تفادي خطر التصعيد وتمتين الثقة

ما شهدته الحسيمة يوم العيد غير مقبول، وهو مرفوض ومدان، وسواء السكان والشباب الذين تعرضوا للعنف والتنكيل والاعتقال، أو أيضا عناصر القوات العمومية التي تعرضت لإصابات مختلفة، فهم كلهم ضحايا، وجميعهم شكلوا، عبر ما تعرضوا له، صورة العيد الأسود الحزين في الحسيمة وحواليها.
بلادنا فعلا لا تستحق ما حدث…
ومرة أخرى نحن اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى العقل، وإلى حكمته…
لما انتهى مجلس الوزراء الأحد برئاسة جلالة الملك، واطلع المغاربة على قراراته، وعلى التعليمات الملكية التي وجهت إلى الحكومة، تفاءل الكثيرون بذلك، واعتبرت هذه القرارات بداية الخروج من المأزق، وتعبيرا عن إرادة ملكية واضحة، وإشارة تفاعل مع مطالب المحتجين، لكن ما إن حل صباح اليوم الموالي حتى سقط كل شيء، وبقيت معالم التفاعل المعبر عنها عقب مجلس الوزراء بلا أي امتداد على الأرض في الحسيمة وحواليها.
المشكلة المركزية إذن، تتعلق هنا بغياب الثقة، وهذا ما يجب أن يبقى في بال الكل.
إن ثقل التاريخ في المنطقة أفرز ذهنية ونفسية وتمثلات وسط سكان الريف، وهي تجعلهم غير مقتنعين باندماجهم ضمن المجموعة الوطنية المغربية، كما أن الأخطاء التدبيرية والتواصلية التي ارتكبت طيلة شهور الحراك من طرف السلطات الترابية، والغياب المطلق للمنتخبين المحليين، وضعف منجزهم التنموي، كل هذا زاد من منسوب عدم الثقة، وهو ما يمنع من تحقيق أي خطوة إلى الأمام على طريق التهدئة.
أما المشكلة المركزية الثانية، وهي التي لا يريد البعض الإقرار بها والوعي بخطورة ما تسببت فيه، فتتعلق بالإبعاد والإقصاء و”القتل” الذي تعرضت له الأحزاب الوطنية والتقدمية الحقيقية في المنطقة، وذلك مقابل فرض هيمنة مفتعلة لحزب وحيد، وهذا ما جعل الساحة اليوم بلا أي وسيط يمتلك المصداقية وثقة الأطراف، وأدى أيضا إلى ترك الحراك الاحتجاجي مفتقدا لمن يرسم أفقه العام، وبقي ملتفا فقط حول قادته الميدانيين الذين ينجبهم من بين حشوده، ولا ينصت إلا إليهم، ولا يثق في غيرهم.
وترتيبا على المشكلتين المركزيتين المشار إليهما، فإن المشكلة الجوهرية الأخرى تكمن في تفاقم حالة تقاطب بين السلطات من جهة والمحتجين مع قادتهم الميدانيين من جهة أخرى، وكل طرف منهما يصر على أن يخرج من التقاطب والمواجهة منتصرا، وملحقا الهزيمة بالطرف الآخر.
هذه العقلية “الحربية” تمثل اليوم، بالفعل، مشكلة حقيقية، وتقتضي بذل جهد كبير للقضاء عليها أولا، ومن ثم، الخروج من عقمها بغاية توفير مساحات البحث عن الحلول.
إن هذه العقلية بالذات هي التي كانت وراء كل ما حدث يوم العيد في الحسيمة، وهي التي تفرز خطاب ومطالب وأساليب التصعيد لدى هذا الطرف أو ذاك.
ما يحدث في الريف يفرض الحرص على الابتعاد عن التصعيد، والوقت ليس لرفع كل السقوف بلا أي أعمدة، وليس لإطلاق الكلام والشعار بحسب ما اتفق.
الأساسي اليوم هو أن نصل كلنا إلى تحقيق الهدوء في كامل المنطقة، وذلك بما يتيح إنجاز المشاريع والإصلاحات، وبقدر ما أن الوصول إلى هذا الهدف يفرض على الدولة بعث إشارات إيجابية من لدنها واتخاذ إجراءات تدبيرية وسياسية وأمنية وقضائية، فذلك يفرض أيضا على المحتجين أنفسهم الوقوف لتأمل خطابهم ومطالبهم، وخصوصا أشكالهم النضالية وسقفها وصيرورتها الزمنية.
لن يقبل أحد اليوم التضحية بكل ما حققه شعبنا من مكتسبات حقوقية وسياسية ومجتمعية بفضل عقود من النضال المرير بكل جهات المملكة، ولن يقبل أحد المس باستقرار بلادنا وبمسارها التنموي وببنائها المؤسساتي العام.
كل الأطراف إذن مدعوة اليوم لإبداء الإرادة من أجل الوصول إلى حل، والبداية يجب أن تكون حول الاتفاق على تحقيق التهدئة العامة على الأرض، ثم صياغة أجندة واضحة للبرامج والإصلاحات، ولتنفيذها، على أن تكون هذه الأجندة محل ثقة الجميع، وأن يساهم الكل في تتبع إنجازها، ثم أن يندرج الحل ضمن سعي وطني مغربي عام لتحسين أوضاع شعبنا وتلبية مطالبه الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية بشكل عام.
أما ما يجري الترويج له من لدن منظري و”علماء” الفايسبوك، فهو ليس سياسة أو عمل الدولة أو منطق العقلاء، ذلك أن الحل لن يكون في البحث السيزيفي عمن يتحمل مسؤولية تأخر هذا البرنامج أو من عطل إنجاز هذا الإصلاح، فجواب ذلك يوجد في الواقع الذي عاشته بلادنا طيلة العام المنصرم أو خلال الأعوام الأخيرة، وفِي عديد ممارسات سياسية يقر الكثيرون اليوم بأنها هي سبب ما وصلنا إليه في الحسيمة وفِي غير الحسيمة.
ولكل ما سلف، فالمطلوب هو أن نخرج من عقلية العراك التي لا تقبل سوى الانتصار وهزم الطرف الآخر، ثم أن تدرك كل الأطراف خطر التصعيد، وأن تحرص على الابتعاد منه، وتمشي نحو تمتين الثقة.

محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top