تجاوز الشخصية النمطية في السينما المغربية

يتحقّق في فيلم «مسافة ميل بحذائي» للمخرج سعيد خلاف، الذي تمكّن من تجاوز قشرة الممثل أمين الناجي، لكشف لُبِّه كممثلٍ كبيرٍ، تتحمل ملامحه كادراً كبيراً جداً ومُعبِّراً لوقت طويل. عمل مدير التصوير علي بنجلون بحرفية لتقديم صورة مؤثرة، أكّدت أن لدى الناجي ما يقدّمه طيلة الفيلم، في أدائه دور سعيد. هذا إنجاز في وضع اقتصر فيه مخرجون مغاربة كثيرون على تصوير الشخصية النمطية لدى ممثلين كثيرين، حتّى ظنّ المتفرّج أنهم بلا موهبة، بينما الحقيقة هي أنه لم تتح فرصة «عَصْرِهم» على الشاشة.
الفيلم (قُدِّم عرضه الأول نهاية دجنبر 2015، وتمّ اختياره ضمن مسابقة «مهرجان الأقصر» في مصر) بداية مشرّفة لمخرجه. حظي بالإطراء لجانبه الاجتماعي، ولأن بطله احتفظ بتفاؤل صلب على الرغم من الصعاب. لكن الفيلم هَشّ على مستوى الحبكة السينمائية. هذا توصيف للسرد، من دون حكم قيمة: أراد السيناريست والمخرج سعيد خلاف سرد الماضي والحاضر دفعة واحدة. يحكي قصّة تغطي زمناً طويلاً، تُروى بالعودة إلى الوراء، ما يُضعِف التشويق. فيه أكثر من 20 لقطة «فلاش باك»، تغطي أكثر من 20 عاماً، وتفرض مونتاجاً متوازياً للماضي والحاضر. لتغطية ثقب الـ «فلاش باك»، كما يسمّيه غابريل غارسيا ماركيز، لجأ المخرج إلى شروح بُعدية كثيرة، لأنه لم يقدّمها حينها على أمل أن تفاجئنا. شروح شفوية لا بصرية. أقحم مشاهد مسرحية تفسيرية تضرّ بالوحدة الأسلوبية للفيلم، هي (المشاهد المسرحية) «فلاش باك» أيضاً، يُنجزها ممثل مسرحي منفوخ يصرخ بشدّة، لأنه لا يميّز بين التمثيل في المسرح والتمثيل في السينما.
لمساعدة المتفرِّج على فهم هذا الذهاب والإياب بين الأزمنة، هناك حوارات طويلة مُشبَعة بالأحكام الأخلاقية لا بالمعلومات التي تدفع الأحداث إلى الأمام. يبدو أن كتابة حوار بالعامية المغربية غاية في الصعوبة، في ظلّ حرص السينما النظيفة على عدم تسمية الأشياء بأسمائها، كما هي في الشارع. فسعيد الأمّي يتحدث عن «الزنى»، وهذا معجم فقهي لا مكان له في لغة الشارع. على مستوى حضور الجنس، هناك عدم تناسق. فسعيد يعيش في عالم تسيطر عليه المثلية الجنسية بشكل مبالَغ فيه، بينما تضغط عليه شابة ليتزوّجها. هل المثلية الجنسية حاجة جنسية، أم مرض (أو شذوذ)؟
في الفيلم زمنٌ طويل غير متسلسل وغير متماسك. هناك أكثر من 15 شخصية فرعية يطغى بعضها على شخصيات لها دور مؤثر. فالجارة والصحافية مجرّد شاهدتَيْن عبر تدخّلات مُصوَّرة كتصريح وثائقي يكسر السرد. ردود فعل الجارة (راوية) والصحافية (نفيسة بنشهيدة) ليست جزءاً من القصة، بل يُمكن حذفها من دون أن تخسر القصة شيئاً. جرى تضخيم دور الشاهدتين على حساب الفاعل، أي الضابط، وهو ضحية الجريمة، وهو الذي سيحسم في مصير البطل. فبدلاً من أن يُصوِّر المخرج ضحايا بطله المجرم، يُصوِّر شهادة جارته. لذا، جاءت شخصية الضابط هامشية وسطحية جداً. لم يحظَ بالمساحة الكافية، على الرغم من أنه وزوجته سبب انطلاق الأحداث. لا جدوى من شروح عن خياناته المتأخرة التي تجعل النهاية رتيبة بسبب كشف معلومات فات أوانها. ثم إن الضابط يختفي وينتظر وقتاً طويلاً ليقوم بردّ فعل، حتى أن المتفرّج نسيه، ثم يظهر فجأة وهو يأمر رجاله بإحضار المجرم فوراً. هناك خلل في ترتيب اللقطات: لقطة إهداء سلسلة زوجة الضابط يجب أن تكون قبل اعتقال سعيد، مثلاً.
في الفيلم مشكلة رهيبة في الزمن. الزمن غير متوالٍ وغير منحوت، بل مُتَراكم بشكل رتيب. عرفنا كلّ شيء تقريباً عن سعيد في النصف الأول منه. أدركنا الرسالة: «لا تحكم على حذائي إن لم تجرّبه». بعد منتصف الفيلم، لم تعد الأحداث تتقدّم. نرى السجين مع الصحافية في مشاهد طويلة تقطعها لقطات «فلاش باك». لم يتمّ استثمار حضور الممثلة نفيسة بنشهيدة في الحدث. وكتعويضٍ، تركّز الكاميرا على جمال نحرها، وتمّ اختيار لباسٍ يُبرز نقطة لقاء الصدر بالعنق.
طيلة الفيلم، يجري كسر السرد بالـ «فلاش باك» والتعليقات واستجواب الجارة. التعليق والوصف يوقفان السرد كما كتب منظّرو الرواية. كثرة التعليقات على الحدث تُضعف تتابعه وتماسكه. من ملاحظة إيقاع السرد في الجزء الثاني من الفيلم، يبدو أن كتابة النصف الثاني من السيناريو أصعب من كتابة نصفه الأول عشر مرات.
مجدّداً تتأكّد القاعدة: الـ «فلاش باك» عماد الفيلم المغربي. يخاف المخرجون المغاربة من سرد حكاية خطية، فيلجأون إلى الـ «فلاش باك» الذي يبدِّد منطق الحبكة القائم على السبب والنتيجة. هذا وضع كلّ سيناريست لديه شخصية. وهذه مصيبة أفلام مغربية كثيرة يكتبها من لا يمارسون القصّ إلا موسمياً.

Related posts

Top