تجربة الإنسان بين الواقعي والافتراضي

بحث الإنسان منذ أن وجد نفسه على كوكب الأرض عن طريقة للتواصل مع العالم الخارجي، حيث اهتدى في البداية إلى الصورة التي خلصته من عقدة الاستئناس بالطبيعة، من خلال رسمه لخربشات القلق على جدران الكهوف والمغارات، والتي كانت عبارة عن صور للأشياء التي تحيط به، من حيوانات وأشجار ونباتات.
ولازالت العديد من الكهوف محتفظة بهذه الآثار التي عبر الإنسان فيها عن هواجسه من الوسط الذي قذف به، وهو ما جعله يؤسس لمرحلة جديدة في التواصل مع نفسه أولا ومع الطبيعة التي وعى بضرورة التعايش مع ما يوجد بها.
وبعد استئناسه بهذا العالم مع توالي الحقب الزمنية، ظل الإنسان في حاجة إلى أدوات للتواصل فيما بينه، وهو ما دفعه إلى الاجتهاد لإيجاد لغات وإشارات وإيماءات للتعبير عن ما يجول في ذهنه وخاطره، وهي اللغات التي لا زالت مؤرخة في الكهوف والجبال ومرسومة على الحجر.
وقاد الاجتهاد المستمر للإنسان خلال العقود الأخيرة إلى تطوير معجم لغاته التي تختلف من منطقة جغرافية لأخرى، وعمل على ابتكار وسائل حديثة في التواصل، إلى أن دخل في عصر التكنولوجيا الحديثة التي جعلت من “العالم قرية صغيرة” على حد تعبير مارشال ماكلوهان.
ومع هذا العصر الجديد قلبت التكنولوجيا كل مفاهيم التواصل، وحملت معها جهازا معجميا خاصا بها، لاسيما مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت أن تستقطب عددا كبيرا من المبحرين في شبكة الإنترنيت إلى صفحاتها وتطبيقاتها الافتراضية، كموقع فيسبوك وتويتر وانستغرام وتطبيق الواتساب..

بدأ الإنسان مع هذه القفزة التكنولوجية ينتقل تدريجيا من التواصل الواقعي- الذي كان يحتاج إلى طقوس خاصة وأدوات تقليدية معينة- إلى التواصل الافتراضي الذي لا يتطلب جهدا كبيرا في التعبير عن حاجياته ورغباته، إذ أصبحت الأزرار الرقمية تتكلف بمهمة إيصال رسائله وتوفر الجهد عليه من خلال استعمال إيموجيات رقمية وصور وفيديوهات جاهزة.
ومنذ ظهور هذه المواقع الافتراضية بدأ مهندسوها يطورون من ذكائها الرقمي لجعلها وسيلة أكثر سرعة وبساطة في يد مستعمليها الذين يبحثون عن الانسيابية في التواصل مع الآخرين الافتراضيين في هذه الصفحات الاجتماعية.
وهذا التطور التكنولوجي السريع، أسهم في عملية الاستهلاك المفرط للمعلومات الرقمية، سواء تلك التي هي عبارة عن نصوص قصيرة مكتوبة بالطريقة الخاصة بالدردشة التي توظف فيها مختلف اللغات واللهجات والأرقام، أو من خلال الصور والإيموجيات التي حلت محل اللغة والكلمة والحكي، حيث العالم أصبح قابلا لأن يرى لا لأن يحكى ويعاش.
غير أنه بالرغم من هذا التطور التكنولوجي الإيجابي الحاصل اليوم في مجال التواصل، إلا أن هذا المجال لم يخل من مظاهر سلبية عديدة، من بينها توظيف هذه الوسائط في تداول الأخبار الكاذبة، والمعلومات المزيفة، والدعاية لإيديولوجيات متطرفة، بالإضافة إلى استخدامها في عملية التضليل والتشهير، وإعلان الحرب عن شخص أو جهة معينة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، احتضنت وسائل التواصل الاجتماعي كل المظاهر السلبية في الإنسان، حيث رحل هذا الأخير كل سلوكاته العدوانية من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي من خلال صور ومقاطع فيديو ونصوص قصيرة مشحونة بالعنف والكراهية، على شكل سلوكات إنسانية افتراضية-عدوانية.

