جميل راتب.. رحيل ممثل من الطراز الرفيع

عندما سألته إعلامية مصرية في برنامج حواري كانت تقدمه على قناة “الحياة” قبل عام وتحديداً في ماي العام 2017 عن الموت قال إنه يعني “الخلاص من المرض والمشاكل الصحية، وكبر السن”.
ما قاله راتب تحقق في أقل من 5 أشهر، حينما كان يعاني أمراض الشيخوخة وفقدان صوته، أهم هذه الاختبارات، وعبثا حاول استعادة صوته رأسماله في الحياة بعد محاولات مع الأطباء في مصر، لكن مع الأسف كان كلام الأطباء في فرنسا التي لجأ إليها متشابها مع أطباء بلده مصر.

عندما يرد اسم جميل راتب يتبادر إلى الذهن أنه ليس مصرياً خالصاً، فهناك من قال عنه إنه مسلم وآخر قال إنه مسيحي، كما أن والدته ليست مصرية، لكنه حسم كل ذلك في لقاءات تلفزيونية وخلال تكريمات عدة أقيمت له بتأكيد أن والده مصري مسلم ووالدته مصرية صعيدية ابنة أخ الناشطة المصرية هدى شعراوي وليس كما يشاع انه من أم فرنسية.
أتقن الراحل اللغة الفرنسية لدراسته لها في مصر، حصل على الباكالوريا وعمره 19 عاماً، ثم دخل مدرسة الحقوق الفرنسية وبعد السنة الأولى سافر إلى باريس لإكمال دراسته، وفي عام 1974 عاد إلى القاهرة لأسباب عائلية.
كان راتب ممثلاً من الطراز الرفيع، هذا ما أكدته بداياته مع التمثيل، حتى في مرحلة الهواية، فقد حصل في بداية الأربعينات على جائزة “الممثل الأول” على مستوى المدارس المصرية والأجنبية في مصر، وهو ما ينفي شائعة أن راتب بدأ فنياً في فرنسا، حيث شارك العام 1956 في بطولة الفيلم المصري “أنا الشرق” الذي قامت ببطولته الممثلة الفرنسية كلود جودار مع نخبة من نجوم السينما المصرية في ذلك الوقت منهم جورج أبيض، حسين رياض، توفيق الدقن، سعد أردش، حيث كان هذا الفيلم بدايته الحقيقية مع الفن. فسافر إلى باريس وبدأ رحلة الاحتراف الفنية، وكان فيلم “أنا الشرق” سبباً في تركيز الأضواء عليه. ثم سافر إلى باريس مرة أخرى لدراسة المسرح وعاد للاستقرار فنياً في مصر، فأصبح مطلباً مهماً لكل مخرجي مصر، واستمر في التألق سواء في السينما المصرية أو العالمية، مثل “لورانس العرب”، “ارتكاب جريمة قتل”، “ترابيز”، “الأمس”، “رئيس الترك”، “النجم الشمالي”، و”ذعر في بانكوك”.
ولا يمكن أن تنسى أدواره في مسلسلات مصرية مثل “فارس بلا جواد”، “الكعبة المشرفة”، “أحلام الفتى الطائر”، “ضمير أبلة حكمت”، “الراية البيضاء والسبنسة”، “يوميات ونيس” بأجزائه، “رحلة المليون”، “سنبل بعد المليون”، وأفلام: “الوداع يا بونابرت”، “طيور الظلام”، “ليلة البيبي دول”، “حب في الزنزانة”، “البريء والصعود إلى الهاوية” (الذي حصل من خلاله على عديد من الجوائز), “من نظرة عين”، “رحلة حب”، “جمال عبدالناصر” (الذي جسد من خلاله شخصية محمد نجيب)، “عفاريت الأسفلت”، “شفيقة ومتولي”، “البلدوزر”، “سيدة القاهرة”، “الدرجة الثالثة”، “الانتفاضة”، “قاهر الزمن”، “نوارة والوحش”، “البداية”، “الأقزام قادمون”، “أحضان الخوف”، “علي بيه مظهر”، “الكيف”، “وحوش المينا”، “كيدهم عظيم”، “العرافة”، “ولا عزاء للسيدات”، “خائفة من شيء ما”، “كفاني يا قلب”، “الأستاذ والهلفوت”.
