تونس بين الصندوق والسجن

يندر، إن لم يكن من المستحيل، في التاريخ السياسي للأمم، أن نجد مثالا لمشهد انتخابات رئاسية يماثل ذلك المرتسم في تونس الآن. عنصر الندرة والاستحالة نشأ عن مجموعة عناصر يناقض واحدها الآخر: انتخابات شفافة ونزيهة، يتمتع أحد المتسابقين فيها بكامل حريته بينما الآخر يقبع في السجن. ما يعني التعارض بين عنصر النزاهة وواقعه الاتهام بفقدانها لدى أحد المرشحين. ثم طبقة سياسية بأكملها تتوافق على إجراء سباق انتخابي تُراعى فيه العدالة، وفي الوقت نفسه تنظر العدالة نفسها في قضية مخالفات قانونية فادحة ارتكبها مرشح، ما يعني أن سلامة التدابير القانونية في خطها العام، لم تكن موصولة بالسلامة العدلية للمرشح المذكور، ما يعني وفق نتائج المرحلة الأولى من السباق، أن الناخب التونسي أزاح جانبا الطبقة السياسية صاحبة التوافق على عملية انتخابية نزيهة، بكل شخصياتها وتاريخهم مع تاريخ النضال الحزبي للعديد منهم، دون أي اعتبار لـ”فضل” من توافقوا على إتاحة الخيار الديمقراطي الكامل للشعب التونسي.
في نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات، حدثت التصفية، ليصعد إلى الدور الثاني رجلان يناقض واحدهما الآخر أيضا: رجل مستقل، صاحب رأي منزوع الدسم المالي، وآخر طامح إلى الثروة، منزوع الدسم السياسي. الأول يتسم باستقامة مشهودة، والثاني يتسم بكرم مشهود. فهل تغلب غواية المال في خيارات الناس، رجاءاتهم للظفر بنظام يترأسه رجل ذو استقامة؟
أغلب الظن أن الرجاءات الثانية هي التي ستغلب، وإن كان الأمر يتعلق بمسألة نفسية اجتماعية، موصولة بأي قدر من الوعي وثقافة الدولة. فمن طبائع السلوك الجمعي أو الميل السياسي للشعوب، ما يمكن اعتباره توقعات سلبية في كلا الخيارين، سيتكفل عنصر الاختيار نفسه، باعتباره محصورا بين شخصين، بتحقيق التغاضي عن التوقعات السلبية. فمن جهة- وفق التوقعات السلبية- لا ضمانات للمستقيم، بأن يظل مستقيما بعد أن يقع في غواية السلطة، وحتى إن ظل الرجل مستقيما، فلا ضمان لأن يتغير السلوك البيروقراطي للدولة، باعتبار أن كثيرين من الطبقة السياسية الذين حسمت النتائج أمرهم، بدأوا مستقيمين، فغلبتهم إما غواية السلطة أو طبائع الدولة، في بلد يُعد جنوبا، أو من العالم الثالث، في التصنيف الاقتصادي التنموي لأقطار العالم.
أما في خيار ترجيح كفة السجين الكريم وهو الأمر المستبعد، فسيكون المستفيدون منه، ومن لمسوا عنصر الرحمة والترفق بالفقراء في سلوكه الشخصي، وتأسوا عليه في سجنه؛ قد أوقعوا آخرين في غواية افتراضية، قوامها أن الخير المحدود الذي اقتصر عليهم، سوف يتسع ويعم، بحكم انفتاح الرجل على فكرة العطاء وتحسس احتياجات الفقير. وفي هذه الحال، سيكون الذين وقعوا في الغواية الافتراضية، من البسطاء الذين سيغيب عن أذهانهم بحكم بساطتهم، معنى أن يصبح أي رجل، ثريا في بلد فقير، وكذلك معنى الاختلال في توزيع الدخل، والفارق بين الاستثمار الوطني والاستثمار المباشر لرجال الأعمال، أو الفارق بين المساعدة على توفير لقمة خبز بين الفينة والأخرى، والمساعدة على توفير فرص العمل والإنتاج والذهاب إلى استثمار اجتماعي عام.
