تقاطعات النقد الأدبي والبحث العلمي بالمغرب

استمرارا لأنشطته العلمية التي يعقدها مختبر السرديات والخطابات الثقافية بالدار البيضاء، منذ تأسيسه إلى اليوم، وفي ظل المستجدات التي يعرفها العالم أجمع، عقد المختبر سلسلة من الندوات واللقاءات العلمية التي تسهر على الاهتمام بالبحث العلمي وتجويده، وفي هذا السياق، عقد المختبر لقاء للاحتفاء بالباحثين الشباب الذين تميزوا بالأمانة ومسؤولية والجدية في البحث العلمي، بعنوان: “النقد الأدبي والبحث العلمي، تقاطعات متفاعلة”، يوم الخميس 25 يونيو، في السابعة مساء، نسقت أشغاله الأستاذة عائشة المعطي، والتي استهلت أطوار اللقاء بكلمة أثنت فيها على اهتمام المختبر في كل أنشطته بالباحث المغربي والعناية بمواكبة الجيل الجديد من الباحثين الذي يعيش قلق الانشغال بالبحث العلمي. وقبل بسط مداخلات اللقاء، تفضل الأساتذة أعضاء المختبر بتقديم كلمات افتتاحية.
عبر الأستاذ شعيب حليفي، مدير مختبر السرديات، عن فخره بهؤلاء بالباحثين المحتفى بهم وبأمثالهم الذين تستبشر بهم الجامعة المغربية خيرا، مؤكدا على أهمية هذه اللقاءات وتميزها، من حيث كونها تحتفي بالباحث والمثقف المغربيين، وتزكي خصال الباحثين والنقاد بما هي قائمة أسسُها على ركائز البحث العلمي وأخلاقياته.مشيرا أن ما يميزهم الشجاعة والأمانة والصبر والثقة ثم الإصرار على تملك معرفة مرتبطة بالإنسان والمجتمع، وختم بالقول إن هؤلاء الشباب لا يتشابهون، وإنما كل واحد منهم يمتلك أسراره وقدراته، لأنهم ليسوا نسخة، بل هم أصول جديدة قادرة على العطاء والبناء.
كما قدم عبد الرحمان غانمي، كلمته التي ثمن فيها فكرة اللقاء بوصفه محفلا فكريا يعلي من البحث والثقافة، ويكرم جيلا جديدا من الباحثين الشباب، وهو في عمقه تحفيز لهم ولغيرهم من الباحثين على العمل الدؤوب، والدفع بهم نحو الرقي بمستوى البحث العلمي والإدراك لعمق المسؤولية العلمية الملقاة على عاتقهم.
وفي كلمة أخرى لعبد الفتاح الحجمري، أبدى فخره واعتزازه بالباحثين المحتفى بهم، وبانتمائه لمختبر السرديات الذي يراهن، منذ بداياته قبل أزيد من ربع قرن، على النهوض بمستوى البحث العلمي المغربي كافة، كما لم تفت الأستاذ الإشارة إلى التوجه الجديد الذي انخرط فيه المختبر، وهو القائم على تفعيل الوعي النقدي لأجل فهم الذات وتوجيه البحوث وتجويدها، والاستثمار فيها بشكل ينخرط في غمار التحولات الإنسانية العالمية في تسارعها وشموليتها.
وبعد كلمات الأساتذة، قدم المشاركون في اللقاء مداخلاتهم التي كانت، في أصلها، قراءات نقدية في مشاريع الباحثين الشباب المحتفى بهم، وهم على التوالي: إبراهيم أزوغ، وسالم الفائدة، وناصر ليديم، وسلمى براهمة، وفاطمة الزهراء الهراز.
استهل الباحث يونس الإدريسي مداخلات اللقاء بقراءته في كتاب “أدب الأحلام وأحلام الأدب: دراسة تاريخية نقدية” لإبراهيم أزوغ، وفيها أشار إلى أهمية موضوع الأحلام في الدراسات النقدية الحديثة، بوصف الحلم مدخلا لفهم الذات الإنسانية من جهة، والكشف عن مضمراتها الثقافية من جهة أخرى، كما أبرز الباحث أن منطلق الكتاب يقوم على دراسة الحلم وتتبعه من منظورات متباينة فلسفية ودينية وعلمية، والسعي إلى رصدها ومقاربتها.
