توقفوا عن المماطلة.. اعملوا للبيئة!

“توقفوا عن المماطلة والخداع، وأسرعوا في تنفيذ الأهداف التي حددتموها في 2015 لتحقيق التنمية المستدامة”. هذه الرسالة غير المنمّقة هي التي يجب أن تنقل إلى الحكومات، وفق جوك مارتن، مدير البرامج في وكالة البيئة الأوروبية. وهو استند في رأيه إلى نتائج تقرير توقعات البيئة العالمية، الذي يصدر في 13 مارس عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وكان مارتن عمل معنا على مدى السنوات الخمس الماضية، ضمن اللجنة العليا المكلفة الإشراف على التقرير وتقديمه إلى الحكومات. وأعترف هنا أننا خففنا من حدة الملخص الذي أعددناه لصنّاع القرار، لنتجنب الإعلان مباشرة أن معظم سياساتهم حتى اليوم لحماية البيئة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة كانت مخفقة، أو في أحسن الأحوال مقصرة.
الحاجة إلى العمل السريع ملحة جدا، إذا كانت حكومات العالم جادة بشأن الحفاظ على كوكب صحي لبشر أصحاء. وعلى الرغم من أن التقرير قد لا يعلن الحقائق بأسلوب مارتن غير المنمّق، إلا أن وصفه الفظّ يعبّر بصراحة عن جوهر التقرير الجديد. فالوضع البيئي يتدهور عالمياً، ونافذة الحل على وشك أن تقفل. إلى ذلك، فإن البيئة الصحية ليست ضرورة لسلامة الإنسان ورفاهيته فحسب، بل هي أيضاً شرط أساسي للازدهار الاقتصادي. لقد تسببت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري فعلاً بتغيير شديد في المناخ. ومن المتوقع أن يسفر تلوث الهواء، الذي يعتبر السبب الرئيسي للأمراض، عن قرابة 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنويا بحلول منتصف القرن. وإذا كان تغير المناخ ليس من أولويات بعض السياسيين، فلا بأس أن يعتبروا الحد من الانبعاثات الغازية، عن طريق تعزيز كفاءة الطاقة واعتماد الطاقة المتجددة، الهدف الأول لحماية صحة البشر.
يؤدي فقدان التنوع البيولوجي، الناجم أساسا عن تغيير وجهة استخدام الأراضي والإفراط في استغلالها والتجارة غير المشروعة للأحياء البرية وتغير المناخ، إلى انقراض جماعي للأنواع، مما يهدد سلامة الأرض وقدرتها على تلبية الاحتياجات البشرية. وتغزو القمامة البلاستيكية النظام الإيكولوجي البحري على جميع المستويات، مع تأثيرات صحية من خلال استهلاك الأسماك والمنتجات البحرية. ويشكّل تدهور نوعية التربة وتلوثها تهديداً متزايداً آخر، إذ يصيب 29 في المئة من الأراضي في العالم، حيث يعيش 3.2 بليون نسمة، مع ما يستتبعه هذا من تأثير سلبي على الناس والطبيعة.
المياه العذبة ملوثة وتدار بشكل سيئ. وينتج عن هذا وفاة نحو 1.5 مليون شخص سنويا من أمراض يمكن تجنّبها، مثل الإسهال والطفيليات المعوية، التي ترتبط بمياه الشرب الملوثة والصرف الصحي غير الملائم. كما تدخل المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة بشكل مقلق إلى إمداداتنا الغذائية، مخلفةً آثاراً تستمر عدة أجيال.
وإذا كانت تكاليف الوقاية كبيرة، فإن الخسائر الاجتماعية والاقتصادية لعدم اتخاذ الإجراءات غالباً ما تتجاوزها. ويؤثر هذا التدهور البيئي بشكل أساسي على أفقر فئات المجتمع وأكثرها ضعفا، ولا سيما في البلدان النامية.
