جسور الحلم في القصة القصيرة بين الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس والقاص المغربي حسن البقالي

منح الإنسان العادي الحلم ومنح الأنبياء الرؤيا، ومنح المؤلفون السرد، فظهر علم التفسير الذي يفسر الأحلام( ابن سيرين، النابلسي..)، وعلم التأويل الذي يعبر الرؤى (يوسف..)، وعلم النفس الذي يفسر الأحلام (فرويد..)، ثم علم السرد الذي يمزج بين الحلم والقصة والرؤيا، إن الحلم والسرد يتحرران من الحقيقة بخلاف الرؤيا التي تصدق، والحلم هو بعد خامس زئبقي كما الأدب بخيالاته النزقة.
إن خصائص كثيرة مثيرة للانتباه في مجموعة حسن البقالي وفي كتابته بشكل عام، يجسدها ذلك الحضور الباهر للتناص مع بورخيس وتقنياته الرؤيوية من حلم ومتاهية وكتابة ليلية مرآوية مكتبية ولا نهائية كونية، كتابة تقود لاحتمالات تزاوج بين العلم والأدب والفلسفة؛ حيث تزول الحدود الوهمية بين الأدب والتخصصات؛ وذلك ما يضمن لهذه المجموعة التباسها الرائع.
من هنا تنهض القصة القصيرة عند حسن البقالي على خصيصة من خصائص بورخيس وهي الحلم؛ تلك الانفلاتة الليلية التي تجعل البقالي في مجموعته المائزة يطل من نافذة ليل الحكاية ويمتد في الحلم المتعثر في متاهة الليل مرتديا جبة الرائي الكوني بورخيس، يكتب أحد عشرا نصا قصصيا مثل يوسف الذي رأى أحد عشر كوكبا والتأويل للقارئ.

شاعرية الحلم في المجموعة

حين قال بورخيس: “إننا كائنات بسيطة من ابتكار الأحلام” وقبله شكسبير “الإنسان مكون من مادة الأحلام ذاتها” فإنما يعرفان أن الحلم واليقظة شيء واحد وأن الحياة مجرد حلم، لكن التمييز الشاعري والسردي قاد غاستون باشلار إلى التفريق بين الحلم الحقيقي وأحلام اليقظة معتبرا أن الأخيرة تتميز صورها بالشاعرية القصوى، وقد أتاح ذلك لنا أن نعتبر القصة متخيل تأملات شبيهة بأحلام اليقظة، “لأن المخيلة قادرة على أن تجعلنا نخلق ما نرى”، من هنا تبدو عوالم المجموعة متلبسة بقصص بورخيس الحلمية المتاهية، إن السارد في “جبة بورخيس” يعتمد الحلم بشكليه في النوم واليقظة، أحلام قصصية كاوسية تحتوي البصيرة صارت تقنية للتكنو قاص وهي ليست الحلم ذاته على الرغم من تشابههما في عنصر التكثيف كما يعبر عن ذلك حميد لحمداني في مماثلة القصة للحلم.أو “ما كتبه أحمد بوزفور في إحدى رسائله إلى قاص ناشئ عن كيفية المزاوجة بين القصة والحلم دون السقوط في المطابقة المطلقة بينهما، منتصرا للقصة، معتبرا الحلم جزءا من القصة”، هذا الحلم الذي يمنح الكاتب فضاء أوسع للتعبير ويغدو نسقا مرجعيا للتخييل القصصي”.
تنبني قصص جبة بورخيس على تيمة الحلم ليشكل الكاتب نصوصا قصصية ذات طابع متشظ تنهل مرجعياتها من نظرية الفوضى والأدب الاحتمالي الذي تبنته جماعة الأوليبو، “لأن الحلم يتبنين وفق غياب الروابط المنطقية، ما يجعله صورا متشظية ومتفككة وغير قابلة للفهم”.
من هنا فالتداخل بين الحلم والتأويل أصيل في كتابة حسن البقالي أليس ارتداء جبة بورخيس وصعود شرفة ابن رشد تتمة لنصوص بورخيس الحلمية، نصوص تنبع من ليل “ألف ليلة وليلة”، بعدها نصوص بورخيس ( كتاب الرمل، بحث ابن رشد… ) وكيليطو (أنبئوني بالرؤيا، من شرفة ابن رشد…) وباولو كويلو(الخيميائي، الظاهر…) وغيرهم.
إن نصوص حسن البقالي بما هي أحلام ورؤى وجب أن يعبرها القارئ “ذلك أن الحلم الأدبي نسيج فني بخلفية فكرية” ، كما يجب الكشف عن خلفية التناصات الحلمية خاصة في قصة شرفة ابن رشد التي تكررت عند بورخيس وكيليطو وحسن البقالي.
في تقاطع الحلم بين بورخيس والبقالي وارتداء جبة الحالمين