وبناء عليه، أوضح الباحث أن أهمية هذا الموضوع تتبدى منذ المقدمة التي صاغ فيها الباحث تصوره للحلم من حيث كونه خطابا ثقافيا. وقد راهن أزوغ على استيضاح معالم الموضوع باستقصاء معطياته في متون شتى، تتقدمها الكتب الدينية والأسطورية والمصنفات الفلسفية والأعمال العلمية والنقدية في دراسة الحلم ومقاربته. وعلى هذا الأساس، سعى الناقد إلى النظر في طبيعة الأحلام في ثقافات متعددة، مما حقق له قدرة على صياغة رؤية شمولية دقيقة لدراسة الحلم، ويعزز هذا المعطى مقاربته التاريخية الفاحصة لنصوص الأحلام وإضاءتها من زاوية التحليل النفسي لدى فرويد وأتباعه.
وفي سياق آخر أكد الإدريسي على أن دراسة أزوغ تأسست على ثلاثة مرتكزات: الأول يعتبر الحلم خطابا ثقافيا متكامل البنية مستقل الأركان مادته الصورة المتخيلة وتحققه السردي مرتهن باللغة. والمرتكز الثاني يتأسس على التمييز بين نوعين من الأحلام، بين ما هو حقيقي ناتج عن لاوعي ذات الحالم، وما هو تخييلي أدبي قوامه الوعي بالحلم ومعطياته من قبل المؤلف، وكل من الحلمين نص مسرود أساسه الترميز والتمثيل، وكلاهما خاضع للرقابة. أما ثالث المرتكزات فهو اعتبار الحلم موضوعا للتلقي والتأويل، ينطلق من فكرة مؤداها أن نص الحلم قابل للقراءة والتلقي من جهة، وموضوع تأويلات مختلفة ومتعددة تثري بناءه الدلالي من جهة موازية.
وقدم الباحث نور الدين الخديري مداخلته المنصبة حول كتاب “الثقافة والرقابة: دراسة تاريخية ومعرفية” للباحث سالم الفائدة، عنونها ب”قراءة في إشكالية الكتاب: المثقف وسلطة الرقيب”. وقد أوضح نور الدين الخديري أن أهمية هذا الكتاب تتأتى من معطيين اثنين: إذ تتحقق، بداية، من عمق إشكاليته وطبيعة موضوعه المتصل بالمثقف والرقيب، حيث يعد موضوعا ممتدا في الزمان والمكان، غير محصور في لحظة أو مكان محددين. والمعطى الثاني مرده إلى المنهج النقدي المتبع في دراسة الموضوع، وهو مقاربة مركبة تمزج بين ما هو تاريخي يستقصي جذور ظاهرة الرقابة في جغرافيات ثقافية متباينة، عربيا وغربيا، ثم فحص الإشكالية على هدى مما تمليه مفاهيم التحليل المعرفي الأركيولوجي مع ميشيل فوكو.
كما أكد المتدخل أن مدخل هذا الكتاب النقدي يجد أسسه في مفهوم الرقابة ذاته، من حيث كونه مفهوما يكاد يكون ملتبسا ومتشعبا، بعدِّه متقاطعا مع متوالية من المفاهيم الأخرى كالدين والسياسة والجنس، وبمراعاة علاقته الوطيدة مع ذات المثقف أيضا، باعتبارها تشكل الطرف النقيض لمفهوم الرقابة والرقيب، فهذا يضطلع بدور المنع والكبت والتعتيم والقمع والكتم والتحكم والتقييد والحرمان، والثاني كاشف يرقب الحرية ويصبو إلى الانعتاق وهدّ أسس الرقابة وأفولها. ومن هذا، تولدت إشكالية الدراسة التي يمكن تلخيصها، كما يشير نور الدين خديري، في استقصاء دواعي الرقابة وكشف أسبابها ونتائجها وتفاعلات المثقف معها. ولعل ما يثمن مجهود الباحث، من ناحية أخرى، نبشه في مظاهر الرقابة تاريخيا.
وفي المداخلة التي قدمها الطالب الباحث حمزة لحلو في كتاب “آليات تشكل النسق في الخطاب الثقافي” للناقد ناصر ليديم، ثمن عمق العمل فكريا وانسجامه المنهجي موضوعا ومقاربة، حيث يتسم بالتنظيم والتسلسل طلب بناء تحليل متماسك للموضوع عبر استشكالات فرعية متواترة ومتمفصلة، كما يستعين بالمفاهيم الإجرائية التي تقترحها المقاربة الثقافية.