عصر الصورة

وفي سياق متصل، ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، في تثبيت مجموعة من الأمراض النفسية التي يعاني منها الإنسان داخليا، من قبيل النرجسية وحب الذات، وهو ما يتجسد في الكميات الكبيرة من الصور الملتقطة هنا وهناك، لاسيما “السيلفي” الذي يجسد المفهوم الحقيقي لهذا الطرح، فـ”الذات لم تعد تستمد وجودها من الواقعي بل من الافتراضي الذي يحتوي على ألبومات من الصور الملتقطة هنا وهناك، والتي على أساسها نميز بين هذا الفرد وذاك” (سعيد بنكراد).
وفي هذا الصدد، يطرح سؤال موضوعية هذه الصور ومدى عكسها للحقيقة الاجتماعية والنفسية لصاحبها الذي يوثق كل لحظاته اليومية، مؤبدا اللحظة بالتقاط صور خصيصا لتقاسمها مع أصدقاء وهميين، من هنا فالعالم الافتراضي أصبح السند الرئيسي الحامل لهذا الصخب البصري الذي حول العالم إلى نصوص بصرية، تحجب عنا رؤية الواقع وتقدمه بشكل مزيف.
ومن هذا المنطلق، أصبح هم عينة كبيرة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي هو المشاركة في إنتاج أكبر عدد ممكن من الصور وتقاسمها في العالم الافتراضي، بحيث لا قيمة لعيش اللحظة في ذاتها بل في تقاسمها مع الآخرين في العالم الافتراضي.
وهيمنت هذه الممارسات بشكل كبير على السلوك الإلكتروني للإنسان، الذي أصبح أسير صفحات التواصل الاجتماعي، وهو ما غير من مفهوم الزمن والفضاء اليوم، ودفع بالعديد من المستشهرين إلى ولوج هذه الوسائط للترويج لمنتوجاتهم على شكل صور وفيديوهات بمدد زمنية قصيرة لا تتعدى بضع ثواني.
من هنا، أصبح تعريف الزمن والفضاء مختلفا في العصر الرقمي الذي لا يؤمن بالحدود الفاصلة بين زمن وآخر، أو فضاء وغيره، بمعنى أضحى الفضاء واحدا والزمن خطا متصلا بين جميع المبحرين في شبكات التواصل الاجتماعي، الذين لا يكفون عن التصفح والتعليق والدردشة طالما أن الحامل الإلكتروني متصل بصبيب الإنترنيت.
وهذا التغيير الراديكالي في مفهوم الزمن والفضاء، غير من الخطابات الكلاسيكية القديمة التي كانت تعتمد على وقت زمني طويل، وكذا فضاء قابل لاحتضان عدد كبير من الجماهير ومجهز بآليات ومعدات خاصة، بالنسبة للزعماء السياسيين أو محترفي الفن، حيث أصبحت المنصات الافتراضية هي الحاضن لهذه الخطابات الإيديولوجية والفكرية والفنية.
وبنقل الفضاء والزمان من الواقعي إلى الافتراضي يكون الإنسان قد فقد جزءا كبيرا من الحميمية والاتصال المباشر، حيث كرست وسائل التواصل الاجتماعي مزيدا من العزلة والوحدانية على الأفراد وعلى المجتمع، بالرغم من إحساسهم بأنهم على اتصال دائم بالعالم الخارجي.
وهذا التحول من الواقعي إلى الافتراضي انعكس بشكل كبير على نمط عيش الأفراد، وعلى نفسيتهم، وأحاسيسهم، وثقافتهم، وحميميتهم، لأن أشكال التواصل والعلاقات تغيرت نتيجة اقتحام الرقمية لحياة الإنسان الذي فقد جزءا كبيرا من هويته، وأصبح مجرد رقم لحساب افتراضي بين ملايين الحسابات الأخرى.
إن هذا الانغماس في العالم الافتراضي، ولد للإنسان إحساس بأنه فقد جزءا من إنسانيته التي لا يمكن للآلة أن تعوضها، خصوصا وأن مساحات شبكات التواصل الاجتماعي هي رديف بشكل كبير لكل أشكال الوهم والتيه والتضليل، وهو ما انعكس على الذات الفردية في علاقتها بنفسها وبالآخرين.
ووضع العالم الافتراضي بين يدي المتصفح جميع الوسائل التي يمكن أن ينهجها في علاقته بالآخر الذي يتقاسم معه مساحات مواقع التواصل الاجتماعي، بما في ذلك حق إقصاء المختلفين عنا فكريا وإيديولوجيا، والذين لا نرغب بهم في لائحة أصدقائنا، حيث ننتقم منهم بالقتل الرقمي وبعملية الحذف والإخفاء.

