جدلية الدين والسياسة في العصر الحديث

يؤكد الدرس الأنثروبولوجي، أن العلاقة بين المقدس والسلطة، هي من قبيل أبرز العلاقات الإشكالية التي ارتبطت بالوجود الإنساني، وربما هذا ما حاول جان جاك روسو توضيحه بالقول: “لم يكن الناس في البداءة ملوكا غير الآلهة، وحكومة غير الحكومة الإلهية… ولذلك وحده وُضع الرب على رأس كل مجتمع سياسي، ومن ثمة كان يوجد من الآلهة من هم بعدد الشعوب، وما كان الشعبان الغريب أحدهما عن الآخر، المتعاديان دائمًا تقريبا، ليستطيعا أن يسلما بسيد واحد زمنا طويلا، وما كان الجيشان المتقاتلان ليستطيعا أن يطيعا رئيسا واحدا، وهكذا تؤدي التقسيمات القومية إلى تعدد الآلهة؛ ومن هنا نشأ عدم التسامح اللاهوتي والمدني الذي هو هو، بحكم الطبيعة” (1).
هذا بالنسبة إلى دور الدين في الحياة البشرية عموما، أمّا بخصوص إشكالية التداخل بين ما هو زمني وروحي في العصور التي عرفت انتعاشا للفلسفة والسياسة، فإن ذلك ثابت من خلال ما ثم حفظه من كتابات المنظرين السياسيين، وحتى المنظرين اللاهوتيين، كما أن الفلسفة الإغريقية تدور في جلها، حول المسألة الدينية السياسية، أو العلاقة بين الأخلاق والّدين من جهة، والأخلاق والسياسة من جهة ثانية (2). 
تجدر الإشارة إلى أن المراحل الأولى من العصور الوسيطية، انبعث الدين المسيحي في ظل وجود دولة إمبراطورية قوية دخلت معه في صراعات امتدت لقرون ثلاثة، فالدين المسيحي تميز بازدواجية صراعه مع الإمبراطورية التي تدعم الأديان الوثنية ومع المجتمع الذي يقدس الإمبراطور، ويرفض عبادة آلهة غير مرئية (3)..
  لذلك فدراسة المجال التداولي الغربي المسيحي سيكون منصبا أيضا على ما قبل المسيحية، ما دمنا نبحث في بدايات نشأة المجتمع المدني، فالدين والسياسة من خلال الإمبراطورية الرومانية، لم يكن العالم منقسما إبان بداياتها الأولى إلى شرق وغرب.
انطلاقا مما سبق، تدعو الضرورة إلى شرح ما تعنيه عبارة العصور الوسطى في التاريخ الأوروبي، وبالرغم مما قد يطرح من اختلافات قد تكون حول الموضوع، فإن هذا البحث يحثنا على أهمية التحقيب التاريخي الذي يلقي اهتمام واتفاق بعض المؤرخين، ومن أهمهم هذه الدراسة التي اعتمدناها في هذا التحقيب هنا، حيث عندما ننظر إلى مفهوم القرون الوسطى بالذّات، نراه فارغا من المعنى، فبوجه عام تغطي هذه الحقبة أربعة فترات مختلفة جدا:
> الفترة الأولى: تمتد من الغزوات البربرية حتى بداية القرن الحادي عشر، إن الرعب في السنة ألف هو أسطورة، ولكن التاريخ بالذات يمكن أن يستخدم كمفصل.
> الفترة الثانية: هي فترة القرون الوسطى العليا، هي بدون شك عصر تراجع اقتصادي واضطراب سياسي، وتوحش همجي، أّما ما يسمى بالنهضة الكارولنجية فليست إلا استراحة سطحية عابرة.
> الفترة الثالثة: فجأة استيقظت أوروبا في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر، فقد يشاهد المؤرخ تضخما ديموغرافيا أحدث ضمة من النتائج، (استصلاح أراض زراعية من الغابات، نمو المدن والأسلاك الرهبانية، الحروب الصليبية، بناء الكنائس الأكثر اتساعا)، وارتفعت الأسعار وزاد التداول النقدي، وازدهرت التجارة بمقدار ما استطاع الملوك السيطرة التدريجية على الفوضى الإقطاعية وساعدت المواصلات الدولية الأغزر على دخول العلم العربي إلى الغرب.