حلم الطفولة

يقر محمد برادة أن معيار تقويم القصة القصيرة غدا مختلفا عن شرط الواقعية، ذلك أنها “تمتح من سماوات التصوف والحلم”، وهذا المتخيل الطفولي الحلمي يبدو حاضرا بقوة- في المجموعة من خلال قصة “الأطفال”، ص7- إذ يعبر السارد عن ذلك ب: رأيناه ص 7 و9 ، حيث خمسة كتاب يتحولون إلى خمسة أطفال في حلم اليقظة، يحلم الكتاب بالتيه الطفولي والعودة إلى جماليات الطفولة وأحلام اليقظة يقول باشلار: ” كيف لا نشعر أن هناك اتصالا بين وحدة الحلم ووحدة الطفولة؟”، إن الخمسة يحلمون حلم يقظة شارد، طفولة تسكنهم وتعبر عن ذلك الطفل الذي يسكنهم بدائيا، ألم يتخيل كازانتاكيس شخصية زوربا طفلا مرحا بدائيا يعبر عن نزعة الإنسان الحالمة للطفولة والذكريات الشاردة، الأمر يتقاطع مع بورخيس في قصة الآخر، حيث حلم اليقظة الذي رآى من خلاله بورخيس السبعيني حقيقة طفولته وأحلامه التي تحققت سالفا، فيما الشاب بورخيس الآخر يحلم فقط، ما يعني أننا أمام حالة من التأملات الشاردة حول الذات وأن بورخيس السبعيني هو حلم الشاب العشريني سابقا، وأن السرد باب مشرع لذلك الحلم الممكن المتحقق عبر القصة. هذا الأمر يتجسد في قصة نمور الحلم، حيث الطفل بورخيس تتقد ذاكرته بعبادة النمر عسى أن تنجب الأحلام نمرا.

تناسخ الكتابة

تتكشف القصة الثانية المعنونة ب”بحال بوزفور” ص11- 17 حيث يجد السارد حسن بقالي قلما ويكتب به قصة، لكنه يستيقظ فيجد مكانها قصة مغايرة، يطرح سؤالا عن نفسه: ” هل كنت مسرنما؟ ” لم يهتد لتفسير محدد، ليتأكد أن القلم ليس قلمه، بل تسلل إليه من القاص أحمد بوزفور الذي كان قد كتب قصة سابقة عن زهرة برية، فلما جاء دور البقالي ألقى القصة نفسها، مندهشا والحاضرين من التناسخ الحاصل بين القصتين مع ابتسامة هادئة من بوزفور، إنها جبة بورخيص والتناسخ واقتحام الحلم، وتضاعف عملية الكتابة كما الإشارة إلى قضية الانتحال والتناص والتخاطر وغياب أصل النص مع انتسابه إلى المتاهة اللانهائية والتكرار، يقول عبد السلام بنعبد العالي :” الكتابة مجال تناسخات لا تنقطع”، على هدي بورخيص في تناسخ الحيوات والكتابة والعود الأبدي في مجموعة من القصص منها الألف و مكتبة بابل.

