تراجع مؤشر البصمة المائية في زمن كورونا

يتطلب كل طعام نأكله وكل منتج نستخدمه كميات كبيرة من الماء لإنتاجه وبالتالي إنتاج نفايات غير مرئية، في حين أن توفير الكميات الكافية من المياه العذبة لكل فرد يعيش على سطح البسيطة سيصبح مشكلة متزايدة الأهمية مع تغير المناخ والعجز المائي الذي تعيشه مجموعة من المناطق عبر العالم، خصوصا الشعب المصري الذي سيعاني الأمرين مع بناء إثيوبيا لسد النهضة على نهر النيل، و ما سيكون له من تداعيات كبرى على الانتاج الفلاحي و الصناعي والاستهلاك الفردي بهذه البلدان، ويقيس مؤشر “البصمة المائية” هذا الاستهلاك.

ماهي كمية الماء الموجودة في البطيخ الأحمر؟

يعتبر البطيخ الأحمر المغربي الأغلى كلفة مائية في العالم والأجود نوعية، حيث في عام 2019 تم بيع البطيخ المغربي في الأسواق العالمية بمتوسط سعر 0.536 دولار للكيلو بمبلغ إجمالي قدره 87.54 مليون دولار لجودته العالية، و يعد المغرب البلد الثاني الذي يصدر البطيخ الأحمر بأفضل الأسعار بعد هولندا مباشرة، وبالتالي فإن المملكة المغربية تتقدم على كل من الولايات المتحدة وإسبانيا وإيطاليا، ويوجد المغرب في الرتبة السابعة عالميا من حيث التصدير حيث بلغ إجمالي صادرات المغرب لجميع دول العالم من البطيخ الأحمر حوالي 3449.49 مليون كيلوغرام في عام 2019، و تعد فرنسا من أهم العملاء الرئيسيين للمغرب بالدرجة الأولى مع 64.87 مليون كيلوغرام من البطيخ الأحمر، متبوعة بإسبانيا بأكثر من 50.43 مليون كيلوغرام والمملكة المتحدة بـ13.33 مليون كيلوغرام.
إذا سألنا أنفسنا ما هي كمية المياه اللازمة لإنتاج البطيخ الأحمر بصفة خاصة أو المنتجات التي نستخدمها ونأكلها ونستهلكها بصفة عامة، فإنه يمكننا بسهولة أن نفهم أن إنتاج كيلوغرام واحد من الفواكه أو الخضر يتطلب كميات كبيرة من المياه العذبة، حيث من الضروري بالفعل سقي النباتات والأشجار وأحيانا في المناطق الصحراوية.

طاطا و زاكورة “الواحات تحترق”

في زاكورة كما في طاطا أخذنا مثالا لأربع ضيعات فلاحية، كل ضيعة زرعت فيها أربعة هكتارات بالبطيخ الأحمر، وبعد المعاينة تم تسجيل في كل عداد للماء في الضيعات المذكورة ما بين 600 و640 طنا أي ما يعادل 2400 طنا من المياه المستهلكة بالضيعة الواحدة، في المقابل يحتوي كل هكتار على ما بين 490 و570 بطيخة حمراء.
إذن هل من السهل معرفة كمية الماء اللازمة لإنتاج بطيخة حمراء واحدة؟ الإجابة مقدمة في مفهوم “البصمة المائية”: أي مؤشر الاستخدام المباشر وغير المباشر للمياه من قبل المستهلك أو من قبل المنتج، يسمح لنا هذا المؤشر بتحديد كمية المياه التي يمكننا تعريفها على أنها “غير مرئية”، ولكنها موجودة والتي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار لتجنب إهدار الذهب الأزرق، والذي أصبح عملة نادرة على كوكب الأرض.
في الواقع يستخدم كل منا الكثير من الماء للاستحمام وللشرب ولسقي النباتات، وللطبخ و غسل السيارات و سقي ملاعب الغولف والمساحات الخضراء، ولكن هذا لا يمثل سوى الجزء الواضح من الاستهلاك والذي يمكننا حسابه بسهولة وبالتالي يمكننا توفيره كذلك باتباع السلوكيات الصديقة للبيئة، بينما من الصعب جدا تصور أن إنتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر يتطلب 16000 لتر من الماء، وأن 140 لترا من الماء مطلوبة لصنع كوب واحد من القهوة أو أن 20000 لتر من الماء لازمة لإنتاج قميص من القطن ! تلك هي البصمة المائية.
وتتطلب زراعة القطن وتشغيله حاليا عبر العالم إجمالي 256 مليار متر مكعب من المياه سنويا، بينما بالنسبة للإنتاج العالمي للحوم تستخدم البشرية 2422 مليار متر مكعب من المياه سنويا: 98٪ منها للاستخدام المائي بالأعلاف الحيوانية بينما يستخدم 1.1٪ منها فقط للماشية.
لنتخيل كميات المياه المتضمنة في أي منتوج، و لنتخيل كذلك ترك صنبور الحمام مفتوحا على آخره وليوم كامل، ليلا ونهارا لمدة 24 ساعة بدون توقف، ونأخذ بعين الاعتبار متوسط الصبيب من سبعة إلى ثمانية لترات في الدقيقة فسنهدر في النهاية حوالي 10000 لتر من الماء و هي كمية أكثر من الوقت المطلوب للحصول على كيلوغرام من الشاي الأخضر أو نصف كيلوغرام من البن الأخضر.