> الفترة الرابعة: بدأ القرن الثالث عشر، ذروة القرون الوسطى، ودليل ذلك بالنسبة إلينا هو ازدهار الجامعات السريع حيث اشتهر “ألبير الكبير” و”القديس توما” و”روجر بيكون”، وكان القرن الرابع عشر عصرا صعبا بالمعنى المزدوج للكلمة، فقد توصلت البورجوازية إلى الحكم، وقام فكر علماني، وإن بدا مؤمنا حتما، فطبع بطابعه الأدب والحقوق ولم تعد السلطة ولا البابا نفسه يوحيان بالاحترام، وكانت المواسم عاطلة، في العقد الثاني من القرن وبدأت حرب المئة سنة، وحدث أّول إفلاس مصرفي ذي أهمية عالمية سنة 1345م، وحصد الطاعون الكبير بين (1347م-1348م)، حيث أوروبا محطمة بقسوة الأسلاك الرهبانية. هذه الأوضاع كانت لها انعكاسات متناقضة، حرج النخب الفكرية ضد أو تجاه كلاسيكية القرن الماضي، تعلق الجماهير بالتصوف الأكثر اضطرابا، وبالأوهام والأضاليل غير المعقولة.
أما القرون الوسطى السفلي (1350-1450) فتتبدى من خلال تراجع اقتصادي وديموغرافي، ربما يعوضه جهد تقني أكثر وعيا، وكانت الجامعات في تراجع وتقهقر..” (4).
ويمكن تلخيص العرض السالف في أربع مراحل:
ظلمات القرون الوسطى العليا (من القرن الخامس حتى القرن العاشر)؛
يقظة أوروبا والتأثيرات الإسلامية (القرن الحادي عشر، الثاني عشر)؛
نهضة الجامعات، والعصر الذهبي للعلم “المدرسي”، (القرن 13م وبداية القرن 14م)؛
تقهقر الجامعات وترابط العلوم والتقنيات، (1350-1450)

تحول الإمبراطورية من دين الدولة الوثني إلى دين الدولة المسيحي:

إذا ما أردنا الاهتمام بقضية الدين والسياسة أمكننا القول وبجزم، “إن الدين المسيحي يعد أحد العوامل الحاسمة في تحول الإمبراطورية البيزنطية الشرقية إلى الإمبراطورية الرومانية الغربية، حيث لاشك أن واقع الأديان الوثنية، تميز “بعقيدة” عبادة الأباطرة كما يجري استعمالها عادة عبارة مضللة، لأنه لم يحدث قط إلا فيما نذر أن أقيمت شعائر العبادة للإمبراطور إبان حكمه وفي أثناء حياته على اعتبار أنه إله بالفعل ولكنه كان مما يتفق والأفكار السائدة في العالم القديم أن يضم الحاكم العظيم بعد وفاته إلى قائمة أسماء من تعبدهم الدولة، وبذلك يصبح إلها.”(5). لكن، هذا لا ينفي أن “السلطة الدينية المختصة، وهي مجلس الشيوخ الروماني، أن تقرر عند وفاة أحد الأباطرة اعتباره إلها ما، إذا كان الإمبراطور الراحل جديرا بشرف التأليه… ومن ثمة يضاف في حالة الموافقة إلى قائمة آلهة الدولة التي تبدأ باعتبارهم أعظمهم وأفضلهم،… وعلى أية حال فإن مركز الحاكم ومكانته وسلطته أدت إلى أن بات يحاط، أثناء الاحتفالات العامة والمواكب الرسمية، بحشد من دلائل التكريم والتعظيم”(6)..
إذا علمنا أن عقيدة عبادة الأباطرة كانت على هذا النحو، فإن مفهوم العبادة نفسه كانت له دلالات مختلفة لمّا أتت به الأديان، حيث، “يتحتّم أيضا عند الحديث عن عبادة الأباطرة أن نوضح خطأ نظريًا قد يقع فيه الكثيرون.