لا نهائية الحلم

في قصة عوالم متعددة ص 25، ينتقل بنا البقالي إلى اختبار القصة القصيرة على تحمل العلم، ومسارات الاحتمالات الخمسة، حيث نظرية الفيزياء بأبعادها الخمسة، الطول والارتفاع والعرض والزمن والخيال، قصة رجل الاستخبارات الذي يريد اغتيال عالم هندي اسمه راجيف شانكار، لكن البعد الثاني يراهن على قلب الحدث في مكان خلف الكون حيث يحمل العالم الهندي مسدسا على رجل الاستخبارات وتنقلب الصورة، وفي عالم ثالث لا ندريه ربما كانا مزارعين حسب تخيل رجل الأمن، وفي عالم رابع تتدخل امرأة من دولة معادية لتقتل رجل الاستخبارات قبل أن ينفذ عمليته، أما البعد الخامس وهو الحلم والخيال تصبح فيه امرأة الاستخبارات زوجة العالم وتؤسس حانة العوالم المتعددة، كل هذا يحدث فقط حين إغماض العالم عينيه مستسلما لوقع الحلم الشارد حين يتوقف الزمن في البعد الخامس( الأحلام الشاعرية)، إن الحلم ” لا يكذب ويكشف الشخصية العميقة واللغة الحقيقية للشخص”، ذلك أن الحقيقة هي البعد الخامس الذي يسكننا ونملكه “إذ التلازم بين الحلم وعالمه قوي”؛ ما يجعل الزمن متوقفا حسب باشلار” يتوقف الزمن، لم يعد له بارحة ولا غد، ابتلع الزمن في العمق المزدوج للحالم والعالم”، إن حانة العوالم هي الحقيقة الأخيرة التي استقر عليها البطل والتي تؤسس للتنوير القصصي الذي يقفل به السارد قصته.
هذه العوالم نجدها عند خورخي بورخيس في قصة “القرص” حيث الهندسة الرياضية، القرص الذي له وجه واحد، إنها عوالم الرياضيات واحتمالات اللانهائية، كما تتجسد هذه العوالم الفيزيائية الرياضية في قصة “كتابة الإله” حيث عوالم الزمن ومتاهاته إضافة إلى الحلم داخل الحلم كما سنبين لاحقا في قصة أخرى وهي الآخر، في ‘كتابة الإله’ تزيناكان الساحر يحلم في السجن أن الخالق كتب يوم خلق الكون جملة سحرية لها مفعول محو الشر في الأرض، يحاول أن يحلم مدة شهر ويتذكر النمر الذي له صفة من صفات الخالق، لكنه لا ينقذ العالم من شر ما، إذ لم يعد يتذكر وجهه، لقد رأى الكون وعوالمه من عيون الإله، هذه العوالم الحلمية واللانهائية تحضر في قصة “حلم “، حيث يكتب شاعر في السجن قصيدة عن إنسان يحلم بكتابة قصيدة عن إنسان آخر يكتب قصيدة إلى ما لا نهاية لهذا المسار من السجناء، هذه العوالم تحضر كذلك في قصة “مكتبة بابل” حيث الاحتمالات اللانهائية للعوالم الرياضية، والمكتبة كون من الاحتمالات الطول والعرض والارتفاع والسداسية واليمين واليسار والأرقام المختلفة والرموز المتعددة، إنها مكتبة كلية من خمسة وعشرين رمزا فقط منظمة هندسيا ولا متناهية في الدائرية.

