حق القضاة في حرية التعبير

> ذ- شـكـيـر الـفـتـوح *
شكل دستور 30 يوليوز 2011، نقطة تحول كبرى في مسار المملكة، سواء من الناحية الحقوقية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وذلك بالنظر إلى المقتضيات الجديدة التي أقرها هذا الدستور في العديد من المجالات وتكريسه لكل الحقوق والحريات المتعارف عليها دوليا، من أجل استكمال البناء الديموقراطي وبناء دولة المؤسسات بالمفهوم الحديث.
ويعتبر الحق في حرية التعبير المكفولة للقضاة واحدا من المستجدات المهمة التي حملها الدستور الجديد للمملكة تكريسا للمبادئ التي أقرتها المواثيق الدولية الحقوقية الصادرة بهذا الخصوص.
غير انه نظرا للوضعية الاعتبارية والخاصة التي يتميز بها القضاة في المجتمع، والتي تفرض عليهم مجموعة من الالتزامات تندرج كلها في دائرة الحفاظ على الوقار والهيبة وتحصين الذات، فإن المشرع الدستوري قيد هذه الحرية بمبدأ أساسي هو الحفاظ على واجب التحفظ، ومراعاة الاخلاقيات القضائية، وهكذا فقد نص الفصل 111 من الدستور على أنه للقضاة الحق في حرية التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ والاخلاقيات القضائية.
إلا أن النقاش العمومي، الذي عرفته الساحة القانونية في المغرب، طيلة الأربع سنوات الماضية حول الفصل 111 من الدستور، وحدود حرية التعبير المكفولة للقضاة، أبان عن اختلاف كبير بين عدد من المكونات في فهم هذا الفصل وكيفية التعاطي معه، بين اتجاه يعطي لهذه الحرية مفهوما واسعا، ويرفع السقف بشأنها عاليا، وبين اتجاه آخر ينادي بالتعامل معها بحذر واحتياط شديدين، مراعاة لخصوصية السلطة القضائية والوضعية الاعتبارية لرجالها ونسائها. ففي الوقت الذي ذهب فيه البعض إلى القول بأن حرية التعبير المكفولة للقضاة لا تمنعهم من الإدلاء بآرائهم في مختلف القضايا التي تهم الشأن العام و المجتمع، وأن القاضي له الحق في حرية التعبير دون تقييد، وأن واجب التحفظ مرتبط فقط بعمل القاضي مثل سرية المداولات وغيرها مما له ارتباط بالملفات المعروضة عليه ، ذهب البعض الآخر إلى القول بأن حرية التعبير المكفولة للقضاة ينحصر مجالها في الدفاع عن استقلال القضاء والضمانات والحقوق المكفولة للقضاة دستوريا، وأنها لا تشمل إبداء الرأي في القضايا التي تهم الشأن العام، والقضايا التي يعود اختصاص النظر فيها لمؤسسات دستورية أخرى كالبرلمان والحكومة، وانه يتعين دائما على القضاة اثناء ممارستهم لهذا الحق، مراعاة سمو ورفعة منصب القاضي في المجتمع وما يقتضيه ذلك من التحلي بقدر كبير من الرزانة والتعقل والرفعة أثناء التعبير عن الرأي .  
ولعل المتتبع للنقاش العمومي الذي أثير بخصوص هذا الموضوع، سيقف لا محالة على حقيقة مفادها، أن سبب الخلاف بين الفريقين، نتج أساسا عن تحديد مفهوم واجب التحفظ وحدود هذا الواجب،  والواقع أن كل التشريعات – بما فيها التشريع المغربي – لم تعط تعريفا واضحا ومحددا لواجب التحفظ ، و ي في نظرنا لم تكن في حاجة إلى ذلك، على اعتبار أن واجب التحفظ يجد أساسه في المبادئ الكونية المحددة لعمل السلطة القضائية، وفي الأعراف والتقاليد التي تأطر الممارسة المهنية للقاضي في كل دول العالم، والتي توجب عليه أن يتحلى بقيم الوقار والهيبة والحياد في أفعاله وأقواله سواء في نطاق ممارسته لمهامه القضائية أو خارجها، وذلك بغية الحفاظ على شرف مهنة القضاء  وسموها وهيبتها و مكانتها الاعتبارية في المجتمع .