لم يكتف الراحل بالتمثيل، فخاض تجربة الإخراج المسرحي وقدم مسرحيات مثل “الأستاذ” من كتابة سعد الدين وهبة، ومسرحية “زيارة السيدة العجوز” والتي اشترك في إنتاجها مع الممثل محمد صبحي ومسرحية “شهرزاد” من كتابة توفيق الحكيم.
تزوج من فتاة فرنسية كانت تعمل بالتمثيل الذي اعتزلته بعد ذلك وتفرغت للعمل كمديرة إنتاج ثم منتجة منفذة ثم مديرة مسرح الشانزليزيه، إلا أنها تعيش في باريس.
كان مشروع الإنجاب مع زوجته مؤجلا لخلاف على ديانة الأولاد، حيث كانت تفضل زوجته أن يكونوا مسيحيين، في حين رفض هو ذلك وقرر التفرغ للفن عقب انتهاء هذه العلاقة.
وتقول ذاكرة السينما المصرية إن الفنان الراحل اشترك في 3 أفلام جاءت في قائمة أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية حسب استفتاء النقاد عام 1996 وهي: على من نطلق الرصاص 1975، الصعود للهاوية 1978، البريء 1986.
من المواقف الطريفة في حياة الفنان الراحل أن لكنته الغريبة في السبعينيات، حرمته من أداء أهم الأدوار المرتبطة في وجدان الجمهور المصري، وهو شخصية خالد صفوان بفيلم “الكرنك”، وأدى الشخصية بدلا منه الفنان الراحل كمال الشناوي.
بدأ جميل راتب مرحلة الاستقرار الفني في مصر بعد 15 عاماً قضاها ما بين باريس ودول عدة، حيث كانت فترة السبعينات سببا في تأكيد هويته المصرية بأفلام شهدت تألقه ونبوغه، وتنوعت أعماله ما بين سينما ومسرح وتليفزيون حتى بلغت نحو 174 عملا، ما بين مصري وأجنبي، كان آخرها مشاركته في مسلسل “بالحجم العائلي” الذي عرض في رمضان الماضي.
وهناك فيلم مصري شارك فيه الراحل ولم يتم عرضه هو “جريمة الإيموبيليا”، من إخراج خالد الحجر، كما شارك كضيف شرف في فيلم فرنسي هو “الأمس” إنتاج 2018.
لا ينسى الجمهور العربي دوره الصوتي في فيلم عمر المختار، عندما استعان به المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد للأداء الصوتي للضابط الإيطالي توميللي حيث برع فيه، وربط كثيرون بين ملامحه الصوتية وأدائه شخصية الشرير في عديد من الأفلام المصرية.
شارك راتب في عدد من الأفلام التونسية، لكن هناك انتقادات تم توجيهها إليه بسبب بعض المشاهد الجنسية التي اعتبرت أنها لم تكن بمعزل عن سياقها الدرامي، والشخصيات التي كان يجسدها.
رحل جميل راتب بعدما أمضى 92 عاماً، كلها اجتهاد ومثابرة، حتى وصل إلي العالمية مستعيناً بقدراته التمثيلية ولغاته الأجنبية التي يجيدها بطلاقة فاستحق أن يكون حبيب الملايين في كل أنحاء العالم، فقد جاب ربوع الاستوديوات شرقا وغربا، وقدم أدواراً في أفلام أميركية وفرنسية وتونسية ومصرية، فاستحق أن يكون أحد الفنانين الذين لن يجود الزمان بمثلهم.

Related posts

Top