تأجيل بريكسيت .. هل أنقذ البريطانيون ديمقراطيتهم؟

جميع المعطيات تقول إن قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي عبر اتفاق بريكست، لم يعكس وعيهم بعمق وأبعاد علاقات بلادهم بالاتحاد الأوروبي، ولكن رغبة الفائزين بفارق صغير خلال استفتاء عام 2016، تحولت إلى استحقاق يطارد الحكومة حتى اليوم.
خسائر فادحة لحقت بالبلاد بسبب ذلك الاستفتاء التاريخي ولكن الحكومة لم تنقلب على نتائجه ذات الطابع الاستشاري غير الملزم، لم تدع إلى استفتاء جديد قد يغير المعادلة رغم حقها الدستوري في ذلك، وعندما دنت ساعة الخروج واستعصى عليها الاتفاق مع بروكسل طرقت الحكومة باب البرلمان لأخذ موافقته على تأجيل الخروج وليس إلغاءه.
إذا كانت الديمقراطية تبدأ وتنتهي بصناديق الاقتراع، فإن انقلاب الحكومة على الاستفتاء المصيري يعد انتهاكا للديمقراطية التي أوصلت حزب المحافظين إلى السلطة ومنحته الأكثرية البرلمانية، ولكن ماذا عن تنفيذ قرار الخروج دون اتفاق مع بروكسل؟ ماذا عن هذا الخيار الذي قد يؤدي إلى تقسيم البلاد ودمار الاقتصاد وتردي الأوضاع الأمنية والاجتماعية؟ هل يجب المضي به تنفيذا لرغبة الأغلبية البسيطة في الاستفتاء؟ أم أن تبنيه يمثل خيانة لديمقراطية توارثتها أجيال لم تشارك في الاستفتاء وبذلت من أجلها الدماء؟
صناديق الاقتراع هي أساس في العملية الديمقراطية، والانتخابات أو الاستفتاءات تغلب اتجاها عاما في المجتمع، لكن هذا الاتجاه لا يحمل قداسة لتنفيذه دون نقد أو مساءلة، وهنا يكتمل بناء الديمقراطية على ثلاثة أسس أخرى هي سلطات قضائية وتنفيذية وتشريعية منفصلة، إعلام حر يعبر عن مؤسسات المجتمع المدني ويراقب عمل السلطات الثلاث، وأحزاب سياسية تتنافس تحت سقف المصلحة العليا للوطن وليس المصلحة الحزبية.
في الترجمة الواقعية لما سبق نسوق بعض الأمثلة على سبيل الذكر وليس الحصر، فقد وضع ملف الخروج الثقة بالحكومة البريطانية على المحك مرتين خلال الأعوام الثلاثة الماضية، مرة داخل حزب المحافظين الحاكم وأخرى تحت قبة البرلمان.
وانضم نواب من الحزب الحاكم إلى نواب المعارضة عندما صوتوا ضد خطة الخروج التي أبرمتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي مع بروكسل نهاية العام الماضي ولم تحافظ على وحدة البلاد، حسب رأيهم. وسائل الإعلام المحلية دأبت على متابعة كل خطوة في قرار الخروج وكشفت تداعياته السلبية والإيجابية على حد السواء، فيما تحرك القضاء لتوضيح الأبعاد القانونية لقرار الخروج وأكد إمكانية الانسحاب منه دون أي تبعات.
بعد نحو ثلاث سنوات من ذلك الاستفتاء تغير المزاج العام في بريطانيا باتجاه رفض الخروج أو التروي في تنفيذه على أقل تقدير، لم يحدث هذا عبر مؤامرات خارجية كونية ولم يستدعِ انقلابا عسكريا، وإنما ظهر في سياق أمرين طبيعيين، الأول هو المعارك السياسية والإعلامية التي ظل يخوضها مؤيدو البقاء في الاتحاد بعد الاستفتاء، والثاني وهو الأهم، إدراك البريطانيين، فعليا وليس نظريا، لكلفة الخروج وما هي أضراره مقابل منافعه.
ماذا فعل قرار الخروج بالبريطانيين خلال الأعوام الثلاثة الماضية؟ الاقتصاد خسر ما يقارب مليار دولار أسبوعيا، والاستثمارات الأجنبية توقفت ومقرات شركات كبرى تهم بالرحيل إلى خارج الحدود، أسعار العقارات تراجعت، المستودعات مليئة بمواد طبية وغذائية تستورد من الاتحاد الأوروبي، تراجع في كوادر العاملين بقطاعي الصحة والزراعة، انشقاقات وخلافات في صفوف الأحزاب السياسية، استقالات لوزراء ومسؤولين وشبح تقسيم البلاد يخيم فوق إقليمي اسكتلندا وإيرلندا الشمالية.
لم نعد نميز اليوم في بريطانيا بين المؤيدين والرافضين للخروج من الاتحاد الأوروبي، فالمصلحة العليا المتمثلة في تجنب الخروج من دون اتفاق أصبحت هي الناظم الوحيد لعمل وتصريحات الجميع. منع الخروج الصلب -كما تسميه وسائل الإعلام البريطانية- بات هو الأولوية، والمشاورات التي تجريها رئيسة الوزراء اليوم مع الاتحاد الأوروبي بشأن تأجيل الخروج تعبر عن رغبة الغالبية العظمى من البريطانيين، بمن في ذلك تلك الغالبية القليلة التي ظفرت في استفتاء عام 2016.
حتى الموعد المقرر للخروج في التاسع والعشرين من مارس 2019، ثمة خيارات عدة تتراوح بين انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي دون اتفاق وبين إلغاء الخروج تماما عبر قرار من البرلمان البريطاني، وبغض النظر عن النتيجة التي ستخط الفصل الأخير في كتاب طلاق لندن وبروكسل فإن أحدا لا ينكر أن البريطانيين عاشوا خلال الأعوام الثلاثة الماضية واحدة من أفضل التجارب الديمقراطية في تاريخهم الحديث، وقدموا للعالم دليلا جديدا على أن صناديق الاقتراع مظهر من مظاهر الديمقراطية وليست التجسيد الوحيد لها.

> بهاء العوام

Related posts

Top