يتطلب التحول السليم عن المسار الحالي خفض انبعاثات الكربون بمقدار ثلاثة أضعاف عمّا هي عليه الآن، وزيادة توافر الغذاء بنسبة 50 في المئة. وهذا ممكن من خلال إنتاج أكثر كفاية، وخفض الهدر، وتغيير أنماط الأكل باعتماد نظم غذائية صحية ومستدامة. وفي حين يمكن أن يؤدي نشر التكنولوجيات المبتكرة إلى تعزيز الأداء الاقتصادي، لكن هذه التكنولوجيات قد تتسبب بمخاطر جديدة ويكون لها تأثيرات بيئية سلبية. لذا، فالتكنولوجيا وحدها لا يمكن أن تكون الحل، بمعزل عن تبديل جذري في أنماط الاستهلاك والإنتاج.
لا بد من وضع ثمن للموارد الطبيعية للدفع في اتجاه تعديل أنماط الاستهلاك وتعزيز الكفاءة. وتمثل المنطقة العربية مثلاً صارخاً للاستنفاد المريع للموارد الطبيعية، حيث يبلغ الطلب على منتجات وخدمات الطبيعة أكثر من ضعف ما هو متوافر محلياً، وفقا لدراسة عن البصمة البيئية أعدها المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). ويضع هذا الاختلال إمكان استمرار النمو والرفاهية على المحك، الأمر الذي يستدعي اعتماد إجراءات لاحتساب استهلاك الموارد الطبيعية في الميزانيات الوطنية، بدلاً من التعامل معها كودائع مجانية.
على الحكومات تصميم وتنفيذ سياسات تدمج التدابير التشريعية والتكنولوجية والاقتصادية في حزمة مترابطة، لمواجهة التحديات المعقدة. وينبغي إعطاء الأولوية للاستثمارات التي تساعد في الحد من تلوث الهواء وتغيّر المناخ، وتكفل إدارة متوازنة للموارد الطبيعية، تقلل المخاطر على الأجيال القادمة. إلا أن هذا يحتاج إلى استثمارات ضخمة. فتحقيق المحتوى البيئي لأهداف التنمية المستدامة في البلدان العربية يتطلب 230 بليون دولار سنويا. لكن من أين يأتي التمويل؟ ليس كل التمويل المطلوب مبالغ إضافية جديدة. فقسم كبير منه يأتي من وضع حد للهدر ومكافحة الفساد وتحويل جزء من الالتزامات المالية التقليدية في الموازانات الحالية إلى مشاريع تدعم أهداف التنمية المستدامة. لكن هذا لا يكفي، إذ تبقى الحاجة ملحّة إلى مبالغ أكبر، لن تستطيع الحكومات وحدها تأمينها. لذا كان ضرورياً استقطاب مساهمات القطاع الخاص. وهذا يتطلب سياسات وتدابير تنظيمية ومالية تقوم على الشفافية والاستقرار التشريعي، لخلق الأرضية الملائمة لجذب الاستثمارات.
لكن القرارات الصائبة تعتمد على بيانات ومؤشرات دقيقة، ما يوجب الاستثمار في أنظمة المعرفة التي توفر معلومات موثوقة لوضع السياسات البعيدة المدى، كما تساعد في التقاط الإشارات المبكرة للتدهور. وهذا يعطي الفرصة لتجنب الضرر عن طريق التدابير الاحترازية. أما بالنسبة لأولئك الذين يأخذون عدم وجود أدلة حاسمة في بعض المجالات كذريعة لتأجيل القرارات الكبرى، فإن لدى مئات العلماء ممّن عملوا على تقرير توقعات البيئة العالمية رسالة واضحة: في حين أن ثمة حاجة دائمة، في بيئة عالمية سريعة التغير، إلى المزيد من البيانات، فإن دلائل التدهور الموجودة كافية لفرض العمل العاجل على جميع الجبهات البيئية.
التأخير لم يعد خيارا.

> نجيب صعب 

Related posts

Top