تفجير مرفأ بيروت في فرضياته وأسئلته

مع اندلاع ألسنة النيران، على انفجاري بيروت، اندلعت الأسئلة وانفتح ملف سلطات الدولة من جديد. وعادت مناخات الشكوك والخصومات والتناقضات الداخلية، وهذه المرة بوتيرة غير مسبوقة، وكان الدرس قاسيا والعبرة العميقة برسم استفادة المواطنين اللبنانيين وأمراء الطوائف والساسة. فالمحن عندما تطرأ، تشمل الجميع ولا تستثني أحدا، والحرائق عندما تندلع، لا تملك سيارات الإطفاء ترف التمييز الطائفي أو الديني أو السياسي، بين إنسان وآخر على الأراضي اللبنانية،  قتيلا كان أو جريحا. ومن بين أهم الدروس أيضا، تلك التي تنشأ بفضل التضامن الواسع مع الشعب اللبناني، إقليميا ودوليا، على النحو الذي يذكّر شرائح لبنانية اجتماعية، ببطلان نزعات الاستعلاء والجموح الطائفي وغيرهما من النعرات التي ازدادت تفشيا خلال العقدين الماضيين.
في الأسئلة المتعلقة بوظائف الدولة، كان أبسط ما سئل عنه، بألسنة كثيرين، هو الجهات المسؤولة عن استمرار تخزين مواد كيمياوية خطيرة، لعدة سنوات في عنبر رقم 12 في المرفأ، لاسيما وأن مدير عام الجمارك اللبنانية، اضطر إلى مخاطبة القضاء، طالبا نقل أو إعادة تصدير الكميات الكبيرة من نترات الأمونيوم، أو التصرف بها في أي اتجاه. وتفرعت عن هذا التساؤل الطبيعي والإجرائي، أسئلة فرعية تفتح بابا واسعا للظنون والاتهامات، في مناخ سياسي موبوء، تنعدم فيه الثقة بين أمراء الطوائف والنخب السياسية. وفي هذا المناخ نفسه، سارعت إسرائيل إلى إنكار ضلوعها في هذا الانفجار. لكنها ستظل طرفا مشتبها به، وللاشتباه وجاهته بحكم تصريحات إسرائيلية سابقة، وتوترات حاصلة قبل ساعات، وأيضا بحكم تزامن الانفجار مع تلميحات وتحليلات عن حرب سبرانية ذكية تشنها إسرائيل على إيران، بوسائل عالية التقنية، أشعلت حرائق في مخازن لحرس الثورة الإيراني. ولعل هذا هو السبب الذي جعل العديد من المسؤولين الإسرائيليين يتعجلون تسجيل عبارات التأسي على بيروت عبر وسائل التواصل، وإعلان حكومة نتنياهو عن استعدادها لتقديم المعونة.
في ردود الأفعال الإسرائيلية، تظهر جلية خطورة إسهام حال الاستقطاب السياسي داخل الدولة اللبنانية، في شل قدرة الحكومة اللبنانية، أيا كانت، على إنفاذ القانون والعمل بمقتضياته، والقيام بكل التدابير الكفيلة بالحفاظ على المواطنين والسهر على مصالحهم.
في ظهيرة الخميس “6 غشت الجاري” وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، متضامنا مع شعبه. ومنذ أن حطت قدماه في مطار بيروت، كان الرجل معنيا بتعيين الفارق الكبير والسميك، الذي يفصل بين التضامن مع الشعب اللبناني، والتضامن مع مسؤولي الدولة، رئاسة وحكومة. فقد صرح محذرا بصراحة: سيظل لبنان يعاني ما لم تُنفذ الإصلاحات!
معلوم أن الفرنسيين هم الذين أنشأوا الكيان اللبناني بعد الحرب العالمية الأولى، باقتطاعه من الأراضي السورية لأسباب يعرفها المبتدئون في علم التاريخ. وظلت فرنسا، إلى الآن، وبعد قرن من التأسيس، تعتبر نفسها “الأم الرؤوم” للبنان، أو تراه “دولة شقيقة” حسب وصف وزير الخارجية جان إيف لودريان، بعد وقوع كارثة التفجير. فلماذا ظلت فرنسا ترى نفسها أما رؤوما، بعد سبعة عقود من مغادرتها لبنان كقوة انتدابية؟
