حدس الصمت

من يأخذ مني الحنين على مهل، حين تنام الليالي على زند الحلم، لأنادي في الفراغ على أمنية تراءت للروح خلف الستار، علني أسترجع الذكرى، وأرتشف ما تبقى من الليل، فأحيك له أساور من النجوم، وألبسها معصمه، أو ربما  أحاور السهر وأبحث فيه عن ملامحي الهاربة الشاردة بالشغف، والرقص الغجري ..!

ليس رقصا هو، بل عرس نبضي خلف أشعة الروح، يبعث بداخلي مع الوقت خيوط الأمل، فتبتسم تلك الماكرة، وتتمتم حتما العابرة ستأتي.

فقط خطوات قليلة تفصلني عني، وأي صدفة عاتية تلك التي تدك روحي فتتألم ….

ليبقى الألم طفلا يتيمًا، يئنُّ في محنة الابتلاء، أنفاسه الساخنة تلك قد ترسم نهارًا كثير التعري، قليل الهواء…

ويا لطافة همس تعبث بمشاويره المروج وهي تثير بين شفتي الوقت رنين الشهد.

وتلك الروح ليلكية الأنوثة ملامحها تفتح على مهل ورود الصباح ورموش أحلامها تضفر جدائل النور على ملامح الزمن.

وأي روح وأنا التي كنت ولازلت أمشي تحت الظلال، أستذكر أوراق الياسمين بين أناملي، أحنو عليها، وأدري أنها جفت منذ زمن، وعزائي الوحيد صورة رمادية كلون روحي التائهة ما بين مركز الحواس والحقيقة ليرقد ذاك الحلم، وهو لا يحمل شيئا سوى اسما مستعارا، سقط من أبجدية الكون تحت المسمى عابرة   !!!

لتهمس بمسامعي خيوط الشمس أن أنثريها، واخرجى من تلك الشرنقة وأرتدي أجنحة الفراشات لتولدي من جديد .

لطالما افتقدت لمتعة الألوان وأنا أنظر من نافذة روحي لنجمة تكاد تلامس القمر فأتذكر أياما رحلت ولن تعود فأسأل نفسي كثيراً. 

– ترى هل سأعود فعلا أم أظل عابرة؟

أحلامي بسيطة جدا كسائر الأحلام تثار على متن أمنية في الليل لينتابني أحيانا حنين عميق غريب لروحي القديمة يقلّب الصور والذكريات فيشتاق لطباع في نفسي وخصائل تلاشت مع مرور الأيام دون تفقد فيحتضن الودق أحلاما جديدة ويمضي.

وما أقسى وأغرب أن يحن الإنسان لنفسه الشاردة حتى حدسي الذي وشى بقدومي كان يحثني على الابتعاد… لكن عبثا ها أنا رغم تعبي الذي أثقل كاهلي ما زالت محتفظة بنفس الابتسامة الآسرة وكلما أشحت بوجهي عن الأحلام تستقر عيناي على واجهة بلورية من ذاك المدى البعيد  .

أرسم الأحلام بصمتي أدور بوضح الشمس فتسرقها الغيمات لتسكبها للنسيان أمطارا وأمطار علها تشرع أبواب الانتظار فوق رسغ القصيدة أو على جيد المطر فتنبش من رحم الكتمان سر معزوفة كلما سمعها الليل يزمهر وكلما اشتعل النبض رقصا من عيدان النرجس وأوراق الكينا، فترنم بلون تشرين خيط الليل الطويل، وتحت تلك الأمطار الثملة، تستفز عبق الصمت، فينمو ويتكاثر عند أنفاس النطق، ويشق كلمات تغير العرف، وتحرك السكون، وتعبئ من ذاك الصمت المحرم قوارير من برك الجنون.

لتعلو.. وأعلو.

وكأنني أتصنع أكذوبة الصمت كي أكسر حاجز الصوت، الذي يحتضر بين الدوح، وذاك الهدوء المفتعل يطيل النظر لثوب روحي… بروية عله يتسلل لعطره، ربما أدرك أنه أصبح خلفي تمامٱ ولم يته… فتعبث بي الأوتار بين أغنية قديمة، ودحنونات ودعت عشية وصوتا صاخبا، تضيع فيه التعابير بلهجة غاضبة، ومن بقايا عطرها تمشي حافية القدمين، هكذا هي الدنيا…

تتمطى الثواني وتطحنني الغربة وأنا أبحث عن أحلام محمومة كفّنها النسيان، في مدن تعج برائحة المحيط، والمواويل الحزينة، أبحث عنها في دموع تساقطت من سحب الانتظار، فأجلس وبقربي قارب يحتوي حزني بلا أنا، ثم أبحث عن درب يأخذني إلى ذاتي…

وكلما أضاء الصبح سراج عيدان النرجس، على هديل اليمام المدثر، يختم ذاك العمر المنسي الرسائل بالحنين، وريق الدحنون، تحت ظل سروتنا، وتثاءب عناق المانوليا، لتغني للركبان أبيات قصيدة.

