تجربة المليحي التشكيلية.. مخاض الحداثة في الثقافة المغربية

تستعيد العاصمة الرباط في أحد أهم أروقتها الفنية محطات من سيرة إبداعية مجددة يناهز عمرها ستة عقود، عاشها الفنان التشكيلي محمد المليحي بزخم تحولاتها وبشغفه الخاص باللون والحركة على اللوحة، ليحلق بالإنجاز التشكيلي المغربي إلى مدارج العالمية ويجعله شاهدا على مخاض أحلام الحداثة والتقدم.
في بلد ظل حاضنا لأحد أكثر تجارب الفن التشكيلي حيوية وتجديدا في خريطة اللوحة العربية، فإن المليحي يشكل اسما لا يمكن تجاوزه في تأريخ مسار تأسيس وتطور الحركة التشكيلية الحديثة في مغرب الاستقلال، الذي عاد إليه بعد مغامرة تعلم ونضج واحتكاك قادته من مدرسة تطوان للفنون الجميلة (شمال المغرب) إلى إشبيلية ثم مدريد، انتقالا إلى روما ثم نيويورك. فتنة عواصم الفن الغربي وآفاقها لم تثنه عن نحت تجربته الفنية من عمق بلاده ولها.
ولعل ثقل هذه التجربة يفسر الحشد الذي ضاقت به فضاءات الرواق الذي يحتضن المعرض المتواصل الى 30 أبريل القادم، من شخصيات ثقافية وعمومية من مختلف الأطياف والأجيال، التأمت في ما يشبه لحظة اعتراف بعطاءات أحد مؤسسي الحداثة التشكيلية في البلاد، لا تخلو من حنين يرتبط باستعادة عينات من رصيد إبداعي قال المليحي إنه لم يعد ينتمي إليه، بل أصبح تراثا وطنيا في ملكية الأجيال المتعاقبة.
سفر في زمن إبداعي عريق ومتعدد الروافد والمرجعيات، ذلك الذي يقود الزائر عبر لوحات تعود مرحلتها الأولى إلى الفترة ما بين 1958 و1964 التي تلخص بحثه عن ذاته كفنان في إقامته بالغرب، معرجة على مرحلة ثانية تمتد من 1965 إلى 1980، وهي منعطف حاسم في تاريخ الفن التشكيلي بالمغرب مع بزوغ نخبة من الفنانين الطليعيين تقاسموا هموم النضال والإبداع، وفي صدارتها توظيف الفن لفائدة القضية الفلسطينية وحلم اليسار.
ويتواصل السفر مع مرحلة ثالثة من بداية الثمانينيات إلى بداية الألفية الثالثة، تميزت بإيقاع متسارع من التطورات قبل أن تتكرس بعد ذلك معالم نضج فني تستمر حتى اليوم.
الالتزام والهوية

وقد تأتى تكوين الرصيد المعروض بفضل مساهمات ثمينة لجامعي تحف خواص ومؤسساتيين، مكنوا المهتمين من قراءة بصرية حية لجزء من التراث التشكيلي المغربي، مع العلم أن جزءا آخر لا يقل أهمية يظل موزعا بين مجموعات كبريات المتاحف في أوروبا والشرق الأوسط، التي أدرجت أعمال المليحي إلى جانب أيقونات الإبداع التشكيلي عبر العالم.
مع ضيوفه وزملائه وتلامذته، يبدو المليحي (83 عاما) في حالة اكتشاف ودهشة كما لو أنه يطالع أعمالا يراها لأول مرة. يقول إن الفنان لا ينظر إلى الوراء وهو بصدد إنجاز مشروع تلو الآخر، وقد لا ينتبه إلى التحولات التي تميز عمله وأسلوبه إلا بشكل لاحق، لأن العملية الإبداعية حصيلة أفكار واعية ودفقات تأتي أيضا من اللاوعي العميق. لكنه يبقى على قناعة بأن ديدن الفنان أن ينصت إلى نبض عصره ومجتمعه، ويحمل همّ الأسئلة التي تحاصر الإنسان.
ذلك ما يكرس مفهوم “الالتزام” في سيرة الرجل الذي عرف بنشاطه، الهادئ والعقلاني، من أجل تطوير مشاريع ثقافية على صلة بهمّ التغيير الاجتماعي والسياسي، وفي مقدمتها مجلة “أنفاس” الشهيرة التي شكلت واجهة النخبة اليسارية والتقدمية في منتصف الستينيات، وذلك إلى جانب أسماء من قبيل الكاتبين عبد اللطيف اللعبي والطاهر بنجلون وغيرهما. وفي أواخر السبعينيات، كان شريكا لوزير الثقافة المغربي السابق محمد بنعيسى في إطلاق موسم أصيلة الثقافي الذي لا يزال متواصلا حتى اليوم.
أما تأثير سؤال الهوية فيبدو قويا في بعض محطات المليحي الذي استلهم بعض تقنيات النسيج التقليدي والاشتغال على أقمشة شعبية، قبل أن يستبطن هذه التقاليد داخله في مراحل لاحقة، ويحارب حضور الهيمنة الغربية على الفن البصري المغربي، على حد قول الناقد الفني موليم العروسي الذي قدم لكتاب صادر بمناسبة المعرض؛ سيظل ينهل من الفن المغربي التقليدي باستنباط رسوم غرافيكية وأشكال حداثية، حتى أنه اعتبر نفسه “أحد ورثة الصناع التقليديين الذين عاشوا مجهولين”.
المقاومة والتحرر عنوانان كبيران في مسار المليحي بحسب الناقد، وقد اتخذا صيغا متعددة، تضمنت في السنوات الأخيرة انشغاله بسؤال البيئة وتنديده بصخب الإنتاج المفرط والمدمر للحياة، وهو الذي ترعرعت ذائقته على شرفة البحر في أصيلة، وحضرت حركة الموج بقوة في أعماله. رهانات فكرية وجمالية متجددة، تتجدد معها أساليب رجل عانق اللوحة بقدر شغفه بالحياة.

Related posts

Top