البصمة المائية مؤشر جديد

تم حساب البصمة المائية ولأول مرة في عام 2007 من قبل العالم “أرجن هويكسترا” وهو أستاذ إدارة المياه في جامعة توينت الهولندية، والعالم عشوق كومار شابغان المدير العلمي لشبكة البصمة المائية، وهي جمعية غير ربحية هولندية تهدف إلى توعية و تحسيس المواطنين والمسؤولين الإداريين حول مشكلة استهلاك المياه العذبة.
وقال هويكسترا: “إن قيمة البصمة المائية مرتبطة بالتأثير البشري على أنظمة المياه العذبة، يمكن فهم مشاكل نقص المياه والتلوث ومعالجتها بشكل أفضل إذا نظرنا إلى الإنتاج ككل”، هذا هو السبب في أنه يجب تحليل المشكلة في سياق العولمة الاقتصادية، يضيف: “على العديد من البلدان أن تعيد النظر في بصمتها المائية بشكل كبير من خلال استيراد السلع كثيفة المياه، وهذا يضع ضغوطا على الموارد في مناطق التصدير، وهي المناطق التي غالبا ما يوجد فيها نقص في الحكامة الرشيدة وآليات الحفاظ على المياه. “
بالنسبة للشركات الكبيرة، فإن الأمر يتعلق بالتوفير، بفضل الاستيراد للسلع التي تتطلب كميات كبيرة من المياه العذبة من خلال الاستفادة من القوانين الضعيفة المفروضة في بلدان معينة على مواردها المائية، حيث 84٪ من البصمة المائية المرتبطة باستهلاك القطن في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال يتم نقلها بعيدا عن أوروبا خاصة في الهند وأوزبكستان.
إنها استراتيجية لزيادة الأرباح تتجاهل حقيقة أنه – وفقا لأحدث تقرير للأمم المتحدة التوقعات السكانية العالمية: حيث من الممكن أن يصل عدد سكان العالم إلى 8.1 مليار في عام 2025 و 9.6 مليار في عام 2050 و 10.9 مليار في عام 2100 وهي العدد الاقصى للسكان الذي يمكن للكوكب محدود الموارد تحمله، بالإضافة إلى ذلك سيكون النمو أسرع في 49 دولة من الدول الأقل نموا والتي ستشهد تضاعف عدد سكانها من 900 مليون اليوم إلى 1.8 مليار شخص في عام 2050، وهذا يجب أن يجبرنا على أن نكون بخلاء لأن ‘هناك خطر ا ملموسا من بدء النزاعات خاصة في البلدان ذات المياه العذبة الأقل على سبيل المثال حوض النيل وحوض دجلة والفرات والصراعات التي يمكن ان تنشب في لحظة بين مصر و جيرانها وبين تركيا وجيرانها”.
“إن البصمة المائية الحالية تشرح رينزو روسو أستاذة الهيدرولوجيا في مدرسة بوليتكنيك بميلانو الايطالية، يمكن تحسينها من خلال إدخال معيارين جديدين: تجارة المياه والإجهاد المائي”. وتضيف “نحن في الواقع بحاجة إلى النظر في تسويق المياه في حساب البصمة المائية، إذا أكلنا لحم بقر من الأرجنتين فسوف نستورد ثمانية آلاف لتر من الماء، هذا هو السبب في أن هذه المشكلة ترتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الدائرة القصيرة”. وتؤكد رينزو روسو “يجب علينا حساب مستوى الإجهاد المائي في المجتمع، حيث يتم حساب البصمة المائية، لا يمكنك النظر إلى استهلاك المياه في المناطق الثرية بنفس الطريقة كما هو الحال في المناطق الفقيرة في المياه “.
في الوقت الحاضر يتم حساب البصمة المائية فقط على المستوى الكمي لكل بلد، حيث تشير نتائج تحليلات العالم هويكسترا إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة التي لديها أعلى بصمة مائية للفرد، تليها إيطاليا وفرنسا، ويضيف: “ولكن لا ينبغي أن نركز فقط على البيانات، علينا أيضا أن نسأل أنفسنا عن نوع المياه المستخدمة”. وتشير إلى المراسلة فرانشيسكا غريكو، باحثة في المعهد الملكي بلندن البريطانية، والتي ألفت مع مارتا أنطونيلي كتاب “الماء الذي نأكله”، لأنه ليس هناك مياها متجددة أنهار ا كانت أو بحيرات بل هي مياه محدودة مثل المياه الجوفية، “فالانتقاد الرئيسي الذي تم توجيهه إلى البصمة المائية الحالية هو أنها مجرد مؤشر كمي”، تؤكد فرانشيسكا، ثم تضيف: “إذا اعتقدنا أنه بالنسبة لكأس من النبيذ الأحمر هناك الحاجة إلى 140 لترا من الماء حيث يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه في مناطق معينة لا نحتاج إلى سقي الكروم بشكل اصطناعي عبر حفر الثقوب المائية ونصب شبكة القنوات البلاستيكية وتوزيعها بنظام التنقيط”.