أحيانا يسمعها السنونو الحزين في حينا فيوقظ الدالية، ويهمس لساعي البريد العجوز ليبتعد مسرعا قبل أن تدركه الذكريات…

تبا، صوت فرامل قوي.. يموج الشارع فجأة، فيمضي مسرعا، لينعطف نحو النسيان، ويعجل بجمع المكاتيب.

نصف التفاتة كانت كافية لتتلاقى نظراتي مع صمتي، ونبرة حلم على مقاسِ هبوب الوتر.

توشوشني بتغاريد الأمنيات، وذاك الأمل الجميل، لتختفي الأشياء والمارة، والشارع، ولا يبقى سواي وأنا وذاتي في هذا الكون، أطيل النظر إليه ولا شيء سوى الخواء .

غير حافلة بنعوة على حائط كهل، كتب فيها اسمي، وتاريخ رحيل قديم موقوف لانتظاري، وأما القصائد فهي سلوى غيابي.

وبكل قصيدة لقاء، رسمه حلم بقلبي دائما، وبين طيات الزمن أرتق على مهل النصفين ذاتي، وروحي، وأنصت بهدوء لاشتعال الشمس، وهدوء القمر…

الحادية عشرة وخمسة وأربعون دقيقة ..

وبعدها، يقولون أنه وقت تحقيق الأمنيات، لتكن أمنية لي في هذه اللّيلة ..

أن تتقاطع بسلوة غرباء رسائلي مع روحي، و  أن يحمل لي ملاك صدى صوتها في باقة من الصور… مثل حماقة تكرّر الحلم، وتكررت الحكاية، وفي كلّ مرّة بحرقة بكيت، كمن على كتف المرآة نفسها ينكسر مرة، تلو الأخرى.

هكذا هم عابروا سبيل، ينكسرون حتّى تنضج قلوبهم، وكلما أرتعش النسيم تشظت المرايا بين قوسي الوقت، لتنعدم رؤاهم، وما الليل سوى أعمى يمضغ رماد السنين …

إذاً ..

سأسمعُ صمت الليل يبكي علي، بعينين مغمضتين، وكأنني طفلة تطبق أهدابها على نجمة شاردة، ربما بصمت له وجها تحبه، وملامح بداخلها لمدينة ماطرة محفورة في كفي، أحيانا تجهش روحي، تروي ما كنت أرويه لها، ونهنهتها تأرقني، كلما تساقطت النجوم من السماء حولي، أو كطيور مهاجرة فوق نبضي.

صمتي الذي أصبح كالحكاية في شوارعي، كمصباح خلفي أحدثه فيحوم حول روحي، وكل الأحلام التي رميتها له، والآمال، والدُعاء. في كلِّ صلاة ينطوي تحت جُنْح ليلي، وجناحاي من وابل نجماته، وأحباره، كظلال تعلو دربي.

أتساقط كثيرا حولي رويداً، أحيانا تشل أفكاري، وحواسي، لينطق صمتي، ولا أشعر بتاتا بشيء حولي، وكل الصراخ يملأُ روحي، ليستعيد ذكرياتي الكئيبة، وكل الدموع بللت أفكاري.

تبا، كثرة الشكوى أنهكت قلبي، ولم أعد أشعر بشيء بذاتي، أستيقظ على أمل بأن كل شيء كان كابوسا ، وأنني أحمل نفسي ما لا طاقة لي به، وكأني بثقل الأرض أمضي، وأمضي، وحيدة، باردة، كئيبة دون أن  أظهر حزني، وكثرة الحزن تأكلني.

ماذا لو أنني تلك النجمة الشاردة، وحلمي عود ثقاب يتيم في يدي؟

ماذا لو أنّ ما قطعته من دربي هو الدرب كلّه؟

ماذا لو أنّ وجه من أحب لا يعرفني وبصمت يبتسم؟

ماذا لو كانت هذه اللحظة حافتي على هذا العالم؟

ليغيب حديثي الذي أعتدت الإنصات إليه، يغيب بعدما اجتاحني كلي من رأسي، من قلبي، من جسدي، من روحي الهزيلة المحطمْة، لأسأل نفسي مراراً.

كيف يمكنني مع كل هذا البرود، والصمت، أن أبقي قلبي مشتعلا ثائرا، يهدأ ويثور بكلمة مني؟؟

هل في كل مرة علي أن أدعوني في ذاكرتي لأأتي إلي !

دعوة رسمية، كأنني شخص غريب عني، أو كأنني عابرة تسلك دربي، أتمنى لو أنني فعلا أأتيني، أمسح الحزن من روحي، وأثرك الماضي بذاكرتي، ألملم بعضي مني، وآخذه معي، أحول غيابي عني وأقلب مخيلتي إلى رماد.

سأحرق الخبايا في روحي وأحرق ذكرياتي، وأمضي  .

إلا الشعور كلما رأيتني .

ماذا لو كانت هذه اللحظة فعلا

حافتي على هذا العالم؟

بقلم: هند بومديان

الوسوم ,

Related posts

Top