الحلم المزدوج و الحلم داخل حلم

في قصة جبة بورخيس مناط سرد هذه المجموعة التي وُسمت على هذه القصة فإن حسن البقالي يقتفي أثر حلم القط الوريث من عجوز شقة وأموالا ويدخل حلم القط، يحلم السارد أنه تقمص روح ذلك القط وأنه يقطن تلك الشقة ويأتي رجل غريب بقطة اسمها ” ماريا قداما” ( اسم زوجة بورخيس)، بورخيس الذي يحتضر ويموت في 1986 من دون بهرجة وحيث يخطف الأنظار مارادونا؛ ما جعل السارد يريد أن يصير بورخيس، لكنه لم يستطع أن يلبس لباسه الفكري أو يكونه إلا في الحلم، حيث حاول محاكاته في إنشاء المكتبة الكونية التي أشرنا إليها سابقا، فلم يستطع إلا في الافتراض؛ أسس السارد مكتبة متاهية كونية في الأنترنيت، تضمن له البصيرة والعمى في آن، لكن خوف السارد من المرآة جعله يحطمها حين قرأتْ عليه أمه كتاب الرمل مثل بورخيس الذي حطم المرايا.
في الحلم الذي رآه السارد يحس من داخل القط أن السيد الذي دخل الشقة يريد ارتكاب جريمة ما، لكنه يجد القطة نائمة ويأخذه الحلم إليها متسائلا: “من منا يحلم بالآخر؟” .
هذه الدمغة الحلمية تحضر عند بورخيس في قصة الآخر التي سبقت الإشارة إليها حيث قال بورخيس: ” كان اللقاء حقيقيا، أما الآخر فكان يحلم … أما أنا فقد تحدثت معه في اليقظة”، هذا الحلم المزدوج الذي يحيل على حكاية التاجر المحلوم بكنزه من القاضي وكذا التاجر الذي حلم بكنز فأتى بلادا بعيدة وذلك في الليلة الثالثة وواحد وخمسين بعد المائة من ألف ليلة وليلة التي تحكيها شهرزاد لشهريار في النسخة غير العربية، هذا الحلم الذي كتب عنه بورخيس قصة ” حكاية حالمَيْن” مذيلا ذلك أنها اقتباس من الليلة351، حلم استغله باولو كويلو وصنع منه روايته “الخيميائي”، لكن بورخيس طبعا لا يعيد ذلك فقد ابتكر أحلاما رهيبة مثل كوابيس النار، الحلم داخل الحلم أو متاهة الحلم في قصة ” الخرائب الدائرية” حكاية الساحر الهندي الذي يحلم برجل كامل هو ولده ناجحا في نقل حلمه للواقع، حيث سيحرر هذا الابن من معبد النار، لكن نهاية القصة جاءت مفاجئة حيث إن الكاهن نفسه مجرد حلم عند شخص آخر، الأمر نفسه في قصة ” المعجزة السرية” ، حيث هبة الحلم تمنح لجارومير هلاديك، الذي حُكم عليه بالإعدام لكنه كان بصدد إنهاء مسرحيته فترجى من الله أن يهبه سنة كاملة لإنهائها قبل إعدامه، فكان له ذلك في الحلم حين بحث عن الله ووجده في مكتبة، لقد منحه حلما قبل إطلاق الرصاص حيث جمد الكون أمام ناظريه إلا من نحلة كانت ترسل إشارات إلهية ومنح رؤيا ضيقة زمنيا لكنها تساوي سنة من الذاكرة حيث أكمل فيها مسرحيته قبل إطلاق الرصاصة.

ابن رشد مدار حلم ثلاثي

في قصة أخرى من قصص حسن البقالي يطالعنا بعنوان لنص مغر معنون ب ” جاذبية ابن رشد”، يقيم السارد في فندق بأصيلة يحمل عنوان ابن رشد، وتطلب منه امرأة أن يبلغ السلام لابن رشد خارج الفندق، إلى ذلك فقد التقى السارد طفلا في الخارج فعرف أنه ابن رشد ذو الروح الخالدة، ظل هذا يحدث فقط في الحلم يقول السارد:” هل كنت نائما حين رأيت ما رأيت؟”، يحلم السارد قبل نومه بمحرقة كتب ابن رشد، لكن ما حدث له حقيقة حين استفاق أنه تعرض للسرقة من المرأة وابنها ورآهما من الشرفة يهربان وقد تركا له رسالة كتب عليها ” كيف لشعوب تهتم بالغزالي أن تعرف ابن رشد؟”.
يتجسد الحلم عابرا تقاطعا بين بورخيس وعبد الفتاح كيليطو وحسن البقالي؛ عنوانه ابن رشد، كان بورخيس قد كتب نصا باذخا بعنوان ” بحث ابن رشد” حيث يبحث عن ابن رشد وعن طريقته في الترجمة، ليورد أنه لم يكن عارفا باللغة الإغريقية ولم يكن يعرف للمسرح طريقا؛ ما جعله يرتبك في ترجمة الكوميديا والتراجيديا وبدا له أن المدح والهجاء هما المعنيان المناسبان لهما، لكنه عتم على العرب والمسلمين ذلك فظل خيط المعرفة مجهولا عن هذين النوعين من المسرح، ليختم بورخيس نصه باختفاء ابن رشد ومنزله ومخطوطاته، ذلك أنه مجرد حلم وخيال من بورخيس الذي يعترف أنه لا يعرف هو الآخر لغة ابن رشد العربية التي يكتب بها، وأنه حالة منه إلا ما لا نهاية.
إن جاذبية ابن رشد في قصة حسن البقالي جعلت بورخيس من قبل ينجذب إليه وبعده كيليطو الذي دافع عن ابن رشد في مقال معنون ب” بورخيس وابن رشد”، حيث يعتقد أن ابن رشد لم يكن سيء الفهم وأن نص بورخيس فيه لبس ما.
في مقام آخر ينجذب كيليطو إلى ابن رشد ويكتب نصا باهرا عنوانه ” من شرفة ابن رشد” يتقاطع فيه الحلم بالواقع، حيث ينطلق السرد من حلم أشبه بمتاهة يرى فيه ابن رشد ومترجمه ( ع.ك) المترجم الآخر الذي لا تتناسب ترجمته مع الكاتب الحقيقي كيليطو، ف( ع.ك) يتهم كيليطو بأنه لا يحب العربية، ما يجعله يفكر في تلك الجملة التي سمعها في الحلم ( لغتنا الأعجمية) وينسبها لابن رشد، فيتساءل ما اللغة التي يحلم بها مزدوج اللغة، فيثير قضية الترجمة والكلام على الكلام ، وأخيرا يجد أن الجملة لابن منظور.
ابن رشد إذن مدار حلم متاهي ثلاثي، تارة عند بورخيس وتارة عند كيليطو وأخيرا عند حسن البقالي، إنه حلم كوني أن يكون الإنسان مثل ابن رشد الذي كان ضليعا في الفلسفة والترجمة، هو ابن رشد تقاطع الثقافة العربية الإسلامية مع أوروبا، إنه الحلم وجسر العبور والتواصل بين كتاب كثر.
الحلم والمتاهة

