تسخين الجنوب الليبي

لم تكد تنقضي أسابيع قليلة عن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الحزام الليبي بين السودان والتشاد حتى انفجر الجنوب الليبي على وقع حدثين كبيرين، الأول متمثل في استهداف ميليشيات تشادية مسلحة مدينة الكفرة، والثاني متجسد في إعلان روما زيادة تواجدها العسكري واللوجستي في ليبيا على وقع الأوضاع المتصاعدة في الآونة الأخيرة سيما في قاعدة معيتيقة قرب العاصمة طرابلس.
لا توجد مؤشرات جيدة حاليا على رغبة أنقرة في رفع يدها عن المشهد الليبي، سواء من حيث تسليح الميليشيات الإخوانية في مدينة مصراتة وغيرها، إذ أعلنت طرابلس مؤخرا عن إيقاف سفينة تركية تحمل أسلحة خفيفة ومتوسطة متوجهة إلى ميناء مصراتة، أو من حيث رغبتها في الدعم السياسي لحلفائها الإسلاميين وهي مقدمات لإعادة ثقلها الاقتصادي والاستثماري الذي أضاعته عقب أحداث فبراير 2011.
الوسيط الأممي في ليبيا غسان سلامة كان واضحا خلال مداخلته الأخيرة في مجلس الأمن حيث أكد أن استمرار تسليح الميليشيات وتواصل شحن الأسلحة إلى الداخل الليبي لن يسمحا بانتقال ديمقراطي سلس في البلاد، ولن ينهيا حالة التشرذم القائمة اليوم في المشهد الليبي. صحيح أن سلامة لم يسمّ الدول التي يتهمها بتحويل ليبيا إلى غابة من السلاح، ولكن كافة المؤشرات والدلائل تدل على أن الفاعل التركي ليس ببعيد -وليس أيضا الوحيد-عن مظلة ومظنة تسخين الجبهات في الشمال والجنوب.
تسخين الجنوب الليبي من خلال تحريك الأدوات التشادية، يتنزل في عدة سياقات استراتيجية كبرى لعل أهمها ربط الجنوب الليبي بمنطقة الساحل الأفريقي، وتحويلها إلى عمق جديد للجماعات والعمليات الإرهابية يسمح للفاعلين الدوليين بإدارة جديدة للمنطقة الصحراوية والمغاربية.
إلا أنّ السياق الأهم كامن في ضرب المصالحة الليبية عبر استهداف واحد من أهم مقومات الائتلاف الوطني، والكامن في القبائل الساكنة للجنوب الليبي شرقا وغربا.
فلا أحد ينكر أهمية القبائل في المنظومة الاجتماعية والسياسية الليبية، قديما أو حديثا، ولا ينكر أحد أيضا دورها الراهن على المستوى الرمزي والاعتباري في تأثيث المصالحة خاصة وأن البعض منها التصقت به، حقيقة أو بهتانا، تهمة مناصرة النظام السابق، والبعض منها أيضا دفع فاتورة باهظة جراء هذه المقولة النمطية والتعميمية.
اليوم يتأسس على منظومة القبائل، خاصة الجنوبية، دور جسر الهوة المجتمعية بين الليبيين، وهو بالفعل ما بادرت إليه بعض القبائل عبر إطلاقها نداء الوحدة لكافة العشائر والقبائل في وجه التدخلات الأجنبية، ولئن تلقت بقية القبائل الليبية هذه الدعوة بشيء من البرود خشية تجييرها للعملية الانتخابية القادمة وحشد مخرجات الوحدة لصالح سيف الإسلام القذافي في سباقه الانتخابي لكرسي الرئاسة، فإن استحقاق تحييد الأجندات الشخصية والكنتوتات القبلية لصالح ليبيا الدولة والوحدة يفرض على الجميع ارتقاء وطنيا وتغليبا لمصالح البلاد على مطامع بعض العباد.
اليوم، المطلوب تركيًّا على الأقل، ضرب الحاضنة القبلية، عبر إدخالها في الحروب البينية من خلال الإيهام بأن عنوان الحوار مع بعض القبائل كامن في استحضار الزمن الماضي واستدرار عائلة القذافي، في حين أن الأصل كامن في المسامحة والمصافحة بين الزمانين والنظامين من أجل المصالحة مع الحاضر وصالح المستقبل. كما أن المطلوب، تركيا أيضا، الزج بالقبائل في حروب الاستنزاف مع الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة التي تنقص من أدائها للدور المنوط بها في ترسيخ المصالحة.
ففي أحد حواراته الصحافية، أكد غسان سلامة أن ليبيا لن تهدأ إلا بحوار هادئ ورصين ومصالحة شاملة بين الأنظمة الثلاثة التي مرت عليها، ويعني النظام الملكي السنوسي والنظام القذافي والنظام الجديد، قبل أن يضيف أنه لا مستقبل دون التقاء حقيقي بين مكونات المجتمع الليبي.
في هذا المفصل بالذات تكمن الأهمية البالغة للقبائل، فهي تمثل ركن المصالحة التاريخية بين شخوص الأنظمة المتعاقبة، وهي بشكل آخر تجسد المصالحة في فضائها الأفقي بين مكونات الاجتماع الليبي.
على أن المصالحة مع القبائل هي جزء من أسس الدولة الليبية الجديدة وليست جزءا من الدولة الليبية القادمة، فلا قيمة لدولة تفضي في المحصلة إلى «قبلنة الدولة» أو إلى «دولة القبيلة»، ولا جدوى من مصالحة تحوّل الرهان من فضاء المواطنة إلى مجال الهويات الوشائجية.
 أمين بنمسعود

Related posts

Top