فيما لاشك فيه أن لفظتي “العبادة” و”العقيدة” في نظر القارئ الحديث لا تدلاّن فحسب على فرائض ونصوص التعبد والشكر، بل تدلّان أيضا على طريقة توجيه الصلاة، فهي إمّا صلاة من أجل النفس أو من أجل الغير”(7). حيث، “كان المتعبد يدعو الآلهة إلى صون الدولة وإطالة عمر الامبراطور، أو إلى أن تمن عليه بالثروات والمحاصيل الوافرة شريطة التكريم اللائق بهذه الآلهة، وإذا لم تف هذه الآلهة بالتزاماتها في العقد، فالويل لها، إذ تحرم من المذابح، وتمسخ صورها وتقذف معابدها بالحجارة”(8). 
إن أهمية الدين في الإبقاء على عروش الأباطرة والعظماء السياسيين، وإضفاء المشروعية على تصرفاتهم، هو ما جعل هؤلاء أكثر حرصا على وجود الدين في صفوف الرعايا، حيث، “كما أن السيد من البشر يُكرم ويُمجد بما يُحيطه به أتباعه وحاشيته من ألوان الإجلال والتبجيل، كذلك تعظم الآلهة بالطقوس التقليدية التي يقيمها كثير من العباد الشاكرين، ومن ثمّة يحق لهؤلاء البشر أن ينالوا تلك النعم والخيرات التي لا يستطيع أن ينعم بها غير الآلهة… وحتى يصرح سائر سكان الإمبراطورية حقوق المواطنة الرومانية أنّ الآلهة الرومانية ستكون أكثر استعدادا ورغبة لأن تجزى الشعب الروماني الورع وتسبغ نعمتها عليه، إذا ما كرمت من هذا العدد الكبير من المواطنين الجدد. ومن هنا جاءت أهمية دين الدولة ووفاؤه بالغرض المنشود منه، إذ كان بوسع الجميع ومن واجبهم أن يأخذوا بنصيب في الطقوس التي تقام في أيام الأعياد الكبرى، أما عن قائمة أعياد الجيش فلم تكن تمثل سوى نخبة مختارة من قائمة الأعياد المدنية، وكانت العبرة بالاشتراك الفعلي في أداء الطقوس، بحيث لم يكن هناك محك للدين القويم يقوم على اتباع نواميس معروفة أو تلاوة قوانين للإيمان، كان واجب المواطن الروماني، وعمله الدال على صدق إيمانه هو أن ينضم إلى المواكب في أبهى حلّة، ويشترك في الذبائح والقرابين وإطلاق البخور، متوجًا بأكاليل الزهر”(9). 
يوضح ما سبق “أن الثنائي الحاد بين المتديّن الوثني وبين الإمبراطورية الرومانية، أو بين السياسة والدين، أدّى إلى سيادة العبودية، ما جعل الأباطرة في موقع الآلهة، مما أدّى إلى تغيير الوضع مع أول احتكاك مع دين سماوي يرفض عبادة الأوثان وهي فترة عرفت بتدشين صراع اجتماعي، جراء انتقال الدين والسياسة في الإمبراطورية من حالة التوافق إلى حالة الاختلاف، وسيدوم هذا الوضع لأكثر من ثلاثة قرون تعرض فيه المسيحيون لمختلف صنوف التضييق”(10).
هذا التلاق الحاد بين الأديان الوثنية والأباطرة سيكون له تأثير كبير على العلاقة بين المسيحية والإمبراطورية، وربما هو ما يفسر التضييقات الواسعة التي عرفها المسيحيون خلال القرون الثلاثة الأولى لانبعات المسيحية.
بداية، يبدو من الضروري القول إنه لانبعات المسيحية وانتشارها كان لابد من الإشارة إلى بعض تفاصيل مسلسل محاربة المسيحية ومواجهة أتباعها ورموزها، حيث، “تشير وثيقة منذ عهد الإمبراطور تراجان (98-117م) وهي عبارة عن رسالة أرسلها إليه أحد حكامه على منطقة “بتينيا”، (أسيا الصغرى) ذكر فيها الأخير أنه قام بالعفو عن الذين تأكد أنهم غير مسيحيين، وذلك بعد تقديمهم القرابين لتمثال الإمبراطور، وقيامهم بسب ولعن المسيح، أما الذين أعلنوا مسيحيتهم وتمسكوا بعدم تقديس تمثال الإمبراطور فضلا عن رفضهم تقديم القرابين له، فقد قام بإعدامهم أمام الجميع”(11).