وفي ضوء ذلك، استهل الباحث كتابه بقسم نظري ينصب على تبين مفهوم الخطاب وتمييز فروعه ونظرياته المختلفة في بعدها التداولي مع كل من جون سورل وجون أوستين وإيميل بنفنيست وغيرهم، في حين خصص القسم الثاني لإضاءة المقاربة النقدية التي تبناها، ممثلة في النقد الثقافي، حيث راعى الباحث التمييز بين النقد الثقافي والنقد الأدبي من جهة، كما حرص، أيضا، على بسط العدة المنهجية التي ستعينه في مقاربة متون اشتغاله. وفي قسم ثالث تطبيقي، قسمه الباحث إلى شقين: الأول قصره على درس المشروع الثقافي للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، باعتباره واحدا من المفكرين الذين أثروا المقاربة الثقافية في أعمالهم، وبخاصة في مؤلفه الاستشراق الذي عني بمقاربة هذا المفهوم ورصد خبايا علاقة الشرق بالغرب، وتبديد أوهام الصورة التي شكلها الأول عن الثاني، وبحث في مؤلفه “الثقافة والإمبريالية” الدور الاستعماري الذي أدته الثقافة حين تتجرد من سمتها الإنسانية لتصير أداة كولونيالية.
أما الشق الثاني من عمل الناقد ناصر ليديم، كما يبرز الطالب الباحث، فينصب على استبيان الأنساق الثقافية المتحكمة في الأعمال الروائية العربية والمغربية على وجه التحديد، من خلال الاشتغال على نماذج روائية ثلاثة لكل من الكتاب محمد عبد الغني ويوسف إدريس ثم محمد برادة، والبحث في النسق الثقافي المتعالي الناظم لهذه الأعمال جميعها.
وفي المداخلة ما قبل الأخيرة، خص الطالب الباحث: عبد الرحمان الزنادي الناقدة سلمى براهمة بقراءة في كتابها المعنون ب”سرديات نسوية” أطر فيها السياق العام لظهور النسوية خلال مرحلة ما بعد الحداثة التي تعد مرحلة قلب التمركزات والتشكيك في المسلمات وخلخلتها وكشف التناقضات وإعادة النظر فيها، كما بين أن الناقدة قد ارتكنت إلى معطيات النقد الثقافي سبيلا منهجيا لمقاربة الموضوع الذي تشتغل عليه.
وتأسيسا على هذه الفكرة، سعت الباحثة إلى الإحاطة بمختلف الدراسات المؤسسة للنقد الثقافي من جهة، وإلى الإلمام بمختلف الاهتمامات الفكرية المتصلة بالنقد النسوي من جهة ثانية، وانتهاء بالبحث في مضوع النسوية ومسألة الهوية، حيث رامت تتبع هوية الذات النسوية المقصية، بما هي هوية هجينة ذات طابع أبوي تحتاج إلى الفحص والمساءلة، وتسعى إلى التحرر من رقابة الأب.
وعلى هذا الأساس، تطرح الناقدة سؤال الوجود، وجود الرواية النسوية في الثقافة العربية، باعتبار أن النسوية قامت على روح مناهضة السلطة الأبوية ووصايتها عبر قتل الأب كما يصطلح عليه سيجموند فرويد، وهذا ما أدى إلى اغتراب الأنثى في رحلة بحثها عن ذاتها المتفردة والمستقلة، ووضع الحد الفاصل بينها وبين ما أسماه بيير بورديو بالهيمنة الذكورية، كما أدى إلى بروز تيمة الصمت التي تجعل الذات النسوية حبيسة الوصاية الذكورية وضحية سلطة أبوية عليا تفرض عليها الصمت القسري، قبل أن تثور هذه الذات وتعلن ميلادها من عمق التراجيديا الأبوية التي ظلت تعيشها ردحا من الزمن، وتبزغ شمسها من رماد الرقابة.
أما آخر المداخلات في هذا اللقاء، قدمها الطالب الباحث يحيى حوض موسومة بعنوان: “بين النص والخطاب: مقاربة مركبة في كتاب اللغة الانفعالية في الخطاب الروائي” للناقدة فاطمة الزهراء الهراز، وقد استهلها بقراءة في العنوان من خلال تتبع مفاهيمه المركزية كاللغة الانفعالية ومفهومي التأويل والمعنى، مرورا بالإشكالية التي لخصتها الباحثة في تمظهرات اللغة الانفعالية صوتيا وأسلوبيا في الرواية، وانتهى الطالب الباحث بتحفص بنية الكتاب التي انقسمت إلى بابين اثنين: الأول نظري اهتم ببيان القضايا النظرية كمفهوم الخطاب ومساراته واتجاهاته، والمقصود بالتطريز الأسلوبي والصوتيات والانفعالات والأهواء، وتدقيق المفاهيم النقدية التي ستشكل مفاتيح منهجية إجرائية للدراسة. والباب الثاني عني بأجرأة المعطيات النظرية وتطبيقها على نصوص روائية متعددة.