فرض كميات محددة لاستهلاك المياه في الصناعة

يجب أن تلتزم المؤسسات بجعل البصمة المائية مؤشرا رئيسيا قادرا على توجيه القرارات الاقتصادية، “لقد رأيت فهما للمشكلة على المستوى المؤسساتي الدولي، ولكن من المهم أن يقتنع المسؤولون والمنتخبون والحكومات بأن المياه مورد لا يمكن التعامل معه على أنه عمل أو خدمة، بل يجب أن تظل إدارتها علنية لأنها مصلحة عامة، ولكن أيضا لأنه في كل مرة يتم فيها خوصصة القطاع يكون هناك تدهور في جودة الخدمة”، كما يقول روسو.

البصمة المائية و البصمة الكربونية

تحتل القضايا البيئية مكانا متزايدا في مجتمعنا، ويتم باستمرار تحسين استخدام أدوات لقياس تأثير عاداتنا الاستهلاكية على البيئة في المخططات الاقتصادية: البصمة البيئية، البصمة الكربونية، بصمة التربة، الصيد المستدام، النقل المستدام … وبالتالي فإن البصمة المائية اتبعت مفهوم المياه الافتراضية، “البصمة المائية” هي مؤشر على الاستخدام المباشر أو غير المباشر للمياه من قبل المنتج أو المستهلك، تم تطويره لليونسكو من قبل الأستاذ أرجن هويكسترا منذ عام 2002.
ويستخدم مؤشر البصمة الكربونية لقياس كمية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والغازات الدفيئة بشكل عام المنبعثة من نشاط ما أو فرد ما أو دولة ما، ويعتبر أي نشاط مبني على الاستهلاك يبعث كميات أكبر أو أقل من الكربون، اعتمادا على خيارات الاستهلاك: وسائل النقل والتغذية وأنماط التسوق والمباني.
إن قياس البصمة الكربونية يجعل من الممكن مقارنة أنماط العيش المختلفة أو المجتمعات المختلفة من خلال تأثيرها البيئي، وبالتالي فإنه يوفر سبلا للتحسين للمستهلكين المعنيين بالحد من تأثير استهلاكهم على البيئة.
إذا كانت البصمة الكربونية تقيس كمية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من نشاط أو منظمة أو مجتمع ما، فإنه على المدى الطويل يصبح من الممكن تقييم الضغط البيئي الذي يمارسه السكان على المنظومات البيئية وفقا لمستوى معيشتهم، من خلال مراعاة الانبعاثات المباشرة وغير المباشرة المرتبطة بإنتاج وتسليم المنتج أو الخدمة.
وإذا كانت البصمة الكربونية تقيس كمية الانبعاثات الغازية لمنتج ما أو خدمة ما ببلد ما، فإن بصمته المائية هي حجم المياه العذبة اللازمة لإنتاج هذا المنتج أو الخدمة، لذلك فإن البلد الذي يستهلك كمية أكبر من المياه الافتراضية مفروض عليه استيراد كميات أخرى لتلبية احتياجاته، وعلى الصعيد العالمي يبلغ حجم بصمة مياه الشرب للفرد 1243 متر مكعب من