ولذلك فإن الدستور المغربي، حينما قيد حرية التعبير المكفولة للقضاة بضرورة الحفاظ على واجب التحفظ، فإنه بموقفه هذا لم يخلق قاعدة قانونية جديدة، ولم يكن موقفه هذا استثناء عن باقي الانظمة، ذلك أن هذا القيد وقع التنصيص عليه في كل المواثيق الحقوقية الدولية ذات الصلة، كما تم التنصيص عليه في عدد من التشريعات المقارنة ومدونات السلوك القضائي لعدد من الدول، وأقرته ايضا مجموعة من القرارات الصادرة عن المجالس التأديبية لهذه الدول.
فبخصوص المواثيق الحقوقية الدولية،  نجد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،  قد نص في فصله الثامن على أنه يحق لأعضاء السلطة القضائية، شأنهم في ذلك شأن المواطنين الآخرين، التمتع بحرية التعبير والاعتقاد والانتساب والتجمع، شريطة أن يتصرف القضاة دائماً في ممارستهم لهذه الحقوق على نحو يحافظ على هيبة ووقار مناصبهم وعلى نزاهة واستقلال السلطة القضائية”، كما أن الميثاق الأوروبي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الذي تم إقراره من طرف مجلس أوروبا نص على وجوب امتناع القضاة عن أي فعل أو سلوك أو تعبير من شأنه ان يؤثر على الثقة في حيادهم أو استقلالهم، أما مبادئ مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية الدولية، فقد جاء فيها أن القضاة يتمتعون بحرية التعبير وتكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية أوقد تنال من حياد ونزاهة القضاء، وأنه يتعين عليهم أن يكونوا متحفظين في التعليق على الاحكام أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه، من المحتمل أن ينظر أمام محكمتهم خارج النطاق القضائي أو المحاكم الاخرى، و نص البند الثامن من مبادئ الامم المتحدة بشأن استقلال السلطة القضائية التي تم إقرارها في مؤتمر ميلانو لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد خلال شهر دجنبر من سنة 1985  أنه ” وفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد  وتكوين الجمعيات والتجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة دائما لدى ممارسة حقوقهم مسلكا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة استقلال القضاء “، أما وثيقة مبادئ بنغالور بشأن السلوك القضائي والتي تم إقرارها من طرف مجموعة النزاهة القضائية في بنغالور بالهند في الفترة ما بين 24 و26 فبراير 2001 ، فقد نصت على أن للقاضي كأي مواطن عادي الحق في حرية التعبير بما لا يتعارض مع أحكام القانون ومع واجباته الوظيفية وبطريقة يحافظ بها على هيبة الوظيفة ونزاهة القضاء واستقلاله ، وهي نفس المبادئ التي أقرتها أيضا لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بمقتضى قرارها عدد 43/2003، وكذا في المبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة المعتمدة من طرف مؤتمر هافانا المنعقد في الفترة من 27 غشت إلى 07 شتنبر من سنة 1990، والإعلان رقم 03 الصادر في شهر نونبر من سنة 2002 عن المجلس الاستشاري للقضاة الأوربيين .
