حفريات أخرى

يصح أن نقول إن الزجل ديوان اليومي من خلال تأريخه للمهمش والمنسي، بشكل لا يمكن أن يكون إلا تلقائيا ومنحازا بامتياز. لأنه ببساطة ينبع من هذا الالتصاق بالأشياء والتشكيلات دون وسائط. ولا غرو، أن يمتد الزجل لمختلف أشكال القول ( المسرح، الأغنية، الرواية…) كحميمية وقيمة قولية مضافة. فالزجل على صلة قوية بالأمثال والنكت والمختصرات في القول الذي يقتضيه الحال، وكانت العرب أكثر رعاية للقول المبني على المتقابلات المتغذية من التقاء الأصوات والترديد، لترسيخ الحالة والموقف عبر كلمات منطلقة في الهواء كأجراس ونتف موسيقية. فكثير من الكلام راسخ دون علم، لأنه يمرر عبر إطارات موسيقية أو صور أو أجساد تتحول إلى قنوات للتمرير.
اتسمت الممارسة الزجلية عن منظومات القول الأخرى، كونها مرتبطة فيما مضى بشخوص تنعت في الوعي الجمعي بـ “البوهالي ” و”الهداوي ” والمجذوب… وكلها نماذج غبر متصالحة مع العالم واللغة.. وهو ما أدى إلى مضاعفة معاناة الكتابة الزجلية من الواقع والتصور السائد ومن الأدب نفسه كمؤسسة رمزية. وبقليل من النظر والاعتراف، يمكن الاطمئنان على أدبية هذا النوع وخصوصيته. وعليه يمكن طرح بعض مظاهر هذه الخصوصية كمكونات وأشكال وطرائق كتابة. لم يعد الزجل ذاك الكلام المنظوم والمنتصر لإيقاعية ما؛ بل أصبح الإدراك أننا أمام نوع أدبي له فرشه وأفقه. فلنفك الشفرة التكوينية للقصيدة الزجلية كالتالي:
ـ الالتصاق باليومي والمهمش، بل أحيانا بالساقط من لغتنا؛ والقريب من وجداننا وتخيلنا. الشيء الذي يمنح حرارة خاصة للحالة والموقف، بل للمعنى الذي يخترق أفق الانتظار كسهم نظرا للمشتركات الوجدانية والتخييلية السارية في القصيدة الزجلية كحقيبة حياة يومية شبيهة بحي شعبي وحبال غسيله المنتصبة، أو حافلة مضغوطة بالأنفاس والعرق..
ـ بدأت تبتعد النصوص الزجلية الحالية بشكل سريع عن الهتاف والصخب. فلم تعد القصيدة الزجلية ذائبة في اللغط. وبالإمكان الحديث الآن عن خصوصيات في الشعر الزجلي من حيث الصورة واللغة والأفق والمرجعيات..
ـ حضور كل مكونات الشعر في هذه القصيدة من صور وخيال ورموز. بهذا يتأكد أن الزجل رافد من روافد الشعر، بإمكانه أن يغني الممارسة الشعرية والأدبية. وهو ما يقتضي التحرر من بعض الظنون حول الريادة الزجلية وضرورة الاعتراف بالهوامش ضمن الثنائية التقليدية: المشرق والمغرب، إذ الزجل قول مترب موغل في الأصول كحفريات في اللغة والذاكرة الشعبية التي تنضح بالاستعارات والتخيلات الدافئة. وبإمكان عموم الأدب أن ينفتح عنه، ويمرره كلحظات تشد الأدب لأصوله ولحفرياته الموغلة في الغرابة والهوامش؛ أو قل حياة الظلال الشبيهة بالخلجان النفسي الذي يكون معبرا تنكريا لاحتفالية الأدب.
من هذا المنطلق، لا أعلم، لماذا ظلت دعوة بعض المنابر الحاثة على إقصاء هذا النوع قائمة إلى حد الآن، كأنه ـ أي الزجل ـ ابن غير شرعي أو هو ممارسة عاقة.. ولكن نعلم أيضا أن البعض له مصلحة في الهيمنة وحراسة النظافة في اللغة، وبالتالي إبعاد صوت الهامش والمنسي. أو من جهة أخرى الحرص على تلك الثنائية بين اللغة واللهجة التي تقتضي استحضار ثنائيات أخرى غير بعيدة كالثقافة الشعبية والثقافة العالمة. ثنائيات أعيد فيها النظر، على اعتبار أن مفهوم الثقافة أصبح شاملا ونفس الأمر بالنسبة للغة.
يغلب ظني أن الزجل من بين الرهانات لمد جسور التواصل، وتنمية الحس الأدبي والجمالي في قلب اليومي لأنه ـ هذا الزجل ـ يشبهنا بلغته الدافئة وبلاغته الخاصة.

> بقلم: عبد الغني فوزي

الوسوم ,

Related posts

Top