ستتبدل هذه المرحلة الصراعية بين الإمبراطورية السياسية والمسيحية بشكل جذري مع بداية نهاية الربع الأول من القرن الرابع، حيث، “سيتم تجاوز هذه الصورة الصراعية بينهما وسيختفي في اتجاه رسم صورة جديدة، بدايتها ستكون مع قسطنطين الأول، الذي قرر إثر انتصاره في إحدى حروبه سنة 312 للميلاد، الاعتراف بالمسيحية كدين رسمي للإمبراطورية الرومانية(12). 
طبعا نتج عن هذا الاعتراف نقاش طويل وحاد، لا يسمح المجال هنا للتوسع فيه.
كانت من مميزات المسيحية بهذا الأساس، من قبل رجالها، هو رفض تأليه الحاكم غير أنها ألّهت في مقابله الإله حاكما من نوع آخر، الواجب طاعته والتزام نواهيه. في ظل هذا الواقع ستعلو السلطة الدينية فوق الحرية، ويستند الاستبداد على أساس متين، وهو السلطة الدينية المطلقة، حاكمها هو إله لا تعلو عليه سلطة.
 هذا الأمر دفع برجال الكنيسة إلى، “عقد مصالحة مع السلطة الزمنية، تفعل ما تشاء بأحكامها مقابل ترك مجال فاسح لحرية ممارسة الشعائر والطقوس الدينية كما تشاء أيضا”(13). غير أنها “حرية فارغة مرتبطة فقط بشؤون العبادة والدين فاصلة فصلا تاما بين ما هو دنيوي من شأن الإمبراطور وحده، معتبرين أنّ الحرية تعلو فوق مطلب الحياة ومقتضياتها، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي من قبيل الأعراض الزائلة، وأن المهم في مدينة الرب هو الخير الباقي بعد هذه الحياة الفانية”(14). 
امتدادا لما سبق، كان رجال الكنيسة، قبل حلول القرن التاسع من كبار مُلاّك الأراضي، حيث لما تطوَّر النظام الإقطاعي واتسع، كان رجال الكنيسة قد انضووا تحث لواء النظام الذي صار لزاما أن تشير بمقتضاه شؤون الحكم. انطلاقا من هذا السياق التاريخي والاجتماعي، شرع رجال الدين في الاهتمام بما هو زمني، وامتلاك الأراضي وشغل كل المناصب الحياتية. أدَّى هذا الأمر إلى “منافسة رجال السياسة في جميع الأنشطة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إذ لم يكتفوا بالرشد والوعظ وإنما تجاوزت أطماعهم إلى أكثر من ذلك، إلى بناء الجامعات وتأطير المجتمعات والاهتمام بالتعليم، وكسب الثروة المادية وتوزيعها”(15)..
في ظل هذه الأوضاع، تحوَّلت الكنيسة إلى ثقافة مجتمعية، وامتلكت أدوات دولتية وشرعت في تعمير الفراغ الذي أحدثه تراجع الإمبراطورية الرومانية نتيجة للحروب التي خاضتها وهكذا صارت تشكل الوعي الجمعي للمسيحيين، وتخلق ثقافة قومية جديدة، استغلتها فيما بعد في حروبها المتعددة.
الواضح إذن، “أن غياب التمييز التَّام بين الكنيسة والدولة، بالمعنى الحديث، جعل من أوربا في العصور الوسطى تعيش تداخلا بارزًا بين ما هو سياسي وديني، وهو التداخل الذي أدّى إلى تزايد أطماع رجال الدين بشكل عظيم، أدى ذلك إلى انعدام وجود جماعة تنتمي إلى الكنيسة وأخرى إلى الدولة، لأنّ الناس جميعا كانوا ينضمُّون إلى كلّ منهما دون تمييز واضح”(16).
لم يكن الهدف خلال فترة القرن الحادي عشر، إصلاح الإيكليروس بقدر ما كان الهدف هو “الاستقلال عن السلطة الزمنية الذي كان من أهم المطالب الكنسية آنذاك، وأنه لكي تفوز الكنيسة بهذا المطلب، وتتحصّل على استقلاليتها وتصونه، عليها أن تتمركز تحث قيادة البابا، لأن كنيسة مصلحة وممركزة بصورة قوية ستكون ضامنة لتوسيع نفوذها حيث تشتمل على الشؤون الدنيوية، وحسب بعض المصلحين كان على الكنيسة أن تحتفظ بالسلطة العليا على جميع المسائل الخاصة، سواء منها العلاقات الاجتماعية أو السياسية، فإذا كان يُراد أن تكون أوربا مسيحية حقا، كان يلزم أن تكون تحث سلطة حكام مسيحيين”(17).