الماء للفرد في السنة أي حوالي 7452 مليار متر مكعب في السنة،1875 متر مكعب للفرد في السنة في فرنسا،2483 متر مكعب للفرد في السنة في الولايات المتحدة، 702متر مكعب للفرد في السنة في الصين.
إن البصمة المائية لمنتج سلعة كان أو خدمة، تساوي الحجم الكلي للمياه العذبة المستخدمة بشكل مباشر أو غير مباشر لإنتاج المنتج الغذائي أو الصناعي، في جميع مراحل تصنيعه وتحويله، وبالتالي فإن هذا الإجراء ذو الصلة يجعل من الممكن تقييم تأثير المنتجات التي تتطلب الاستخدام المكثف للمياه في تصنيعها ويضيف دانيال زيمر مدير مجلس المياه العالمي: “إن استهلاك كيلوغرام من القمح في الواقع يستهلك آلاف اللترات من الماء التي يحتاجها لزراعة هذه الحبوب”، ونطلق مصطلح “المياه الافتراضية” على إجمالي استهلاك المياه اللازمة للإنتاج الزراعي أو الصناعي أو للخدمة. بمعنى آخر، هذا المصطلح يتوافق مع الماء المستخدم لإنتاج سلع يمكن تصديرها في مكان ما واستهلاكها “فعليا” في مساحة أخرى، والبصمة المائية هي مقياس لآثار النشاط البشري على المياه على المستوى المنزلي أو الزراعي أو الصناعي.

كرونولوجيا البصمة المائية

وتستخدم البصمة المائية بشكل متزايد كمقياس للقضايا المتعلقة بالمياه وتجارة المياه واستخدامها في العالم، و”المياه الافتراضية” هو مفهوم ابتدعه “جون أنتوني ألان” من كلية كينجز كوليدج بلندن في بداية التسعينات، حينها قام جون بتحليل العلاقات الدولية في الشرق الأوسط وخلص إلى أن استيراد “المياه” في شكل منتجات يمكن أن يجنب الشعوب والدول “حرب المياه” في المنطقة، ويصل تحليله إلى تحويل الحاجة إلى المياه من بلد مستهلك وفي ضغوط مائية إلى دولة منتجة بها فائض مائي.
ومنذ ذلك الحين استمر السعي نحو حساب المحتوى المائي الافتراضي لكل منتج زراعي أو صناعي، وهكذا تم تحديد حجم التبادل الاقتصادي بين الدول و الحكومات في حجم المياه على المستوى العالمي حيث تتبادل الدول الغنية والفقيرة في المياه المورد “فعليا”، ونتيجة لذلك أصبحت البلدان المصدرة الرئيسية للمنتجات الزراعية مثل كندا والولايات المتحدة وأستراليا والبرازيل وفرنسا مصدرين للمياه الافتراضية، وفي المقابل المستوردون الرئيسيون للمياه الافتراضية هم دول الشرق الأدنى والأوسط وكذلك الصين التي تعاني من عجز في المنتجات الزراعية حيث أنه حوالي خمس استهلاك المياه في العالم هو استهلاك افتراضي و يتم تبادل المياه بين الدول في شكل منتجات زراعية أو صناعية.

