللغوي المتداول، لهذا كان من الضروري تنظيف الحروف ونشرها وتجفيفها، للتحسيس بحوار حضاري تفاعلي بين الثقافات، التي تجمع بين العربية والعبرية واللاتينية في إطار منسجم ومتجانس.
 • بلاغة الصورة:
الصورة التشكيلية عند رشيد باخوز هي علامة مرتبطة بدلالات يحضر فيها الحرف مستقلا بذاته، مما يمنح “الصورة المرئية لديه” نوعا من البلاغة، في سياق شعرية الصورة، بتناغم بين الشكل واللون والضوء والعتمة والملء والفراغ.إن “البلاغة التشكيلية” في هذه التجربة تتخذ بعدا سيميائيا يتطلب تفكيكا دلاليا، إذ أن اللامرئي يتحول إلى ما هو مرئي باعتباره عتبة بصرية بلاغية لاختراق عوالم برزخية وغير مكتشفة بعد.  pde أن هذه التجربة تضج بالكائنات الحروفية، التي اتخذت موضع البشر، وفي البدء كان الحرف، إذ يقول  ابن عربي: “أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف”… ومن هذا الكشف يصير الحرف “صورة تشكيلية بلاغية”، أي علامة تامة لا ترتهن إلى أية مشابهة.
 •  لغة التشكيل وتشكيل اللغة:
انسجاما مع تجاربه الفنية السابقة وبرؤية فلسفية تنتمي إلى الفن المعاصر من حيث الفكرة والإنجاز، فالفنان باخوز يتعالى عن أي تصنيف خانق، بل إنه ينقلنا إلى أبعاد أخرى للاشتغال، والذي لم يعد يقتصر على القماش والصباغة، بل تجاوزها إلى الحفر والحرق والترميم والتقطيع والتركيب… وكما أنه ينزاح عن الاشتغال الحروفي إلى ما يمكن تسميته بـ”التشكيل اللغوي” La plasticité du langage. هذا الأخير الذي يعد توجها طلائعيا للخروج من نفق المتداول والمكرس والمتعارف عليه. وهذا في العموم هو الغرض من العمل الفني. عماده ذلك “الهسيس الحساسي” والرهيف، والذي حسب رولان بارت يولد فتحا جديدا للخيال ويضعنا في انسجام مع كل واحد منا- مثل جسد حي.وتعتمد اللغة التشكيلية على مفردات بصرية في علاقتها بطريقة المعالجة على مستوى التقنية، التي تجمع بين مكونات مؤسسة للعمل الفني في شموليته، كمنهجية للتحليل والتفكيك، استنادا لمرجعيات متعددة، تدخل نطاق الكتابة العلمية والعارفة بتاريخ الفن أولا، ثم بكل ما يمث بصلة بمدى عمق التجارب، التي تطرح أسئلة عميقة شكلا ومضمونا، انطلاقا من تجارب الفنانين، الذين انخرطوا في مشاريع تستمد كينونتها من طريقة تفكيرهم، ومن اهتماماتهم اليومية كانت اجتماعية أو سياسية أو ثقافية… كأرضية لولوج مضامين غنية بمعطياتها، وقابلة للحوار والجوار والمتابعة في سياق مشروع فكري يخضع لتجليات تشكيلية باعتبارها مدخلا لحوار ثقافي وحضاري يمنح للناقد والمهتم بلغة الكتابة التشكيلية، تفكيك الدلالات والرموز من منطلقات قد تكون تاريخية أو فلسفية أو سيميائية أو نفسية أو أنطروبولوجية أو سيكولوجية…من هذا المنطلق، كانت تجربة الفنان باخوز تحمل مشروعا قائما بذاته، يستحق الاهتمام والمتابعة، لما توفرت عليه من شروط الكتابة السالفة الذكر، ولما وفرته من أسئلة وجودية في بعدها الإنساني، التي أفرزها الفنان في تشكيل أسلوب ولغة متفردة، وفي فضاءات لونية بأشكالها الزئبقية التي تمتح من جماليات الفضاءات الهلامية بروحانية تستجيب لكل الأمكنة والأزمنة.من الصعب تشكيل اللغة، نظرا لمحدوديتها في علاقتها بالتشكيل، لكن تجربة الفنان باخوز انتقلت بنا من فضاء لغوي كان محوره الحرف بدلالته الرمزية بعد إفراغه من معناه اللغوي إلى دلالته المرئية كأيقونة تشكيلية، مفتوحة على كل التأويلات الممكنة، حسب مرجعية المتلقي، ليدفع بهذا الأخير الى الانخراط في هذا المشروع كطرف فاعل ضمن نسق التأثير والتأثر، وليعطي للحرف حيوية ودينامية، استنادا إلى قول الفنان الفرنسي (مارسيل دوشان) “لا يمكن للتحفة الفنية أن تعيش  وتحيا الا بوجود المتلقي”. 

*(شاعر وباحث جمالي)

Related posts

Top