يستمر الحلم في لعبته التمويهية على شكل متاهة في قصة “Pacman” حيث يسقط الرجل “إواتاني” وهو يقاتل أعداءه داخل متاهة من الأشجار والشعاب، تارة مدافعا، تارة فوق الجثث إلى أن يحاصر بصدر عار مستعدا للموت بشرف، قبل أن تغلق المتاهة عليه وهو الذي لم يكن من عدو له إلا نفسه.
هي لعبة حلم ويقظة، يلعبها الشاب ويتماهى مع المتاهة، لتغلق اللعبة وينتهي الحلم بالصحو، لا أعداء ولا قتال، إلا من خلال التمويه الحلمي.
الإشارة إلى المتاهة وردت كثيرا عند بورخيس وليس في جبة حسن البقالي إلا بورخيس وحده يتربع على عرش النصوص الحلمية، في قصة الملكان والمتاهتان يصنع ملك بابل متاهة ويُدْخِل إليها الملك العربي الذي يبادله بمتاهة أخرى عبارة عن صحراء قاحلة يموت بها ملك بابل، في السياق نفسه يشير بورخيس في قصة ابن حقان البخاري إلى المتاهة الحلمية التي كونها الوزير زيد الذي أراد أن يحاكي الملك ابن حقان البخاري فصاره وحاكاه وقتله، وهي متاهة بنيت قصد الاحتماء من طيف الوزير المقتول زيد، لكن في الحلم فقط. في قصة أخرى لبورخيس معنونة ب ” طولون أكبر أبيس ترتيوس” حيث سيتم صنع متاهة كونية لكوكب فاضل من طرف علماء وخيميائيين ومهندسين وأطباء، أصل هذه المعرفة غنوصية تؤمن فقط بعلم النفس والمؤلف المجهول، لذا بقيت متاهة حلمية في الكتب فقط، هذه المتاهة تحضر في قصة “حديقة السبل المتشعبة” حيث صنع متاهة مصغرة حلمية عبارة عن رواية غير مكتملة وهي إشارة إلى حديقة كونية متشعبة تشبه تعقد نظام الكون.