البصمة المائية المغربية

في المغرب انتقلت البصمة البيئية السطحية اللازمة لإنتاج سلعة ما من 1 إلى 1.47 هكتار لكل فرد بين عامي 1990 و2010، وانخفضت السعة الحيوية والسطحية الإنتاجية لكل فرد بنسبة 25٪ منذ 1960.
ومن الواضح أن مشاريع البنية التحتية الكبرى التي أنجزها المغرب على مدى العقدين الماضيين لها تكلفة بيئية كبيرة على تدهور المنظومات الايكولوجية، تدهور ناجم عن استهلاك الموارد الطبيعية من مياه سطحية وجوفية، ورمال نهرية وبحرية، وأشجار ونباتات وأنواع حيوانية هدمت مداشرها وبيوتها، بالإضافة إلى تلوث المياه والهواء وكمية النفايات المنزلية والصناعية، ولتقييم هذه التكلفة اتخذت البصمة البيئية كمعيار لقياس مساحة الأراضي المنتجة حيويا اللازمة لإنتاج السلع والخدمات كمعيار.
إن المغرب دولة متوسطية تواجه ندرة وتدهور نوعية المياه، فالموارد المائية المحدودة تقيد الأنشطة في مختلف قطاعات اقتصاد البلاد، وتعد الزراعة أكبر مستهلك للمياه، حيث تصل عمليات سحب الري إلى ذروتها خلال فترة الجفاف من السنة، مما يساهم في ضعف تدفق المياه.
وتلعب موارد المياه الجوفية أيضا دورا مهما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمغرب، لاسيما من خلال ضمان إمدادات المياه للمناطق القروية، ومع ذلك فإن جزءا كبيرا من طبقات المياه الجوفية مستغل بشكل مفرط ويعاني من تدهور نوعية المياه بسبب تسرب المياه المالحة، بسبب الإفراط في الاستغلال، والنيترات والمبيدات الحشرية التي تهرب من الأراضي المزروعة، بسبب الاستخدام المفرط للأسمدة، كما تلوث المياه السطحية في بعض المراكز الحضرية بسبب تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة.

البصمة المائية والاستخدام المسؤول للمياه

تعد البصمة المائية طريقة لتقييم الآثار البيئية للمياه لمنتج أو عملية أو خدمة ما، لذلك أصبح من الممكن استيعاب التكاليف الاقتصادية للتأثيرات البيئية المتعلقة بالمياه في اقتصاد السوق، وفي الواقع تماما كما هو الشأن بالنسبة للبصمة الكربونية حيث تم خلق ضريبة الكربون وبالتالي حساب التكاليف الاقتصادية للتأثيرات البيئية المتعلقة انبعاثات غازات الدفيئة، يمكن أن تكون البصمة المائية بمثابة أساس لنظام مماثل، على الرغم من عدم وجود تشريع حتى الآن، فإن العديد من الصناعيين يأخذون زمام المبادرة ويستثمرون في هذا الموضوع، وهو أمر ذو أهمية كبيرة للمجتمع ككل.