من هنا سيبرز أكثر الوجه المسيحي لأوروبا، وسيصير، “الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية إلى الاندغام بينهما، وبدل الدعوة إلى استقلال الكنيسة عن الأباطرة، سيظهر تصور آخر، من شأنه إخضاع ما هو زمني لما هو روحي، فرغم مقاومة مطامع الكنيسة من طرف الأمراء العلمانيين، وهو نزاع استمر قرابة نصف قرن، إلا أنّ هذا النزاع أضعف إلى حد كبير الاتحاد الوثيق الذي كان موجودا بين السلطات الدنيوية والدينية، ففقد الأمراء جزء من تأثيرهم الديني على الكنيسة، وتوصّلت هذه الأخيرة في النهاية إلى قيادة المجتمع الأوروبي، والسيطرة عليه، وذلك الانفصال الشبه حقيقي الذي حققته الكنيسة في الماضي عن السلطات السياسية الدنيوية، استطاعت من خلاله أن تؤكد استقلالا ذاتيًا واضحا في المستويات الدنيوية، وبذلك أحرز المصلحون التابعين لسلطة “البابا كريغوري” انتصارا حتى وإن كان سوى انتصار جزئي”(18). 
نخلص للقول في هذه الفقرة إلى استنتاج مسألة أساسية، وهي أن المسيحية في بواكيرها الأولى لم يكن لها اهتمام كبير بقضايا الحكم والسياسة وهذا يفسر التوافق الكبير الذي حصل بين الحكم الإمبراطوري الروماني والمسيحية بعد الاعتراف القسطنطيني، إذ اعتبرت المسيحية أن كل ما يتعلق بشؤون الدُّنيا سرعان ما سيزول إلى الفناء، ولكن عندما بات واضحا أن المسيحيين يجب عليهم انتظار مجيئ مملكة الله، اضطرت السلطات الكنسية إلى التصالح مع العالم، وقد لعبت الكتابات السياسية واللاهوتية دورًا هامًا في إسناد هذا التحول، حيث انتشر الفكر اللاهوتي الذي يدعو إلى طاعة الإمبراطور واعتبار تأليهه مسألة متعلقة بطاعة الله وملكوته، وهو تأويل جديد للدين قصد المصالحة بين السياسة والدين والخضوع إليهما، واعتبر بهذا الأساس أي خروج عن عقيدة السلطة السياسية المحتكرة هو خروج عن الدولة في حدّ ذاتها.
بداية يجدر التنبيه أني ترددت في دراسة هذه الفقرة، نظرًا لما طرحته لي من حيرة وقلق حول تلك الإشكالات بل المشكلات التي يطرحها لنا العصر الحديث، وخاصة عصر النهضة، نظرًا لما تميز به من مجموعة من الأحداث المستجدة كان لها وقع مهم على التأسيس للعصر الحديث أهمها اضمحلال الامبراطوريات، والتأسيس في مقابل ذلك لدول وطنية، وظهور دعوات جديدة أساسها الاصلاح الديني، والتأسيس للفلسفة السياسية، وما تضمنته من مفاهيم وتعاريف سياسية هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ظهور ثورات علمية متتالية…
لقد كان العصر الحديث الذي يُؤرخ له عادة بالقرن السادس عشر أو السابع عشر، مقدمة لمجموعة من التغيرات الهائلة، لذلك فحديثنا عن العصر الحديث لا يقوم إلا على ما سبق الوقوف عليه من أحداث ميزت عصر النهضة السياسي.
“إن مسألة خلق سلطة مضادة للكنيسة، وتأسيس في مقابل ذلك لدولة لم يحل دون انتقال المشكلة الدينية السياسية إلى واقع الدولة الحديثة”(20). 