الأنا الافتراضية

لقد أصبحنا نعيش في فترة تسود فيها ثقافة الذات بكل أوهامها وبآلهاتها المزيفة، حيث ازدهرت خلال هذا العصر الرقمي بشكل كبير، وبدأت تتوهم (الأنا الافتراضية) أنها مركز ساحة صفحات التواصل الاجتماعي، وباقي الذوات الأخرى هي كواكب تسبح حولها.
وهذه الفكرة نجدها سائدة اليوم عند بعض المشاهير في عالم الفن والموضة والرياضة الذين أصبحوا معبودات جديدة، يتجمع حول صورها المعجبون من القاطنين بالفايسبوك وتويتر وانستغرام، وهي انعكاس لحالة التشييء والزيف في الافتراضي.
ونفس الأمر سائد عند بعض الباحثين عن الشهرة الذين تعج بهم الصفحات الافتراضية، لاسيما فئة العامة من الناس الذين فتحت في وجوههم باب التعبير عن بعض ممارساتهم السطحية التي يبحثون من ورائها عن أكبر عدد من “اللايكات” والمشاهدات التي تدر عليهم أرباحا مادية مهمة، ذلك أن “هذيان السكارى في الكثير من الحالات تحول إلى إبداع يحظى بالكثير من الجيمات” كما يقول السيميائي سعيد بنكراد.
والذات الافتراضية لا تبحث إلا عن مثيلاتها في العالم الرقمي، لأن “الأنا” في حاجة إلى الاعتراف بها، وهو ما تحققه اللوغاريتمات، من خلال تقديمها لبروفايلات افتراضية تتماشى مع أفكار وأحاسيس ورغبات وآراء هذه الذات، وذلك بعد عملية معالجتها لكل المعطيات والمعلومات حول أفكارنا وحياتنا الخاصة التي نقدمها للآلة بشكل سلسل وسخي.
وفي هذا الإطار، يطرح مشكل آخر أتى مع العالم الرقمي، وهو إشكالية الحياة الخاصة للناس، التي أصبحت الآلة تلتقط تفاصيلها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من هواتفنا وحواسبنا، أو تلك التي نقدمها بشكل تلقائي وعلني أمام الملأ في الفضاء الافتراضي.
إن مختلف تحركاتنا في العالم الرقمي يتم تخزينها في ذاكرات إلكترونية، بهدف استخدمها أثناء القيام بدراسات إحصائية، سواء تعلق الأمر بالعمليات الاستخباراتية، أو الحملات الانتخابية، أو المؤسسات التجارية التي ترغب في الترويج لمنتجاتها بوصلات إشهارية.
إن حياتنا الخاصة تنازلنا عنها مقابل استخدامنا للمواقع الافتراضية بشكل مجاني، وهو ما أصبح يشكل خطرا على حياة بعض الأشخاص، الذين يهددون بشكل يومي من قبل بعض العصابات الإلكترونية التي تبتزهم بعد الإيقاع بهم في أفخاخ رقمية، من خلال الاحتفاظ برسائل نصية وصور شخصية قد تتضمن مشاهد جنسية، ذلك أن الحدود الفاصلة بين الحميمي واللاحميمي قد تقلصت بشكل كبير اليوم.
إننا أصبحنا نعيش في عالم عاري ومفضوح، وهو ما توثقه صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي نخط فيها همومنا ومشاكلنا ورغباتنا وحقدنا وأنانيتنا، بل ولحظاتنا الحميمية التي يجب أن نختلي بها، إننا عدنا من خلال الفضاء الافتراضي إلى زمن الكهوف المظلمة التي كان يودع فيها الإنسان القديم قلقه وتوتره.
ولا بأس بأن نتساءل هنا، عن ماذا لو انسحبت وسائل التواصل الاجتماعي من حياتنا ؟، فمن الأكيد أن العديد من المدمنين سيصابون بالاكتئاب، خصوصا أولئك الذين يعيشون لأجل الآخر، عوض الاستمتاع بالحسي حولهم، موثقين لحظاتهم في صور خالية من الدفء الإنساني.
وبهيمنة الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي تكون اللغة قد بدأت في الانسحاب التدريجي، خصوصا وأن هذه الصفحات الافتراضية اختارت لنفسها لغة رقمية موحدة بين الجميع، عبارة عن إيموجيات Emoji فارغة من الحميمية، ذلك أن القلب الذي يمكن أن نعبر به عن الحب للآباء يمكن أن نعبر به للحبيبة والأخ والأخت والصديق والجار أيضا، إن الآلة لا تميز بين هذا الحب وذاك كما هو في الواقع.

