تحالف حزب التقدم والاشتراكية وحزب العدالة والتنمية… في الميزان

نادرا ما نجد في المغرب نساءَ ورجالَ السياسة يُمارسون فِعْــلَ الكتابةِ للتعبير عن مواقفهم إزاء مواضيع ذات راهنية، ولتوجيه الرأي العام في الإشكالياتِ المطروحة مُجتمعياً. فقد طَـغَــت ثقافة “الشفهي” على ممارسة الكتابة، كما لو أنَّ السياسيين متخوفون من الإفصاح عن اختياراتهم وأفضلياتهم. إلا أنه، لحسن الحظ، نجد دوماً من بين هؤلاء أشخاصاً يجرؤون على تكبد عناء، أو قُــلْ بالأحرى، اختبار مُتعة الكتابة.
بهذا الخصوص، يتعين توجيه تحية خاصة لأحمد زكي على مبادرته المتعلقة بإصداره، مؤخرا، كتاباً تحت عنوان “تحالف حزب التقدم والاشتراكية مع حزب العدالة والتنمية.. مَنِ الرابح وكيف؟”. وللتذكير فالمُــؤلِّف عضو في المكتب السياسي لحزب الكتاب منذ ما يزيد عن عشرين سنة، ومُناضل جمعوي نشيط، اقتحم عالَم الكتابة من باب النضال السياسي ومن زاوية العمل الصحفي، حيث تولى إدارة يوميتَيْ البيان باللغة الفرنسية وبيان اليوم باللغة العربية لمدة تناهز العشر سنوات (2000-2009)، وقد كان متميزاً من خلال افتتاحياته باللغتين العربية والفرنسية اللتين يُتقنهما تماماً. وعليه، فقد تناول الموضوع، وهو العارِفُ بالمجال، من خلال تحديدٍ دقيقٍ وواضح للأهداف من وراء عمله، ألا وهي تسليط مزيد من الضوء على موضوع لم ينل قسطه الكافي من الدراسة وتَــعَــرَّضَ إلى غيرِ قليلٍ من سوء الفهم.
وباعتباره خَــبِــرَ، من الداخل، وتابَــعَ، عن قُربٍ، المسلسلَ الذي أفضى إلى عقد هذا التحالف بين الحزبين المُتباعديْــن على المستويين الإيديولوجي والسياسي، فقد اعتمد زكي منهجية للتحليل مُستعارة، حسب قوله، من العلوم السياسية. وعلى امتداد صفحات الكتاب استعان باقتباساتٍ من الوثائق الرسمية لحزب التقدم والاشتراكية، ولا سيما منها التقرير المُقَدَّم أمام دورة اللجنة المركزية المنعقدة بتاريخ 10 دجنبر 2011، والتي اتُّــخِذَ فيها القرار “التاريخي” بالمشاركة في حكومة بنكيران، حيث لا يقل عدد الصفحات المُستنسخة من ذات التقرير عن العشر صفحات، وقبل ذلك كان قد أشار الكاتبُ إلى الاجتماعات الأربعة المتتالية للمكتب السياسي، والتي تم تخصيصها للتداول في موضوع المشاركة مِن عدمها في تلك الحكومة. ولربما كان من الأفضل استعمال مصدر المعلومة هذا، بشكلٍ أكبر، خاصةً وأن جميع محاضر اجتماعات المكتب السياسي مُدونة ومُوَثَّــقَــة. وهو الأمر الذي كان كفيلاً بأن يُتيح أمام القارئ فهماً أكبر لتطور التحاليل والمواقف المُعَبَّر عنها من قِبَل كل عضو، إلى حين بلورة موقفٍ حَـــظِــيَ بأغلبيةٍ عريضة داخل هذه الهيئة التنفيذية، وهو الموقف نفسه الذي صادق عليه الحزب برمته. وكما أكد على ذلك أحمد زكي، لم يكن أبداً من السَّهْــلِ اتخاذُ موقف المشاركة في حكومة يقودها حزبٌ ذو مرجعية “إسلاموية” وينتمي إلى عائلة “الإخوان المُسلمين”.
وباتخاذه لذلك القرار، فإن حزب التقدم والاشتراكية لم يُـوَقِّــع لحزب العدالة والتنمية شيكاً على بياض، كما لم يعقد معه “زواجاً كاثوليكياً”، يُدقق الكاتب. بل إن تلك المشاركة تمت على أساس برنامجٍ مُشترك للأحزاب الأربعة المشكِّلَة للأغلبية، صِــيغَ بشكلٍ توافقي، بالإضافة إلى تبني ميثاق للأغلبية قام حزب التقدم والاشتراكية بإعداد مشروعه، وهو تفصيلٌ من المهم التذكير به.