وعلى مستوى التشريعات المقارنة، فإن القوانين المنظمة لمهنة القضاء في كل الدول الأوروبية وضعت التزامات على القضاة تروم الحفاظ على النزاهة والحياد والاستقلالية ، ويدخل ضمن ذلك، وضع قيود على حرية التعبير المكفولة للقضاة ، وأنشطتهم ذات الطابع السياسي، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا و هولاندا والبرتغال وتركيا وروسيا والنرويج وكرواتيا و جمهورية التشيك وسلوفينيا ورومانيا، ففي فرنسا مثلا ينص الفصل 10 من النظام الأساسي للقضاة على منع الإدلاء بتصريحات سياسية أو المشاركة في تظاهرات من هذا النوع، وفي ألمانيا، فإن قانون السلطة القضائية الصادر بتاريخ 19 أبريل 1972 المعدل بتاريخ 05 فبراير 2009 نص في فصله 39 على أن القضاة ملزمون بالحفاظ على استقلاليتهم ، ويدخل ضمن هذا الالتزام الامتناع عن التعبير عن موقف يكتسي صبغة سياسية، وذلك بتأييد طرف سياسي على آخر، وفي كرواتيا، فإنه يمنع على القضاة بموجب قانون المحاكم المعدل سنة 2010  التشكيك في نزاهة السلطة القضائية واستقلاليتها، ويمنع عليهم الانتماء للأحزاب السياسية والتعبير عن أراء ذات صبغة سياسية، وفي رومانيا، فإن القانون المنظم لمهنة القضاء رقم 303/2004، منع على القضاة الانتماء إلى الأحزاب السياسية والمشاركة في الانشطة السياسية والتعبير عن آراء تظهر قناعاتهم السياسية كما منع عليهم التعبير علنا عن أرائهم بخصوص القضايا الرائجة أمامهم، ومناقشة الاحكام و القرارات التي أصدروها في وسائل الإعلام المكتوبة او المسموعة أو المرئية .
وبخصوص مدونات السلوك الاخلاقي، ففي فرنسا، أصدر المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي سنة 2010 ميثاقا يتعلق بالالتزامات الأخلاقية للقضاة، جاء فيه، أن القاضي ملزم بالحفاظ على صورة العدالة ويجب عليه دائما، أن يعطي المثال والقدوة على الاحتراز، أثناء ممارسته لحقه في التعبير، وذلك من أجل عدم تعريض نزاهة و صورة العدالة ومصداقيتها للثقة العامة، ويمنع عليه أيضا انتقاد الاحكام والقرارات التي يصدرها زملاؤه، كما يتعين عليه استحضار هذه الضوابط والالتزامات أثناء إصداره لمذكراته الخاصة بمساره المهني، ومنع الميثاق على القضاة إبداء أي مظاهر عدائية ضد الحكومة، أو القيام بتصرفات ذات طبيعة سياسية تتعارض مع واجب التحفظ المفروض عليهم، لكنه من جهة أخرى، نص على أن واجب التحفظ لا يشمل منع القضاة من المشاركة في إعداد النصوص القانونية وتحليل مقتضياتها بكل حرية .
أما في بلجيكا، فقد أصدر المجلس الأعلى للقضاء البلجيكي سنة 2012 دليلا يتضمن قواعد السلوك الخاصة بالقضاة، تمت الموافقة عليه من طرف الجمعية العامة للمجلس الاستشاري للقضاء والجمعية العامة للمجلس الأعلى للقضاء، ومما جاء في هذا الدليل أن ” حرية التعبير الخاصة بالقضاة ليست مطلقة ، وأنه إذا كان للقاضي الحرية الكاملة لإبداء رأيه، فإنه يتعين عليه دائما أن يستحضر مبدأ الحياد ، وأن يكون  حذرا أثناء التعبير عن رأيه بشكل لا يظهر موقفه من القضايا التي تكون محل نزاع ، كما يتعين أن  يتحلى بواجب التحفظ في تعامله مع وسائل الإعلام، ويمنع عليه التعليق على قراراته حتى و لو تم انتقادها من طرف الصحافة أو تم إلغاؤها من طرف المحكمة الأعلى درجة .  
وفي أوكرانيا، تنص مدونة السلوك القضائي التي اعتمدها المؤتمر 11 للقضاة الأوكرانيين بتاريخ 22/02/2013 على أن القضاة لهم الحق في التعبير عن آرائهم شريطة التزام واجب الحيادوالتحفظ ، لكن يمنع عليهم الإدلاء بتصريحات للصحافة بخصوص القضايا الرائجة أمام القضاء، كما يمنع عليهم التشكيك في الأحكام القضائية النهائية، ويمنع عليهم الانخراط في الأحزاب السياسية أو المشاركة في أنشطة سياسية أو التعبير عن مواقف ذات طبيعة سياسية، ويحق للقاضي ان يتوفر على حساب بمواقع التواصل الاجتماعي والمشاركة في المناقشات التي تجري في المنتديات على شبكة الانترنيت، لكن مساهماته وتعليقاته يجب أن لا تتضمن ما يسئ إلى زملائه أو إلى السلطة القضائية .