الماء عملة ناذرة ومورد يستخدم بكثافة

لطالما كانت المياه موردا حيويا للمجتمعات البشرية منذ العصور القديمة، كما في العقود الأخيرة، حيث ازداد الطلب على المياه مرتين بسرعة نمو سكان العالم، وفي الواقع تضاعفت استخدامات المياه، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في متوسط الاستهلاك لكل شخص، ويتم استغلال هذا المورد اليوم في العديد من مجالات النشاط، بما في ذلك 70٪ في الزراعة و15٪ لإنتاج الطاقة وبالتالي فهو تحت الضغط بسبب استخدامه المكثف.
ولكن بعيدا عن الجانب الكمي لسحب المياه، يجب على المرء أيضا أن يأخذ في الاعتبار الجانب النوعي لاستخدام المياه، وتعتبر المخلفات السائلة لمحطات معالجة مياه الصرف الصحي، بالإضافة إلى مبيدات الآفات والأسمدة الكيماوية المستخدمة في الزراعة هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن إطلاق الملوثات المختلفة في البيئة، وتتأثر المنظومات البيئية المائية المستقبلة للتلوث المائي بدرجات متفاوتة حسب نوعية الملوث.
وهكذا، تم إثبات وجود بقايا الأدوية والملوثات الدقيقة في نسبة متزايدة من الأنهار، وحتى في بعض المياه الجوفية حيث تم تأكيد وجود عصارة النفايات (ليكسيفيا) كما تؤكد العديد من الدراسات العلمية، وقد لوحظ بالفعل مؤخرا التأثير الظاهر على النظم البيئية نظرا لوجود بقايا المخدرات وبقايا الجينات الفيروسية كما هو الحال بالنسبة لفيروس كورونا الذي وجدت بقاياه في مياه نهر السين بالعاصمة باريس.
وتؤثر الأنشطة البشرية على إمدادات المياه العذبة على نطاق واسع كما ونوعا، لذلك يبدو من الضروري أن يكون لدينا طريقة لفهم تأثير المنتج أو العملية أو الخدمة على المياه كمورد طبيعي.

تدوير المياه المستعملة والبصمة المائية

إذا كانت البصمة المائية قد تم تطويرها لأول مرة على يد البروفيسور هويكسترا عام 2002 فقد استمر تطويرها بدعم من طرف شبكة البصمة المائية، وتغطي البصمة المائية دورة حياة الوحدة الوظيفية بأكملها لذلك تؤخذ جميع مراحل سلسلة القيمة في الاعتبار، من استخراج المواد الخام إلى مراحل نهاية عمر المنتوج كإعادة تدويره مثلا، إذا كان قابلا للتدوير بالفعل، وكانت هذه الطريقة هي المبادرة الأولى لتقييم الآثار البيئية للمياه من وجهة نظر كمية ونوعية، ويتم تصنيف الآثار البيئية المتعلقة بالمياه وقياسها كما يلي:

> المياه الزرقاء : حجم المياه السطحية و المياه الجوفية المجمعة.
> المياه الخضراء : حجم مياه الأمطار و الرطوبة الملتقطة.
> المياه الرمادية : حجم المياه العذبة اللازمة لتخفيف الملوثات لما يسمى التركيزات المعقولة لاستيعاب حمل الملوثات الناتجة عن الوحدة الوظيفية.
المشكلة تكمن في كون أن مؤشر البصمة المائية غير مسجل ضمن معيار (ISO14046)، بل أكثر من ذلك إن هذا المعيار يأتي من خلال سلسلة من المعايير التي تتعامل مع منهجية تحليل دورة الحياة: تحليل متعدد المعايير للأداء البيئي لمنتج ما أو عملية ما أو خدمة ما، هذه المنهجية معترف بها على نطاق واسع من قبل المجتمع العلمي. ويضفي معيار (ISO14046) الطابع الرسمي على إطار التطبيق، لذلك تم اختيار هذا النهج الأكثر عالمية بتوافق الآراء لدمج طريقة البصمة المائية كعنصر مكون في الطريقة العالمية، وقد تم بالفعل اتخاذ نفس الخيار من قبل البصمة الكربونية وقت توحيدها، وقد جعل هذا من الممكن توحيد المناهج حول هذا الموضوع.
وتهتم العديد من الدراسات العلمية بخدمات النظم البيئية وتكاليفها الاقتصادية، وبعبارة أخرى القيمة الاقتصادية لرأس المال الطبيعي، أما بالنسبة لما يسمى بالموارد الطبيعية المتجددة التي تعتبر المياه جزءا منها، لا يحدد اقتصاد السوق سعرا ويتم تعهيد تكلفة رأس المال الطبيعي بشكل افتراضي: على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجريت في عام 2013 من قبل مبادرة (TEEP) لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أهم تكلفة خارجية لرأس المال الطبيعي، حسب المنطقة وقطاع النشاط. وبالتالي يدر قطاع الأرز في دول شمال إفريقيا رقم أعمال بقيمة 1.2 مليار دولار. في حين أن تكلفة رأس المال الطبيعي المتعلقة بالمياه تبلغ 82.3 مليار دولار أي ما يعادل 68 مرة أكثر من الدخل المحقق، في حين يمكن تفسير ذلك من خلال ندرة المياه في هذه المنطقة من العالم، و على العكس من ذلك فإن نفس قطاع النشاط في جنوب آسيا له أيضا تكلفة أعلى لرأس المال الطبيعي (نسبة إلى الماء) من الدخل على الرغم من أن زراعة الأرز تعد تاريخية في هذه المنطقة من العالم.
وتكمن المشكلة في أن تكاليف رأس المال الخارجية هذه سوف يتحملها المجتمع حتما على المدى الطويل تقريبا، وقد يتمثل أحد الحلول الممكنة في تنفيذها تماما مثل ما يتم مع ضريبة الكربون حيث أن الملوث يدفع، وهكذا مثلما يتم تفضيل الطاقة المتجددة على الطاقة الأحفورية بفضل ضريبة الكربون فإن المنتج الذي يستخدم أو يحط القليل من الماء أثناء تصنيعه سيشهد تحسن قدرته التنافسية في السوق.
يتزايد إذن الوعي الحقيقي بأهمية المحافظة على الماء في المجتمع والمبادرات تتكاثر في الصناعة، ومع ذلك، لا توجد آلية ملزمة حاليا لتشجيع الاستخدام الأكثر مسؤولية للمياه في مجتمعاتنا، حتى إذا كانت الطريقة العلمية صارمة والوعي الحقيقي للغاية، إذا لم يتم تطبيق جهاز لاستيعاب هذه التكاليف لرأس المال الطبيعي على نطاق واسع، فسيظل اقتصاد السوق غير فعال في حساب تكلفة الاستخدام الحقيقي للمياه.

البصمة المائية وبصمة التربة

أصبحت البصمة المائية مصدر قلق متزايد للشركات التي تمر بمرحلة انتقالية نحو الاستدامة ، فلا يزال هناك العديد من التحديات التي يتعين مواجهتها في هذا المجال، وفقا لأحدث دراسة قامت بها إيكولا غرينبيز حول هذا الموضوع، حيث مع ظاهرة الاحترار العالمي، الكل يتحدث باستمرار عن بصمة الكربون، و يتم إدخال غاز ثاني أكسيد الكربون في صميم جميع مبادرات التنمية المستدامة للشركات، وبصمة الكربون هي الآن واحدة من أكثر المؤشرات المعتمدة على نطاق واسع في استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية للشركات، بل تكمن المشكلة في أنه من خلال التركيز على الكربون، نميل أحيانا إلى نسيان مؤشرات مهمة أخرى، مثل التنوع البيولوجي، وبصمة التربة، وكذلك البصمة المائية، وبالنسبة للعديد من الشركات، وتعد المياه موردا استراتيجيا، وفي جميع أنحاء العالم فهي جزء أساسي من استدامة المجتمع، وبالتالي هناك مصلحة حقيقية للشركات المعنية بهذه المسألة، خاصة وأن تلوث المياه في فرنسا يأتي في المرتبة الثانية من الاهتمامات البيئية للفرنسيين، بينما ستصبح الشركات التي تركز على حساب البصمة المائية الخاصة بها وعلى تنفيذ استراتيجية متكاملة لإدارة تأثيرها على المياه “شركات متقدمة جدا” من حيث الإشعاع والإدارة الجيدة وثقة المستهلك في المنتوج الذي تقدمه، هذا هو الموضوع الذي أرادت “إيكولاب غرينبيز” دراسته من خلال التحري في الطريقة التي تتعامل بها الشركات مع التحديات التي تواجهها.