إن الهيمنة التي مارستها الامبراطورية الرومانية والتحكم الديني عن الكنيسة هو “الذي جعل من الدولة منذ بداياتها الأولى لم تكن مدنية أو علمانية منذ نشأتها، مما استدعى الأمر فصولا من الإصلاح الديني والسياسي، هدف إلى التخلص من الإرث التسلطي، (الحكم المطلق)، والتحكم الديني، (الحق الإلهي للملوك)، مما استدعى ضرورة العودة إلى البدايات وصفاء العقيدة في مواجهة الأطماع السياسية لرجال الدين، وفكر سياسي حديث لمواجهة أطماع رجال الكنيسة وتوظيفهم للدين، الذي مارسه الحكم المطلق من أجل تسويغ سياساته القهرية”(20).
لقد استمر مسلسل الاصلاح طيلة قرون من الزمن، تميز هذا الأخير بمجموعة من الحقب الفكرية والثقافية والسياسية واللاهوتية، يمكن تقسيمها إلى مستويات (الإصلاح الديني، فلسفة عصر النهضة، والأنوار…إلخ)، حيث اخترقت هذه المحطات الزمنية مجموعة من الثورات السياسية، (البريطانية، والأمريكية والفرنسية…) وصولاً إلى الفترة الراهنة، وما عرفته من أحداث هامّة.
يدفعنا هذا الطرح إلى الوقوف عند أهمية الفلسفة السياسية والفكر الفلسفي عموما في الدعوة إلى الإصلاح، لكن ما المقصود بالفلسفة السياسية؟
في إطار الإجابة على هذا السؤال يعود “جون رولز” إلى ذلك الدور العملي الناشئ للفلسفة السياسية من النزاع السياسي الانقسامي والحاجة إلى حل مسألة النظام، حيث تميّزت فترات طويلة في تاريخ أي مجتمع أدّت خلالها مسائل أساسية معينة إلى نزاع عميق وحاد، وبدا إيجاد أرضية مشتركة معقولة لاتفاق سياسي حولها صعبا إن لم يكن مستحيلا، “تمتّل أوجه الصراع السياسي في أحد الأصول التاريخية للمذهب الليبرالي، حيث كان للحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر التي تبعت حركة الإصلاح، وقد فتحت تلك الانقسامات الباب لمجادلات مديدة حول حق المقاومة، وحرية الضمير التي أدت في النتيجة، إلى صياغة صورة ما لمبدأ التسامح والقبول المكره به في معظم الأحيان”(21). ليؤكد بذلك رولز “أن أهم المهمات التي يمكن أن تقوم بها الفلسفة السياسية، أو لنقل دورها العملي، هو التركيز على المسائل التي يدور حولها نزاع عميق والنظر في ما إذا كان هناك، بالرغم من المظاهر، قاعدة أساسية يمكن اكتشافها لاتفاق فلسفي وأخلاقي، أو إذا لم يمكن وجود مثل ذلك الأساس للاتفاق، فربما أمكن، على الأقل، تضييق شقة الخلاف في الرأي الفلسفي والأخلاقي على مستوى جذر الفروقات السياسية الانقسامية، إلى حد يمكن عنده الاحتفاظ بالتعاون الاجتماعي على قاعدة الاحترام المتبادل بين المواطنين”(22).
أما الدور الثاني للفلسفة السياسية، بحسب رولز، فيتمثل “بإسهامها في بحث كيفية تفكير الناس في مؤسساتهم السياسية والاجتماعية ككل، وفي أهدافهم الأساسية ومقاصدهم كمجتمع ذي تاريخ، أمة في مقابل أهدافهم ومقاصدهم كأفراد أو كأعضاء في أسر وجمعيات، وبالإضافة إلى ذلك، يحتاج أعضاء أي مجتمع متحضر إلى مفهوم يمكنهم من فهم أنفسهم كأعضاء يتمتّعون بوضعية سياسية معينة، مثل المواطنية المتساوية في الديمقراطية وكيف تؤثر هذه الوضعية في علاقتهم بعالمهم الاجتماعي”(23).