ربما يكون الجواب، أن لبنان لم يجد من يقدمون له الأمومة الرحيمة، حتى وإن قدم لبنان للعرب، بهجة وثقافة وموسيقى وتقاليد حضارية وأفكارا تلائم كل التيارات والمشارب الفكرية. لقد فعل لبنان ذلك، بينما ظلت لكل واحد من أمراء الطوائف فيه، الأم الخاصة المعتمدة التي لا يخلف معها ميعادا. وبدل أن يلتحم المجتمع ويندمج، بفعل التطور في وسائل الحياة، وارتقاء الثقافة الإنسانية وتقنيات الاتصال، وبفعل مقتضيات النظام الدستوري، فضلا عن بداهة المصالح المؤكدة للناس في مؤسسات الدولة، حدث العكس، إذ جرى الحفاظ على نمط الحياة المتجاورة للطوائف، واقتسامها مناصب وصلاحيات السلطة، على أن تنطوي  كل منها، على سياستها وثقافتها وولاءاتها الخارجية التي تتفوق على أقرب الولاءات الداخلية إليها. كان ذلك هو المناخ الذي ساعد على فساد الطبقة السياسية، ووصول الدولة إلى شفا الانهيار، وكان طبيعيا مع هذا المآل، أن يعلو شأن فرنسا، لدى قطاع من الشعب، وبالقدر نفسه أو أكثر، يعلو شأن إيران، ومرشدها الأعلى “قدّس الله سرّه”، لدى قطاع آخر!
بخلاف ذلك، كان الممسكون بمقاليد الأمور في سوريا الذين يُفترض أنهم ـ بمنطق التاريخ والجغرافيا ـ هم الأم الرؤوم الحقيقية، والأب الحاني الذي لا خلاف على أبوته، قد خاضوا التجربة في مرحلة حافظ الأسد. لكنها للأسف كانت تجربة سوداء وكابوسا بالنسبة إلى اللبنانيين، إذ فشلت السلطة السورية، حتى في أن تتمثل عواطف الجيران عبر البحر، فما بالنا بعواطف الأب والأم، ونقول ذلك في أكثر التوصيفات اعتدالا!
اليوم، لم تقتصر “أخوّة” فرنسا، على زيارة تعاطف عاجلة قررها رئيسها، ولم تقتصر أيضا على الوقوف على الحاجات العاجلة التي يقتضيها التضامن، ثم الشروع فورا في إقامة جسر جوي بين باريس وبيروت، بل وصل الأمر إلى مستوى قرار اتّخذه مدّعي عام باريس ريمي هيتز، بفتح تحقيق في “الانفجارين” اللذين عصفا ببيروت، على خلفية تسبّبهما في سقوط واحد وعشرين جريحا ـ على الأقل ـ من حملة الجنسية الفرنسية. وقد جاء ذلك في ضوء اجتماع وزاري ترأسه رئيس الحكومة الفرنسية جان كاستكس، ضمّ عددا من الوزراء المعنيين بـ”الجسر الجوي” بين باريس وبيروت، ومن بينهم وزير العدل إيريك دوبون موريتي. معنى ذلك أن باريس، وقبل وصول ماكرون إلى بيروت، حسمت أمرها بأن التحقيق سيخرج من نطاق القضاء اللبناني، رُغما عن الرافضين لذلك من اللبنانيين. وبالطبع، لن تقوى الدولة اللبنانية على مقاومة قرار باريس، وستفتح البوابة الرسمية للتحقيق الفرنسي الذي لن يبالي بتأكيد لبنان الرسمي على كون الكارثة نتجت عن محض إهمال. وعندما يكتشف الفرنسيون بطريقتهم أن هناك ما يقتضي تغيير الوصف الجُرمي، ثم يلاحظون أن الدولة ستحمي مشتبها بهم، فإن السياق سيتغير ولعل هذا السيناريو من العناصر التي ترجح أن وراء الكارثة فعلا جرميا، هدفه خلط الأوراق، وتضييق الحلقة حول قوى لبنانية أخرى، حسب لغة الترميز، وعلى “حزب الله”” حسب المعنى الذي يعرفه الجميع!
أغلب الظن، أن الأطنان الهائلة من نترات الأمونيوم، كانت فخا كبيرا ومروعا، ملعوبا للبنان كله ولـ”حزب الله”. وخطأ هذا الحزب، أنه أدخل نفسه إلى عمق معادلات الحكم، وأثقل على الشرعية الدستورية، بشرعيته الثورية،  فتسبب للدولة في القيء تلو الآخر.
كان ما فعله ““الحزب”” زائدا عن حاجته إلى حماية نفسه، وأكثر بكثير مما يمكن أن يحتمله لبنان. لكنه في المحصلة، وجد نفسه في المكان الخطأ، عندما اشتبك الشعب مع دولة المحسوبيات والصفقات والألغاز وفساد الأزلام. ويفترض القول في حال الاشتباه بإسرائيل، بأن المناخ السياسي الملبد، والمعطى المتعلق بوجود تلك الكمية من نترات الأمونيا، قد منحا تل أبيب، فرصة ““تدبير” الصاعق!

< عدلي صادق

كاتب وسياسي فلسطيني

Related posts

Top