البصمة المائية والقلق المتزايد على الماء

إدارة المياه هي مصدر قلق متزايد على كوكب الأرض، ووفقا لتوقعات هيئة الأمم المتحدة سيواجه 40٪ من سكان الكوكب عجزا في المياه العذبة بحلول عام 2030 منها المغرب الذي يوجد على اللائحة الحمراء التي ستعاني من العجز المائي، وهذه القضية يجب أن تهم الشركات بالدرجة الأولى والتي هي اليوم من بين أكبر المستهلكين للمياه العذبة في العالم، حيث تستهلك الشركات 40٪ من المياه المستخدمة في الدول المتقدمة، ولكن هل تأخذ الشركات هذه المخاطر في الاعتبار؟
وفقا للدراسة التي أجريت في فبراير 2019 والتي همت 86 شركة عالمية كبيرة، 74٪ منها أجابت بالتأكيد على أن المياه أصبحت ذات أولوية عالية بشكل متزايد، في حين أن 59٪ من هذه الشركات تدرك أن هذه المخاطر التجارية هي كبيرة ومتنامية، و تقول 88٪ من الشركات التي شملتها الدراسة أنها ستضع تدابير فعالة لقياس وإدارة تأثيراتها على المياه في السنوات الثلاث المقبلة، ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر باتخاذ إجراءات ملموسة، تصبح الأمور جد معقدة، في حين أن ما يقرب من نصف هذه الشركات المشمولة بالدراسة تعترف أنه ليس لديها خطة عمل ملموسة لتحقيق أهدافها في تحسين مشر البصمة المائية، هذا بالإضافة الى أنه واحد من كل اثنين يستخدم تقنيات المراقبة الدقيقة لتقييم استهلاك المياه أو توفير المياه.
في عام 2017، أظهر نفس الاستطلاع أن 82٪ من الشركات تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتحقيق أهدافها المتعلقة بالمياه، ووفقا للدراسة فإن هذا التناقض يأتي من عدم قدرة الشركات على تعبئة أصحاب المصلحة حول هذا الموضوع، وبالتالي تقرر العديد من الشركات الأهداف المحددة للحد من استهلاكها للمياه لكنها تفشل في الوصول إليها بسبب صعوبة إشراك الموظفين في هذا المجال، موضحة لهم الفائدة وطرق القيام بذلك، وتشعر ما يقرب من 40٪ من الشركات أنه من الصعب توظيف وتعبئة وتعليم مديريها التشغيليين في الميدان بمجرد تحديد الأهداف. وهذه مشكلة حقيقية، فبالإضافة إلى تحديد الأهداف والغايات للبصمة المائية، هناك بالتالي عمل حقيقي يجب القيام به لإشراك أصحاب المصلحة، يعد إعداد دورات تدريبية وتوعوية للمديرين والموظفين لإشراكهم في العملية خطوة أساسية.
ومع ذلك، يجب ألا نتجاهل أصحاب المصلحة الخارجيين، وخاصة العملاء والمستهلكين بصفتهم الهدف الرئيسي للعروض، وبالتالي هم الذين يمكنهم الدفع بتطوير المنتجات والعروض الأكثر كفاءة في استخدام المياه، وبالتالي فإن التسويق الإيجابي المسؤول الذي تم التفكير فيه من أجل تنشيط المستهلك يعد خطوة أساسية لإعطاء جوهر لأفكار الشركات بشأن البصمة المائية، وهذا أمر أساسي بشكل خاص بالنسبة للشركات التي تقدم سلعا استهلاكية، والتي يعد إخبار المستهلك بها عن طريق الإشهار من أكبر الأولويات الأساسية.
وفي الأخير يمكن القول إن الأفكار حول البصمة المائية للشركات تتطور وهذا أمر جيد جدا، ولكن هذه الجهود لن تؤتي ثمارها دون الإشراك الفعلي للمستهلك.

 بقلم: محمد بنعبو

ناشط وخبير بيئي، رئيس المكتب الوطني لجمعية “مغرب أصدقاء البيئة”.

Related posts

Top