لكن عناصر التناقض بين الرجلين اللذيْن يتعين على التونسيين اختيار أحدهما لكي يصبح رئيسا للجمهورية بكل مؤسساتها الحامية للمشروعية؛ ترسم مفارقة غريبة لم تحدث من قبل، وهي أن نتائج الانتخابات النزيهة، التي وفرتها الدولة للشعب، جاءت لتضع هذه الدولة في مأزق، عندما ضربت عنصر النزاهة نفسه، أي أن الناخب- وهو الشعب- أربك الفكرة من خلال الصندوق، وقد ساعد الجهاز القضائي على ذلك، ومعه هيئة الانتخابات المستقلة المنظمة للعملية الانتخابية.
الأول عندما تلكأ في حسم موضوع المرشح السجين، الذي حل ثانيا وفق النتائج، ولم يستدرك ويحسم بعد ظهورها، والثاني لأن لوائحها لم تشتمل على الشروط الكافية لسلامة الصحيفة العدلية لكل مرشح. والمأزق هنا عميق قُبيل المرحلة الثانية من الانتخابات. فإن ظل رجل الأعمال نبيل القروي في السجن غير قادر على الإطلالة عن الناخبين ولا على التناظر مع منافسه؛ سينتفي مبدأ تكافؤ الفرص. وإن ارتجل القضاء عملية تقاضي وبرّأ السجين، ببراءة منزهة عن الاشتباه، ستنشأ على الرغم من ذلك شبهة اللفلفة. وإن أدين القروي، فسيكون المرشح الرئاسي وحيدا، مثلما كان الراحل زين العابدين بن علي في انتخاباته الملفقة، وإن أصعدت هيئة الانتخابات الثالث في ترتيب النتائج، ستكون مرحلة المنافس الجديد قصيرة، وسيكون الأضعف بكثير حُكما.
في محاذاة هذا المأزق، هناك محاولات لاقتراح مقاربات للخروج، وهذه ستكون قبل الانتخابات، مسؤولية القوى السياسية نفسها التي توافقت على العملية الانتخابية النزيهة، التي أقصتها النتائج. وهذه القوى، مطلوب منها أن تراعي حاجة الدولة إلى قضاء ساهر يستعيد ألقه، فيحسم أمر السجن سريعا. وما الذي سيجعل هذه القوى معنية بهذا الشأن، سوى الإحساس الحقيقي بأن مصلحة الدولة ومصلحة الديمقراطية التي ستفتح الباب واسعا لهم، للعمل السياسي والمثابرة على كسب ثقة الجمهور حتى الموعد المقبل للتداول على السلطة.
المرشح الرئاسي، قيس سعيد، الذي صعد بغير حزب سياسي يحمله إلى المرتبة الأولى في المرحلة الأولى، ليس أكثر من مشروع رئيس يتسم بقوة الحجة والاستقامة والفصاحة. حصل على الأصوات، من خلال إحساس التونسيين بالحاجة إلى الاطمئنان على المزايا الإنسانية لمن يترأس بلادهم. كان هذا الاعتبار مقدما في ناظرهم على كل اعتبارات السياسة والمواقف من مجمل القضايا الوطنية والإقليمية والدولية. لذا فقد صعد بينما الكثير من مواقفه غامضة، يشفع لها اليقين بأن الرجل مناسب أخلاقيا وثقافيا وغير مظنون فيه وحسب. بالتالي فإن السباق يجري أساسا على أرضية أخلاقية، وهذا أحد مآلات الحقب والمراحل التي سادت في الدكتاتورية. فلم يعد الناس يتقبلون الأحاديث النظرية عن السياسات والأيديولوجيات. المهم هو السلوك الشخصي لمن يتنطح للمسؤوليات السياسية، لكن المصادفة التي حدثت، أن النتائج جاءت وكأنها تعمدت وضع النقيضين على الحلبة، لكي يغلب العنصر المستقيم منافسه المظنون فيه، علنا وحصرا، وعلى الدولة أن تتدبر لنفسها خروجا لائقا من مأزق الاختلال في الفرص. فقد باتت تونس حاضرة بين الصندوق والسجن!

عدلي صادق
 كاتب وسياسي فلسطيني

Related posts

Top