توظيف الموسيقى والغناء في الرواية المغربية -“مطبخ الحب” نموذجاً-

في توظيف الموسيقى والغناء في الرواية المغربية، لا نكاد نجد نصّاً روائيّاً يُشفِي غليلنا بإجابته على تساؤلاتٍ نظريّةٍ شائكةٍ غَيرَ رواية كانت قد تنوولت في ملتقى أكادير الثالث للرواية الذي كان موضوعه «روايات الحب» من كونها رواية حب بامتياز، وهي التي نعود إليها اليوم من كونها أيضاً رواية موسيقي وغناء بامتياز. تلكم هي رواية «مطبخ الحب» للكاتب المغربيِّ عبد العزيز الراشدي.
بداية لا نعرف هذا الرَّجل دارساً للموسيقى ومُترعرعاً في حضن عائلةٍ موسيقيةٍ، قد أدرك آلة البيانو في صالون بيته الريفيِّ الواسع ـ كما هو حال الروّاد الأوائل الذين مازالت تتم العودة إلى أعمالهم كلّما جاء الحديث عن توظيف الموسيقى في الرواية، ولكن ابن الشعب، أدركته الموسيقى والأغنية ذات معترك حياة، فانغمس في مُتعها بدهشة الاكتشاف، ثم ما لبثت أن شغَلت باله ليبحث فيها ويُعيد تأليفها سَرداً غيرَ منقولةٍ ولا مستوردة.
وهذا ما يجب تسجيله سريعا:
كون السّارد في «مطبخ الحب» عميق الانتماء، لا تزحزحه الأهواء، ثم إنه يمتلك ذائقة موسيقية أصيلة.
نقرأ في النص: « في ما تلا ذلك من سنوات، بين الدار البيضاء والرباط، وأنا أجول بين الدروب، اكتشفت موسيقى شبابية مختلفة، تعتمد على الحركة والصخب، سراويل أصحابها ممزقة وتسقط عندما يتحركون. تم نقلها من بيئة أمريكية خالصة، لم تستهوني كثيرا، ولم أجد بأنها تعبر عن أي شيء بداخلي». ص.96-97.
في هذه الرواية سيصاحبنا الغناء والموسيقى منذ الغلاف الخلفيِّ، ومنذ الأسطر الأولى فيرِد فيها المقطع المناسب في مكانه المناسب من النصِّ الروائيِّ ومن تطوّر الأحداث، ومن الحالة النفسية للشخصية، فتتنوّع المقاطع، وتتلوّن بما يستجيب للموقف والحدث.
فخلال وقت حرص فيه الراوي على تحقيق متعة والذهاب بها إلى نهايتها، كان لزاما التوسّل بالموسيقى لمعالجة المسير: «ولأن الضوء خافت والموسيقى خفيفة وجسدينا دافئين بالتلاحم والنشوة، فقد وجدنا الصالة مناسبة فأعرضنا عن غرفة النوم، كانت الموسيقى الكلاسيكية التي أعقبت نهاية الفيلم هادئة تغري بالنوم والاسترخاء» ص.50.
إن الموسيقى التي كانت قَبل قليلٍ ملهمة للسارد وعاملاً مساعداً على صفاء الوُدِّ بينه وبين محبوبته، وبالتالي جعل السّرد يسير في خطٍّ مستقيمٍ لا تشوبه شائبة، هي التي ستتحوّل بقدرة قادر إلى أداةٍ للراوي لاستعادة معشوقته بعد أن ترَكته على حين غُرّة. يقول: « حاولت استردادها مراراً، حاولت أن أغريها إذ أحكي لها عمّا تحب من نكث وأغان عبر الهاتف. والستاتي؟ أسألها، أجي نسمعوا أغنية ديال «الفيزا» و «الباسبور» ..».
الأغنية التي كان يطيران على إيقاعها الصاخب قبل قليل في أعلى عِلِيّين هي نفسها التي ستقذِف بعبد الحق الراوي في هوّة سحيقة، أو في سراديب الخواء، كما يحكي، وبالتالي تسير بالسرد من البناء إلى الهدم:
«وخلال حديثنا الهاتفي تتمسك برفض المجيء عندي .. حتى يئست، أصبحت عصبيا ويائسا، وحين أسمع أغنية «الستاتي» أنام فتراودني أحلام صعبة.». ص.65.
