ثقافة الاعتراف

قرر نادي فيورنتينا الإيطالي، حسب ما جاء في أغلب وسائل الإعلام الإيطالية، تمديد عقد قائده الراحل دافيد أستوري مدى الحياة. يمكن أن يكون الأمر عاديا بالنسبة لفريق يتشبث بلاعب ينتمي له، ولا زال يمارس أو حي يرزق، ويسعى لتحويله إلى واحد من الرموز التاريخيين المرتبطين بهوية النادي واسمه.
إلا أن المثير في الخطوة التي أقدمت عليها إدارة فيورنتينا، هو أن المعني بهذا العقد الأبدي، يهم لاعب وافته المنية وهو بعمر 31 سنة، وبشكل مفاجئ منذ حوالي سنة بأحد فنادق مدينة أودينيزى، وسبب الوفاة حسب التقارير الطبية يعود لنوبة قلبية.
قرر النادي الإيطالي تخصيص استفادة مالية دائمة لفائدة زوجته وابنتيه، كمبادرة تنم عن عمق إنساني كبير، وقيمة المؤسسة وتكريسها للقيم الرياضية المبنية على النبل والأخلاق، كيفما كانت الظروف والتضحيات.
إنها لفتة طيبة دخلت التاريخ تجاه قائد راحل، غادر بشكل مفاجئ، وهو بين أحضان فريقه، وبشكل دراماتيكي يدمي حقيقة القلب.
إدارة فيورنتينا اختارت المكان والوقت المناسبين، كما هيأت الظروف المناسبة حتى تكون لفتة تليق بتخليد ذكرى عزيز قضى، وتقديم مثال عن الحب والوفاء، وتكريس ثقافة الاعتراف، خدمة للمستقبل وتقديم أمثلة نادرة بالنسبة للأجيال القادمة، والتأكيد أن الانتماء للنادي، ليس مجرد عقد وعلاقة قانونية، بقدر ما هو ارتباط وجداني وهوية وانتماء.
الحكم الإيطالي لوكا بانتي الذي قاد المقابلة التي أعلن خلاله عن المبادرة أوقف مجرياتها في الدقيقة 13، أي نفس رقم القميص الذي كان يرتديه اللاعب الراحل، كما أعلن النادي بعد وفاة نجمه أنه تكريما له ولجعل ذكرى دافيد أستوري لا تمحى من الذاكرة، قرر سحب الرقم 13.
كما قام لاعبو المنتخب الإيطالي بمبادرة إنسانية عقب الحادث، بارتداء قمصان رقم (13)، في مباراتين وديتين سبق أن جمعتا منتخب “الآزوري” ضد الأرجنتين وإنجلترا، تعبيرا عن الوفاء لزميلهم الراحل.
حديثنا عن مبادرة فيورنتينا يأتي من باب المقارنة عما يطرأ على الساحة الرياضية الوطنية، من أحداث تنعدم فيها للأسف مثل هذه المبادرات الإنسانية النبيلة.
فتهميش الأحياء قبل الأموات من الرياضيين السابقين، وعدم الاعتراف بإسهاباتهم في خدمة الرياضة وتطويرها، أصبح قاعدة، بل تحول إلى ظاهرة وطنية لا تخص ناديا رياضيا دون سواه، بل تبقى قاسما مشتركا بالنسبة لجميع الأجهزة سواء كانت أندية أو جامعات أو لجنة أولمبية أو وزارة وصية.
فكثير من الرياضيين توفوا أثناء المباريات أو التداريب أو مباشرة بعد انتهاء المقابلات، لكن لا أحد التفت لهم أو قدر عطاءهم أو خلد ذكراهم، أما الذين تقطعت بهم السبل ورموا على الهامش، فحدث ولا حرج، فهناك من النجوم الكبار من ماتوا وحيدين وفي عزلة تامة، لا رفيق ولا أنيس، ولا حتى زيارة ود ومجاملة وتضامن.
صحيح أن بنيات الأندية الهشة وغياب مفهوم المؤسسة، واقع لا يساعد الأغلبية الساحقة منها، والتي هي غارقة أصلا في متاهات الانشغالات اليومية والآنية، لكن هذا لا يعفي مسؤوليها من القيام بمبادرات فردية أو اقتراحات خاصة، ففي غياب الوعي بثقافة الاعتراف والتشبع بقيمها، لا يمكن أبدا التفكير في مثل هذه الجوانب المرتبطة بالمثل العليا للحركة الأولمبية عموما…

محمد الروحلي

Related posts

Top