ووفق هذا، سعت الناقدة فاطمة الزهراء الهراز إلى البحث في العلاقة بين الصوت اللغوي والدلالة واللغة الانفعالية انطلاقا من معطيات اللسانيات في بعدها الصوتي والسميائيات في شقها النفسي الهووي، مما يتيح تحليل الأهواء عبر تتبع الانفعالات في الخطاب السردي. وقد تمت هذه الدراسة على هدى من مستويات أربعة: الأول صوتي أسلوبي يتعلق ببحث الكثافة التعبيرية والطاقة الانفعالية للملفوظات والدوال، والمستوى الثاني تركيبي يحلل طبيعة الجمل وأنماطها ووظائفها في البنية التركيبية للملفوظ، أما ثالث المستويات، فيتصل بذهن الذوات ووجدانها من خلال التعبير عن أحاسيسها النفسية وانفعالاتها، وآخرها المستوى الحس حركي، وهو مرتبط بحالات الجسد في علاقتها بحالات النفس، أو لنقل، إنه يدرس أهواء الذات استنادا إلى سيرورة انفعالية محددة أساسها اللغة، يسميها ألجيرداس جوليان غريماس بالتوتير.
وفي نهاية اللقاء قدم المحتفى بهم كلمات، أشار أزوغ في بدايتها بعد كلمة شكر لأساتذته، إلى أن أهمية الكتب الخمسة المقدمة في هذا اللقاء تتمثل في كونها تندرج ضمن سلسلة نقدية أكاديمية هي الأولى من نوعها في الجامعة المغربية، خضعت للتحكيم التخصصي في مناقشتها كأطاريح دكتوراه أو جزء منها، وبعدها قبل نشرها كتبا، مثلما أشار أزوغ في معرض كلامه إلى أن الكتب نشرت بدعم من وزارة الثقافة، هذا الدعم الذي يخول للجمعيات المهتمة بالكتاب ونشره إمكانية الخروج بالكتاب المغربي إلى القارئ والاحتفاء به، واستنكر الباحث على وزير الثقافة الجديد ما أسماه القرار “الانفرادي والارتدادي” الذي بدأ به عمله في الوزارة والمتمثل في حجبه لدعم الكتاب ولأنشطة الجمعيات الثقافية، ودعا أزوغ المثقفين والجمعيات الثقافية المهتمة بالكتاب والشأن الثقافي إلى الاحتجاج ضد هذا القرار الأحادي والانفرادي والذي من شأنه أن يحرم الكاتب والقارئ المغربي من عدد من الكتب المغربية في مختلف مجالات المعرفة والثقافة، وفي نهاية كلمته أكد أزوغ على أن كتابه الذي قدمه مشكورا الباحث يونس الإدريسي بكثير من التفصيل والتدقيق، هو العدة والجهاز المعرفي الذي أعده قبل انجاز أطروحته “شعرية الأحلام في الرواية العربية” التي يأمل أن ترى النور قريبا ككتاب.
وعبر الباحث سالم الفائدة في كلمته بداية عن سعادته وشكره الغامر لمختبر السرديات الذي صار بالفعل مدرسة للباحثين الشباب، كما عبر عن عرفانه وامتنانه لكل الأساتذة الذين تعلم منهم المبادئ الأولى للبحث العلمي في مقدمتهم الأستاذ شعيب حليفي، وقد أكد أن كتابه يندرج في سياق التفكير اعتمادا على مرجعيات جديدة في الإشكالية التاريخية المرتبطة بصراع الثقافة والسلطة، فالكتاب يشكل الجزء الأول من دراسته في انتظار طباعة الجزء الثاني المتصل “الرواية العربية والمحرم” الذي ينكب على دراسة أهم التجارب الروائية العربية التي تعرضت للرقابة.
تقدم الباحث ناصر ليديم في بداية كلمته بالشكر للدكتور شعيب حليفي معتبرا إياه الراعي الرسمي للمثقف الشاب، ومختبر السرديات الذي يرفع شعار المقاربة التشاركية التي تنفتح على الجميع، حيث اعتبر أن المميز في هذه الكتب المحتفى بأصحابها، أنها أطاريح دكتوراه خرجت إلى حيز التداول المعرفي، في حين جرت العادة أن مصير هذه الأطاريح يكون بين أدراج مكتبات الكليات، ومن ثمة تظهر أهمية تقاسم الأطروحة مع عموم الباحثين والمهتمين، كما أن التكريم في هذه المرحلة، يدفع إلى المزيد من الاشتغال، ويساهم في حفز الباحث، على اعتبار أن شهادة الدكتوراه تتحول من نقطة نهاية، إلى أول خطوة نحو البحث العلمي.

> متابعة: محمد علمي

Related posts

Top