ولقد اعتمد زكي على المبادئ الكبرى للمادية التاريخية ونظرية التناقضات والصراع الطبقي، مُبَرهِناً على كثيرٍ من القدرة على التبسيط وعلى حِــسٍّ بيداغوجي في استعمال المفاهيم. ومع ذلك نؤاخذه على نزوعه نحو التغليب المفرط لبعض الظواهر من قبيل ظاهرة “التحكم”، عبر استعمال حزبٍ نشأ بمباركة الإدارة بغرض منحه الأغلبية لقيادة الحكومة المقبلة، آنذاك، والموكول إليها مهمة الدفاع عن مصالح الأوليغارشيا، وبالتالي إفشال الانتقال الديموقراطي.
إن هذا التقييم الذي قدمه المؤلِّف، من دون أدنى تحفظ، يبدو لنا إقصائياً على المستوى المنهجي والتحليلي، ذلك أن التحليل الجدلي للأوضاع، والذي يتقاسمه الكاتب أيضا، كان يقتضي وضع عوامل أخرى عديدة في الميزان وإدراج متغيرات أخرى في التحليل. وجديرٌ هنا بالتذكير أن حزب العدالة والتنمية هو مُخــتَـــرِعُ مقولة “التحكم”، وهي مقولة غريبة عن الجهاز المفاهيمي لحزب التقدم والاشتراكية وعن قاموسه. حيث قام حزب المصباح بذلك لأجل الاستغلال السياسي، إلى جانب استعماله مقولاتٍ أخرى بطابعٍ “حيواني” من قبيل التماسيح. وفي نهاية المطاف كان هذا الحزبُ هو أول من استخدم المقولة واستفاد منها عملياً، ليبسط تحكمه على أجزاء كاملة من المجتمع، في سعيٍ نحو خلق “دولة داخل الدولة” مُستقبَلاً، وهو الأمر الذي كان يندد به بنكيران.
أما في الفصل المتعلق بالبنيات الاجتماعية والقوى المتواجدة، فيبدو لنا من المُفيد تقديم ملاحظتين اثنتين: أولاهما تتصل بمفهوم “البورجوازية الوطنية”، حيث نتساءل، على ضوء التطورات التي عرفها المغرب خلال العقود الأربعة الأخيرة، والتي أفضت إلى تحالفات بين الرأسمال الوطني ونظيره الأجنبي.. نتساءل هل ما تزال لهذا المفهوم جدوى علمية؟ وهل هو مفهوم يعكس فعلاً الواقع كما هو الآن؟ فهذا المفهوم الذي استُعمِلَ لأول مرة في وثيقة الحزب المعنونة بـ “الثورة الوطنية الديمقراطية” التي تعود إلى سنة 1975، يبدو لنا أنه مفهومٌ متجاوَزٌ اليوم.
والمُلاحظة الثانية تتعلق بغياب الإشارة إلى مؤسسة مركزية في التشكيلة الاجتماعية المغربية، ألا وهي المؤسسة المَلَكية. ذلك أن أي تحليلٍ سيظل، في تقديرينا، جزئياً ومُنحازاً إذا لم يأخذ بعين الاعتبار دور ومكانة المَلَكية في اللعبة السياسية، وفي التوازن الاجتماعي، وفي ضبط الحقل السياسي – المؤسساتي.
وتُفَسَّرُ هذه الإغفالاتُ، من وجهة نظرنا، بكون الكاتب لم يأخذ المسافة الكافية عن المواقف الرسمية لحزب التقدم والاشتراكية، حيث كان عليه أن يضع نفسه، مؤقتاً، خارج هذه الدائرة المُقَــيَّــدَة بـ “الالتزام بالموقف الجماعي”، ويتصرف، بالمقابل، كأي ملاحِظٍ موضوعي. فعلى سبيل المثال: الصورة المُختارة لغلاف الكتاب تُبين كُلاًّ من بنكيران وبنعبد الله يَــشُــدَّانِ على يَــدَيْ بعضهما، وقد تُــوحي، لأول وهلة، أن وراء التحالف بين الحزبين تقف هاتان الشخصيتان السياسيتان، واللتان تستحق العلاقات بينهما تحليلاً خاصا. فالطموحات الشخصية نادرا ما تكون غريبة على المشاريع الجماعية. وهكذا رأينا كيف تدهورت العلاقات بين الحزبين مباشرة بعد إبعاد بنكيران من رئاسة الحكومة، وهو الذي كان في نفس الوقت أميناً عاما لحزب المصباح.
وفي المُجمل، فإن هذه الملاحظات والاقتراحات لا تنزع بتاتاً عناصر الجودة والجدية عن العمل الذي قدمه لنا الكاتب في مَــؤَلَّــفٍ يُقــارِبُ إشكاليةً معقدة وخلافية… إنه كتابٌ يستحق القراءة، لأنه يُحفز على التفكير والنقاش، وبلادنا في أمس الحاجة إلى الحوار.
أما بخصوص اكتشاف من هو الرابح من ذاك التحالف غير المسبوق، فيمكن القول، بلا أدنى تردد، إن الرابح هو وطننا وديمقراطيته الفتية… والباقي كله يندرج ضمن خانة الحساب السياسي العابر.

< بقلم: د. عبد السلام الصديقي

Related posts

Top