ثم سيشتغل الفراغ الروحيُّ والزمنيُّ والسّهم الذي غرزته سهام في قلب عبد الحق بتركه دون سبب وجيه. سيشتغل بشكلٍ إيجابيٍّ عندما يتحوّل سماع أغنية الستاتي من مَبعثٍ للتسلية ونسيان الزمن في مقام أوّلٍ، ومن مَبعثٍ للشؤم والأرق في مقام ثانٍ، إلى مادة للدراسة والبحث في مقام ثالث:
«أفكر بأن هذه الأغنية رغم إيقاعها الصاخب أغنية حزينة، وليست أغنية راقصة. الموضوع أساسي في تشكيل الوجدان، لكن هذه الأغنية انتصرت على تلازم المعنى وبناءه. فكرت كثيرا أن أكتب على صفحتي في الجريدة عن بعض الأغاني التي شكلت وجدان المغاربة ولامست شغاف القلوب وكانت علامة.» ص.49
«ثم سألت نفسي إن كانت هذه الأغنية في صورة ما قصيدة هجاء في الوطن الذي عذب أبناءه حتى أصبحوا سقط المتاع ورَموْا بأنفسهم نحو السمك المتعطش لدماء القرويين وأبناء أحياء الصفيح؟» ص.100.
تتحوّل هنا السذاجة والعفوية التي يتلقى بها السارد الموسيقي والغناء في حضور سهام، إلى تدبيرٍ عقلانيٍّ واعٍ في غيابها، ما يجعل القارئ أمام نصٍّ منفصمٍ مرتبكٍ يُخيّب أفق انتظاره، وهو حال النصوص القويّة، وذلك هنا، نتيجة استدعاء «مطبخ الحب» الموسيقى والغناء، ومؤازرتهما لها كما ينبغي له.
وكان الراوي قبل هذا وذاك قد مَرَّ بمحطّةٍ أولى كانت فيها الموسيقى والأغنية مُفجِّرةً لغضب شباب مرحلةٍ من تاريخ المغرب الحديث، عصفت بآمال المغاربة وغذّت لديهم وعياً شقيًّا سيظلُّ ملازماً للسارد عبد الحق وصديقته سهام أيّام الرباط النضالية وأيّام البيضاء البئيسة، وهي مقاطع غنائية ذاتَ طابعٍ سياسيٍّ، أوْ ما يُصطلح عليه بالأغنية الملتزمة أو الثوريّة، والتي مثلتها مجموعة ناس الغيوان، جيل جيلالة، إزنزارن… في المغرب الأقصى، و مَثلها مارسيل خليفة في فلسطين السّليبة.
نقرأ: «وكانت بدورها تحاول أن تحب «ناس الغيوان» وأغنية «مهمومة» لأنها تحكي عن حالتها كما تقول». ص.96.
«وفي الرباط كنت أسمع مارسيل خليفة وكل أناشيد التغيير التي يملكها عاطف، أصبحت مدمنا، لأن تلك الأغاني تحكي عن حالتي وتجعلني متوازنا «. ص.96.
هذه الأغاني التي ارتبط حضورها بالوعي السياسي للرواية وما يحيط بها من مناخات إيديولوجية.
هكذا نرى أنّ الموسيقى والأغنية تشتغل في هذا النصّ على ثلاث مراحل، كلَّ مَرحلةٍ تستدعي توظيف مقاطع موسيقية وغنائية خاصة، بشكل دقيق، ومُمهَّدٍ لها بطبقةٍ من السَّرد، فيأتي المَقطعُ الغنائيُّ ليُعضّد السَّرد لا ليُرْبكه ويُشوِّشه.
ذلك كلّه لمساءلة قضايا عالقة، وذلك في لُبوس الإبداع والهزل والفكر.
يُمكِن القول باطمئنان إنّ رواية «مطبخ الحب» قد تَوفّقت في رصد وعيٍ تاريخيٍّ، سياسيٍّ، واجتماعيٍّ مُعَقدٍ باستثمارها حداثيّاً العلاقة القديمة والجدليّة بين الرواية والموسيقى في الكشف عن واقع الحال وإكساب السارد فيها عُمق الانتماء بعيداً عن مسح الجوخ الغربي.

إشارة:
من مداخلتي في الجلسة العلمية الثانية لملتقى أكادير الخامس للرواية ( من 3 إلى 5 ماي 2018).

> بقلم: رشيد أبو الصبر

Related posts

Top