يطلق رولز على هذه المهمة، التي تطلع بها الفلسفة السياسية، “وصف التوجيه “orientation”، وهي فكرة مفادها أنها تنتمي إلى العقل والتأمل (النظري والعملي)، لتوجيه الإنسان وفق فضاء تصوري”(24). في حين يستخلص صاحب نظرية “العدالة كإنصاف” الدور الثالث للفلسفة السياسية من فلسفة الحق لدى هيجل وهو، “دور التسوية “Reconciliation” إذ تساعد الفلسفة السياسية على تهدئة الإحباطات والغضب الكامن في المجتمعات وتاريخه، بأن تبين لنا كيف أن مؤسساته عقلانية “rational”، عندما تفهم بطريقة مناسبة من منظور فلسفي وأنها تطورت عبر الزمن كما حصل معها فعلا، لتصل إلى صورتها العقلانية الحالية. يقول هيغل: “عندما ننظر إلى العالم نظرة عقلية، فإن العالم يرد بنظرة عقلية. ويفسر رولز قول هيغل: بأنه على الإنسان أن يقبل عالمه الاجتماعي ويؤكده بصورة إيجابية، لا أن يتم الإذعان له فحسب”(25).
أما الدور الأخير الذي اشتهرت به الفلسفة السياسية، فيؤجله رولز إلى الرتبة الرابعة، “باعتباره شكلا مختلفا من الدور السابق، ناظرا إلى الفلسفة السياسية على أنها يوتوبيا واقعية: أي إنها سبر لحدود الإمكان السياسي العملي، وهي الأصل في مستقبل سياسي مجتمعي، يقوم على الاعتقاد بأن العالم الاجتماعي يسمح بنظام سياسي لائق، على الأقل فيكون حصول نظام ديمقراطي عادل بصورة معقولة”(26).
إن إجابتنا عن سؤال ما المقصود بالفلسفة السياسية؟ لن تكتمل دون التنبيه إلى أهمية إجابة أحد أعلام الفكر المعاصر، “شتراوس” الذي حرص على “تحديد المقصود بالفلسفة السياسية باعتبارها نمطًا متميزا من الفكر السياسي له ملامحه الخاصة وقد تبين أهمية ذلك من خلال مقال له بعنوان، “ماهي الفلسفة السياسية؟” يعرفها بأنها تلك المحاولة الحقيقية لمعرفة الطبيعة السياسية للأشياء ولمعرفة النظام السياسي الفاضل”(27). وعلى هذا الأساس، “فإن مبرر وجود الفلسفة السياسية هو أن الظواهر السياسية لها من الأهمية والتميز الخاص ما يبرر أن تهتم بها الفلسفة اهتماما خاصا من خلال فرع متميز من فروعها هو الفلسفة السياسية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن مبرر قيام الفلسفة السياسية هو البرهنة على أهمية الفلسفة، وما يمكن أن تسهم به في مجال هام هو الحياة السياسية حسب شتراوس”(28). 
ثمّة خط واضح يرسمه شتراوس للفصل ما بين الفلسفة السياسية الكلاسيكية التي ازدهرت بصورة أو بأخرى إبّان العصور الوسطى وبين الفلسفة السياسية الحديثة، وهو في الوقت ذاته يقسّم الفلسفة السياسية الحديثة إلى ثلاث موجات، حيث تبدأ الموجة الأولى، “بأعمال ميكيافيللي الذي يعده شتراوس مؤسسا للحداثة، وتستمر هذه الموجة إلى القرن الثامن عشر حيث تواجه للمرة الأولى أزمتها التي نبعت من خلال الانتقادات التي وجهها “جان جاك روسو” إلى نظريات “هوبز”، و”لوك”، ومن ثمّة تبدأ الموجة الثانية التي تمثلت ذروتها في الفكر السياسي الذي طرحه كانط وهيجل، وتستمر هذه  الموجة لتواجه بدورها أزمتها من خلال أوجه النقد التي وجهها نيتشه إلى الميثالية الألمانية وهكذا تبدأ الموجة الثالثة التي ما تزال قائمة إلى أيامنا هذه”(29). 