الحلم والميكروكوزم

في قصة” قصيرة جدا ومكتنزة” يبدو التناص الحلمي واضحا جدا، بالنظر للكثافة التي يمر منها الحلم وضيق الزمن، حيث يبدع السارد في توصيف القصة بالقزمة وأصل الخلق كإنسان الإندروجين الأسطوري، كذلك في قصة الديناصور حيث صنع نظرية للقصة القصيرة جدا على غرار نظرية نيوتن التي تريد أن تحتوي الكون كاملا في الصغر والكبر، كان رهان حسن البقالي من خلال شاب ناقد اسمه أحمد البحيري الذي حاول أن يجد نظرية أدبية تفسر الأعمال الأدبية من صغرها إلى كبرها، لكنه اصطدم بديناصور الوسط الأكاديمي الرافض للجديد، وذاك ما ويتجسد في قصص كثيرة لبورخيس الذي حاول أن ينبه إلى أن “الميكروكوزم هو المكان أو الشيء حيث تتواجد كل أماكن الكون بدون أن تختلط والتي يمكن رؤيتها من كل الزوايا الممكنة” إنه المتناهي في الصغر الذي ننظر منه إلى الكون الأكبر ولاشك أن ذلك لا يحدث إلا في الحلم، خاصة، حلم اليقظة الذي يحدث للمتصوفة؛ ما تحدث عنه ابن عربي ناعتا إياه بالبياض أو الفراغ عند النفري أو الوقفة الصامتة أو الانخطاف أو المطلق حيث مقام المجاورة المطلقة في الزمان والمكان للخالق، يتجسد ذلك عند بورخيس في قصة “القرص” قرص أودن له وجه واحد فقط مشع بحوزة متشرد كان ملكا، إنه يملك المطلق، كذلك قصة الألف، تلك النقطة المضيئة بدرج سفلي التي يمكن أن تكون مكانا لرؤية الكون من كل الاتجاهات، كذلك في قصة مرآة الحبر، النقطة التي يرى فيها الإنسان الكون والمستقبل حيث رأى الطاغية مشهد إعدامه، كذلك في قصة مخطوطة الرب التي يرى منها ذلك الكاهن الكون كله من خلال جلد النمر المرقط، وكذلك قصة المرآة والقناع حيث تلك القصيدة المطلقة التي لا يمكن أن توجد أبدا وإلا معناها الانخطاف للموت، تلك الرؤيا المستحيلة التي يمكن أن تجسد نظرية كل شيء. من الكوانتم إلى الفلك، تلك التي دافع عنها ستيفن هوكينغ في كتابه عن أصل الكون ومصيره، الأمر كذلك في قصة الظاهر، العملة النقدية التي يرى منها بورخيس الكون، تلك التي أصابته بالهوس في حلمه ويقظته، وربما وراءها يوجد الخالق حسب المتصوفة، الأمر نفسه في قصة “ذاكرة فونس”، عن ذلك الرجل فونس الذي يملك ذاكرة كونية بعد تعرضه لحادث سقوطه من فوق الحصان وإصابته بالشلل إذ صار باستطاعته أن يسرد كل الأحلام والذكريات، يتكرر الحلم في قصة “راغنا روك” عن حلم تراءى لبورخيس بعودة الألهة الإغريقية المزيفة والتمكن من مواجهتها في الحلم، كأن الحلم هبة المطلق.
لعل الحلم يكون هو النقطة التي يمكن أن نرى فيها الكون مصغرا، إنه نافذة على الرؤيا من فوق، و من كل الجوانب، لكن من باستطاعته ذلك؟

الحلم بالقارئ

في قصة “القارئ” ص 63 – 64 التي يستدرج فيها البقالي قرويا إلى غابة مضنية، يكتشف أخيرا أنها غابة سردية ليغلق دفتي الغلاف على القارئ تاركا إياه لسجنه، كان ذلك حلم البقالي النهائي الذي أنهى به مجموعته القصصية؛ حلم تكبيل القارئ في شعاب بورخيس، هذا الذي صنع متاهات عديدة لقرائه تارة غابات ومكتبات وحدائق وكتبا، تارة مسافرا مقتبسا وتارة مخترعا. الحلم بقارئ يجعل البقالي قارئا لبورخيس قارئ للثقافة العربية، ليظل خيط الحلم مترابطا بشيء اسمه الكونية.
`
على سبيل الختم

هو الحلم إذن الذي أرساه شوانغ سو حين رأى أنه تحول إلى فراشة، مع ما لها من معنى صوفي كوني، يتخلق في السرد عند بورخيس حلما وكونا مصغرا، فراشة ضوء يهتدي بنورها حسن البقالي ليرتدي عباءة الرائي الكوني الذي ينظر إلى الحلم بروحه منذهلا بحكاية الحالمَيْن، معتبرا الحياة حلما بسيطا نحلمها داخل حلم آخر.
كان حسن البقالي واعيا بمسألة الحلم وارتداء جبة الحالم الأكبر بورخيس الذي يرتدي عباءة الحالمين الصوفيين والكونيين، جبة اختار ارتداءها دون أن يكشف ذلك للقارئ في قصصه القبلية ( هو الذي رأى، قط شرودنجر، مثل فيل يبدو عن بعد، قتل القط، الإقامة في العلبة…) إنه هنا في جبة بورخيس يعلن ولاءه لأب القصة الحالمة، وهي دعوة لإحياء القصة الكونية.
الهوامش والإحالات

> إنجاز: محمد العمراني

Related posts

Top