استحواذ الآلة

إن هذه التعبيرات الأحادية والخطية في وسائل التواصل الاجتماعي قتلت الإنساني فينا وأفقدته هويته وقيمته، حيث حصرت كل انفعالاتنا الإنسانية التي نعبر عنها بإيماءات وإشارات ولغة خاصة تختلف من بيئة إلى أخرى، (حصرتها) في إيموجيات فاقدة للحسي فينا.
وبتعبير آخر، إن حديثنا أصابه الفقر وأفرغ من معناه نتيجة هذا التواصل الفاقد للدفيء الإنساني، حيث لا يمكن لهذه الوسائل أن تحل محل التواصل الاجتماعي المباشر الذي تلتقي فيه الذات وجها لوجه بدون أقنعة إلكترونية تخفي العديد من الحقائق وتكرس مزيدا من العزلة عن الواقع الحقيقي.
ويعني هذا، أن الجانب القيمي والاعتبارات الأخلاقية التي نستحضرها في تواصلنا الواقعي والمباشر، لا يتم استحضارها بها في العالم الرقمي، حيث نتقاذف الصور فيما بيننا دون أن نراعي الأوضاع الاجتماعية والنفسية للآخرين، حتى ولو كان ذلك مزيفا وتمثيلا بعيدا عن الحقيقة، من قبيل أخذ صور في أماكن باذخة ونشرها، أو التقاط صور مع مشردين وفقراء أثناء القيام بأعمال خيرية، أو تصوير مشاهد عنف واعتداءات دون مراعاة الذوق العام، فظهور الرقمية أحدث مجموعة من القطائع خلخلت عميقا أنماط حياتنا وسط المجتمع.
بدأت الآلة اليوم في الاستحواذ على كل مظاهر الحياة اليومية للإنسان، بعد أن وثق فيها ووضع كل ما يخصه في ذاكرتها، التي عوضت ذاكرة الإنسان الذي أصبح عاجزا عن الحفظ والتذكر والاستبطان بجهازه العقلي الطبيعي الذي كان مصدر إنتاج الأفكار والنصوص والنظريات التي تولت اليوم الآلة مهمتها، وهو الحاضر اليوم في الأدب الرقمي أو التشعبي، وفي حالة الاستمرار على هذا النهج فإننا سنصبح في المستقبل فاقدي الذاكرة.
ويمكن الذهاب إلى أكثر من هذا، والحديث عن ما يطلق عليه في العالم الرقمي بالبيغ داتا big data، ويتعلق الأمر بكل المعطيات التي يتركها المبحرون في الانترنيت عبر فايسبوك وغوغل وآبل وأمزون وتويتر وانستغرام، حيث تعيد هذه المؤسسات استعمال هذه المعطيات الخاصة واعتمادها أثناء الحاجة إليها أمنيا أو تجاريا أو سياسيا.
فكل معطياتنا الخاصة الإيديولوجية والنفسية والسيكولوجية والمادية والصحية ومشاريعنا المستقبلية التي نعبر عنها في هذه الصفحات، مخزنة في حواسيب لها قدرة هائلة على التخزين والإحصاء، ذلك أنه كلما قدمنا معطيات عنا زادت الآلة في معرفة توجهنا وعملت على تصنيفنا ضمن خانات معينة بمساعدة اللوغاريتمات.
ونجح لحد الآن كلا من غوغول وآبل وفايسبوك وأمازون في الاستحواذ على مجموع العالم الرقمي، إذ أصبحنا نتحدث اليوم عن صناعة رقمية تابعة لوكالات الاستعلامات الكبرى بالولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد المتحكم اليوم في البيغ داتا، التي فوض أمر تجميعها لكل من فيسبوك وغوغل وأمازون.
إن علاقاتنا الافتراضية أصبحت محكومة من طرف الآلة، بمعنى أننا لسنا أحرارا في اختيار أصدقائنا الافتراضيين، فاللوغاريتمات هي من تتكفل بمهمة ربط الاتصال مع هذا الشخص، بناء على مجموعة من المعطيات التي تستقيها من ذاكرة هواتفنا التي تحتوي على أرقام وصور تسهل التعرف على كل من نربط بهم الاتصال بشكل دائم.
وهذا الأمر سيطرح في القادم من السنوات مجموعة من الإشكاليات لفائدة ساكنة العالم الافتراضي الأسخياء في تقاسم جميع ما يهم حياتهم الخاصة سواء في هواتفهم أو التطبيقات المحملة فيها، فضلا عما يتم نشره على مواقع التواصل الاجتماعي التي تحفظ وتخزن كل معلومة وصورة خاصة بنا، وللإشارة فإن أكثر من 90 في المائة من السمترتفونات مجهزة اليوم بنظام الاستغلال، أندرويد، الذي صممه غوغل.