من المعلوم أن عصر النهضة لا يمكننا أن نفهمه إلا إذا موضعناه ضمن الإطار العام لظروف تلك الفترة، “ففي أثناء القرنيين (15م-16م) حصلت ثلاثة أنواع من الأحداث الجسام التي أدّت إلى قلب الحياة الأوروبية في العمق. كما أدّت إلى خلق فكر جديد أو رؤية جديدة للعالم. أّوّل هذه الأحداث الجسام، الاكتشافات البحرية والجغرافية الكبرى التي قام بها الإسبان والبرتغاليون والتي أدّت إلى ازدهار الحياة الاقتصادية في أوربا، وثانيهما: تطور النزعة الإنسانية. هيومانيزم: “Humanism” وانتشارها في مختلف أنحاء أوروبا بفضل اختراع آلة الطباعة، وثالتهما: الإصلاح الديني الذي كان الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر من دون أن يعرفوا كيف سيحصل”(30).
وبصرف النظر عن النقاش الدائر حول التأريخ لعصر النهضة، فإننا نطمح من خلال هذه الدراسة إلى تبيّن دور الفلسفة السياسية في إحداث خلخلة معينة حيال المسألة الدينية السياسية.
________________

هوامش:

1  جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط 2 ص 163.
2  عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، لبنان،  بيروت، ط1، 2016م ص 77.
3 المرجع نفسه، ص81.
4 “بوجوان”، “جونو”، “تاريخ الفلسفة والعلم في أوربا الوسيطية”، ترجمة علي زيعور، وعلي مقلد، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1993م ص 167-168.
5 “ورث”، “تشارلز”، الامبراطورية الرومانية، ترجمة رمزي عبده جرجس، مراجعة محمد صقر خفاجة، وزارة الثقافة، القاهرة، 2003م ص 164.
6 نفس المرجع، ص165.
7 نفس المرجع، 166.
8   مرجع سابق، عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها ص 85.
9  مرجع سابق، “ورث”، “تشارلز”، الامبراطورية الرومانية ص 162 .
10   مرجع سابق، عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها، ص 89 .
11 المرجع نفسه، ص91. 
12 “محمد عابد الجابري”، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1996م ص 94
13 مرجع سابق، عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها ص 96.
14 المرجع نفسه، ص97.
15 مرجع سابق، عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها ص 131. 
16 كازانوفا، خوسيه، الأديان العامة في العالم الحديث، ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1، 2005م ص 30 .
17 مرجع سابق، عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها ص 134
18 نفس المرجع،135.
19 المرجع نفسه، ص 244-245.
20 المرجع نفسه، 246.
21 جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة الصياغة، ترجمة حيدر إسماعيل ، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت، ط 1، 2009م ص 85.
22 مرجع سابق، جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة الصياغة، ترجمة حيدر إسماعيل ص 86.
23 المرجع نفسه، ص 87-88.
24 المرجع نفسه، ص88.
25 المرجع نفسه، ص 89.
26 المرجع نفسه، ص 90.
27 ديك رسبني، “أنطوني”، ومينوج، “كينيث، أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، تر، نصار عبد الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م ص 60-61 .
28 المرجع نفسه، ص 63.
29 المرجع نفسه، ص 67-68 .
30 صالح، هشام، مدخل للتنوير الأوربي، دار الطليعة، بيروت ط 1، 2005م، ص 69 .

______________________________________

بيبليوغرافيا 

– جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، ط 2 
– عبد الرحيم العلام، العلمانية والدولة المدنية، تواريخ الفكرة سياقاتها وتطبيقاتها، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، لبنان،  بيروت، ط1، 2016م
 – بوجوان، “جونو”، “تاريخ الفلسفة والعلم في أوربا الوسيطية”، ترجمة علي زيعور، وعلي مقلد، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1993م
– “ورث”، “تشارلز”، الامبراطورية الرومانية، ترجمة رمزي عبده جرجس، مراجعة محمد صقر خفاجة، وزارة الثقافة، القاهرة، 2003م 
– “محمد عابد الجابري”، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1996م 
– كازانوفا، خوسيه، الأديان العامة في العالم الحديث، ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1، 2005م 
– جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة الصياغة، ترجمة حيدر إسماعيل، مراجعة ربيع شلهوب، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت، ط 1، 2009م 
– ديك رسبني، “أنطوني”، ومينوج، “كينيث، أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، تر، نصار عبد الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م 
– صالح، هشام، مدخل للتنوير الأوربي، دار الطليعة، بيروت ط 1، 2005م

بقلم: جيهان نجيب
كاتبة وأستاذة باحثة

Related posts

Top