تجليات الكينونة في شعر أحمد المتصدق

يشكل ديوان “أوراق في الظل” للشاعر أحمد المتصدق تجربة تحول نفسي وتشكيل ذاتي مشاعري على غير مثال سابق، جاء المتصدق من عوالم الفيزياء والعقول المنطقية الى عوالم التحولات والتغيرات المشاعرية، حيث الأصل المدهش فيها هو البداية البديعة في القول الشعري، والاقتدار على التدفق والاستمرار في الولادة وفق أعراف الكتابة الابداعية، وإخضاعها للمحو والتلوين وإعادة المنسي في الذاكرة بالقطع مع شكلها الفزيائي الشائع (الماضي، الحاضر، المستقبل) وإعادة هيكلة زمنها ونبضاتها، بما يلبي ويشبع الاحتياجات النفسية للشاعر أحمد المتصدق ويجسدها في إبداع بكر على شكل أوراق أو مجموعة شعرية صدرت في طبعتها الأولى سنة 2019 عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش وبلغ عددها في الديوان  خمسا وخمسين قصيدة، قسمها الشاعر الى أربعة أقسام لتحقيق كينونته الشعرية وتلبية احتياجاته النفسية الدفينة:

” في ظل الجلال ” اثنا عشر قصيدة،” في ظل الجمال “خمس عشرة قصيدة،” في ظل الآمال “عشر قصائد، و” في ظل الوصال “ثمان عشرة قصيدة، وهذه الظلال الأربعة هي أقطاب تمتص بعضها البعض بحيث أنها لا تنفصل وتكمل قصائدها صورها الابداعية لتشكل دورة حياة الشاعر و” مدارات ارتقائه من سفاسف إنس ” وبوابات لتحقيق كينونة البدايات المدهشة، والتحويلات الشفيفة الى عالم التجارب الشعرية والتورط في ممكنات الإبحار لغور النفس، واقتفاء أثر القوافل الشعرية، والتيه في جمال المعاني وسراب الذاكرة الرحبة، يقول الشاعر في قصيدة ” رحلة في الظل “:

” وأصبح على ظهر موجي

ولفح الشمس 

وأمسي على بساط خيالي

مبحرا لغور نفسي 

أقتفي أثر القوافل

للظلال تميل فترسي

أتيه في جمال المعاني

واستعذب أنسي

أحسبه تيها

وسراب شعر

وأعراض مسي

فاذا بها مدارات ارتقاء

من سفاسف إنس

أسبح في فضاء الروح

أصبو لكشف قبسي

وأحصي رحمات مولاي

بعدها يلين حسي”

ومن خلال قراءة الديوان تبدو أوراقه الأربعة كلية الحضور، تقود نفسها برنين واحد الى الاشباع النفسي لمختلف احتياجات الشاعر وتحقيق الكينونة عبر الكشف الجلالي والكشف الجمالي، وكذا عبر طاقة الآمال وطاقة الوصل، اعتمادا على لغة تارة تكشف بلغة صوفية وأخرى تعبر بلغة الصور والمجازات.والقوة المحركة لهذين الكشفين والطاقتينواللغتين تحكمها تجربة شعرية بقوة داخلية محفوفة بالارتعاش والسريان للكشف عن الجلال والجمال:

” أصبو لكشف قبسي “

” أرتعش في رحلة الطهر ” 

فالشاعر في رحلة الطهر والسريان حضوره ليس غارقا في التراجيديا الاغريقية أو الدراما الهندوسية أوالعبث الأنطولوجي حيث المعاناة القاسية وجلد الذات والانتقام منها،أو اعتبار الرب كينونة في طور الانجاز وفكرة تخييليةفانتاستيكية، ان سريان الشاعر الى النور والطهر مطلق، وسلس في تدفقاته التي يحيا بها ومن خلالها:

أرتعش في رحلة الطهر

لأسمائه القدس

بأنوارها أرجو عفوا

لفقري المنسي “

فالشاعر في رحلته الجلالية تجربة انسانية على الأرض يقتفي أثر القوافل، فهو تائه في متاهة متناهية في الزمان والمكان، إنه تيه ليس بدوار أو حوامة على النمط البورخيسي، انما هو مدارات للارتقاء في سلم الوعي عبر التخلق بصفات وأسماء الله الحسنى، ورحلة سفرية في جمال المعاني وتذوق الأنس وسراب الشعر وأبدية بارقة لحظة النور:

” وتقر أنك مهزوم

أمام فورة النبع

وأبدية بارقة لحظة

تمجد النور وتهفو له ذكرا “

الشاعر هنا يمجد النور ويهفو للسريان نحو الخلو من الانهزام والتعب وعوائد الزمن،( قصيدة بارقة ) ليكونالديوان في أكثر من قصيدة أقل وسعا من معناه، وأشد غنى من قصائده، فهو أوراق في ظلال، تركب الريح بين كشف الجلال والجمال وبين طاقة الآمال والوصال، وترفرف بين السماء ( النفوس الكلية العليا ) والأرض ( النفوس الجزئية السفلى ) حتى تصل الى كل مكان، فطاقة الآمال والوصال قوة مشاعرية تصنف حسب علماء النفس إلى دقيقة وتفصيلية لمشاعر أساسية مؤقتة غير دائمة ومفاجئة ومشتركة بين جميع البشر، وتمثل قوة الفرح بالنسبة لطاقة الأمل وقوة الحب بالنسبة لطاقة الوصال، وهاتين الطاقتين أو الظلالين استعملهما الشاعر، من جهة الآمال حيث إذكاء الفاعلية المادية والنفسية للشاعر ومحاربة عتمات الواقع المحاصر بمختلف أنواع القيم المهترئة، ومن جهة الوصال بتلقيح الحاضر والآتي من خلال استحضار لحظات الذاكرة المنسية لدى الشاعر، بما هي حنين مفرط لطفولة بريئة لاهية في علاقاتها بطاقة الوالدين وحلم أكبر بالعودة الى مسكن الشاعر وبيته الممتد لما كان في الصغر وما يحيط به من جمال الطبيعة وساحريتها.

يقول الشاعر في ” بوح غير مكتمل “:

” كيف أكتب

دفء تلك الشتاءات

وأنا الأسير لحضن طاله الغياب

كيف أكتب دفئها

بأحاسيس طفل خجول

تحمر وجنتاه

لأبسط الأسباب”.

هذا ويمتاز الديوان بعمق المعاني في التصور والتخيل على مستوى ميلاد التجربة الشعرية، كما يشد الانتباه على مستوى التشكيل اللفظي، إلى اختيار الدقة والبساطة الشكلية والفكرية، بعيدا عن الزخرف اللفظي أو التكلف والتصنع في انتقاء الكلمات أو الإتيان بالرموز والأشكال الجاهزة والأساطير الميتة ( أسماء الأعلام والأمكنة، والآلهة … )، إن الشاعريقبض على تجربته الشعرية وكأنها حلم أو خيال فيحولها إلى كتابة شعرية، قد تخلو من البلاغة الرمزية والأسطورية إلا أنها ماهرة على مستوى الاتيان بمحسنات المشابهة والمجاورة وصور شعرية منتهية في الصغر. إن التجربة الشعرية لدى الشاعر أحمد المتصدق تبنى على أساس قوة الابتهاج والحب والانزياح عن هموم النهار ونسيان الذات، والكتابة الشعرية عنده لحظة ارتياح ومساء سكينة، بها يبتهج ويستكين في الوجود ويخلق لنفسه عوالم المتعة وراحة البال، بعيدا عن الكتابة بمفهومها الدرامي الهندوسي أو العبثي المبني على أساس التشظي والتمزق للذات المبدعة، وهذا ما به يتفرد الشاعر ليتورط بديوانه “أوراق في ظلال” في عالم الشعرية والابداع الأدبي.

> بقلم: عبد اللطيف سندباد

Related posts

Top