هيمنة اللوغاريتمات

إن اللوغاريتمات تتقوى كلما زاد نشاطنا وتفاعلنا في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تراقب تحركاتنا الافتراضية بين الحسابات الرقمية، فهي محتفظة بملامح وجهنا، وهيئة جسدنا، ذلك أنها تخبرنا بكل جديد عنا في العالم الافتراضي حتى في حالة نشر صورة من طرف صديق أو غريب بدون إذن منا.
بصيغة أخرى، إن الخوارزميات أصبحت ترسم خريطة علاقتنا بالآخرين، بناء على المعطيات التي ندخلها على حسابنا، لاسيما تلك المتعلقة بتاريخ الميلاد، والمهنة، وصورنا الشخصية، وهوياتنا، وما يعجبنا في الطبخ والموضة والموسيقى والأدب، إننا نرهن حياتنا للآلة التي نأذن لها باستخدام هذه المعطيات على أساس تحقيق غاية الإبحار في العوالم الافتراضية بدون مقابل مادي.
ومع هيمنة اللوغاريتمات على العوالم الافتراضية، يمكن أن نقول إنها الإيديولوجيا الجديدة للعالم الرقمي، التي أصبح الإنسان غير قادر على التخلي عن نهجها واختياراتها التي تحددها لنا أثناء كل اتصال افتراضي على تطبيقات الهاتف أو شبكات التواصل الاجتماعي.
إن العصر الرقمي سيزيد في قلب العديد من المفاهيم التقليدية التي كانت لدى الإنسان عن الواقع، خصوصا مع التجارب الأخيرة الهادفة إلى تطوير روبوهات تتكفل بالعديد من المهمات الموكولة لدى الإنسان، في مختلف المجالات اليومية، في المطاعم والمصانع، والإدارات، وكذا وسائل النقل حيث بدأ تطبيق “أوبير” Uber يقضي على سائقي سيارات الأجرة المستقلين بالعديد من الدول على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وأصبحت اليوم الصناعات الرقمية تعتمد بشكل كبير على اللوغاريتمات التي يتم تجميعها من خلال عملية “البيغ داتا”، التي تساعد صناع السينما مثلا، كالموقع الشهير للأفلام والمسلسلات netflix على معرفة الذوق العام في مجال الفن، والذي على أساسه يتم الاشتغال على أفلام وسيناريوهات على المقاس، وهي الإحصائيات التي يتم اعتمادها أيضا في صناعة الأفلام الإباحية بالنسبة للمواقع المتخصصة في ذلك.
ويمكن تلخيص هذا الواقع بالإحالة، على التقسيم العصري الثلاثي لريجيس دوبري، وهو “عصر الخطاب logosphère، ونعني به عصر الأصنام بالمعنى العام للكلمة (كما تعبر عنها الكلمة الإغريقية eidolon-صورة). وهو يمتد من اختراع الكتابة إلى اختراع المطبعة. ويطابق عصر الكتابة graphosphère عصر الفن، الذي يمتد من المطبعة إلى التلفزيون بالألوان (التي تبدو لنا أكثر وجاهة من الصورة الفوتوغرافية أو السينما، كما نرى ذلك). أما عصر الشاشة vidéosphère فهو يقابل عصر البصري (تبعا للمصطلح المقترح من قبل سيرج داني). ونحن في صلبه الآن” (ترجمة فريد الزاهي).

< يوسف الخيدر

Related posts

Top