وفي كرواتيا تنص مدونة السلوك الأخلاقي الصادرة سنة 2005 على أنه “يمنع على القضاة الإدلاء بأي تصريح أو بيان من شانه أن يؤثر على القرار او الحكم الذي سيصدر في قضية معينة ويظهر تحيزا واضحا لطرف على حساب آخر، كما يمنع عليهم التعبير عن آرائهم بخصوص القضايا الرائجة، وبالمقابل يحق للقضاة المشاركة في المناقشات العامة المنصبة على مسائل قانونية صرفة أو تلك التي تهم النظام القضائي وطريقة اشتغال العدالة “.    
و تكريسا للمبادئ التي اقرتها المواثيق الدولية وكذا التشريعات الداخلية ومدونات السلوك الاخلاقي بخصوص حرية التعبير المكفولة للقضاة، فإن القرارات الصادرة عن المجالس العليا للقضاء في عدد  من الدول أكدت على ضرورة وضع ضوابط لهذه الحرية والتعامل معها بكثير من الحيطة والحذر حفاظا على المسافة التي تفصل بين القاضي وباقي مكونات المجتمع، ففي قرار صادر عن المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي بتاريخ 28 يناير 1975 ، جاء فيه أنه ” إذا كان واجب التحفظ المفروض على القاضي لا يمس  ولا ينتقص من حرية التفكير والتعبير المخولة له، فإنه يمنع عليه أي تعبير شائن أو نقد من شأنه أن يمس بالثقة والاحترام الواجبين للسلطة القضائية، وإذا أراد القاضي أن يعبر عن رأيه فيجب ان يكون ذلك بحكمة ورزانة مع استحضار واجب الحياد المفروض عليه، والذي يعد ضمانة أساسية في عمل السلطة القضائية في علاقتها مع باقي مكونات المجتمع “. وفي قرار آخر صادر عن نفس المجلس بتاريخ 09/04/1993 جاء فيه ” إن واجب التحفظ يمنع على القضاة إبداء أي انتقاد أو تعبير شائن من طبيعته أن يمس بالثقة والاحترام الواجب لوظائفهم من قبل المتقاضين، إذ يتعلق الأمر حتما بقيد لحرية التعبير التي يتمتع بها القضاة هدفه هو حماية كرامة ونزاهة واستقلال القضاء “.
وفي ألمانيا التي يسمح فيها للقضاة بالانخراط في الاحزاب السياسية، نشر أحد القضاة مقالا بإحدى الصحف، أشار فيه إلى صفته القضائية، وعبر فيه عن تضامنه مع رجل تعليم تمت إقالته لكونه موال للحزب الشيوعي الألماني موضحا، أن فعل الإقالة مخالف للدستور وللقوانين الجاري بها العمل، ودعا المحكمة التي تنظر في قضية هذا المعلم إلى الحكم بإرجاعه إلى منصبه، فتمت إحالة القاضي كاتب المقال على المجلس التأديبي لخرقه واجب التحفظ في مجال حرية التعبير، وصدرت في حقه عقوبة تأديبية، وبعد عرض القضية على المحكمة الدستورية الفيدرالية، أصدرت هذه الاخيرة قرارا بتاريخ 30/08/1983 قضت فيه بتأييد المقرر الصادر في حق القاضي المتابع، واعتبرت المحكمة أن المعني بالأمر قد خرق واجب التحفظ أثناء تعبيره عن رأيه في نقاش سياسي، وأبدى رأيا في قضية ما تزال محل نزاع وغير محسوم فيها قضاء، وأنه بذلك قد خرج عن حياده وتجرده، وهو ما يبرر إصدار عقوبة تأديبية في حقه .
و في مصر، فإن النقاش حول حدود واجب التحفظ  الذي يقيد حرية التعبير المكفولة للقضاة، برز بشكل كبير بعد أحداث 25 يناير 2011 و 30 يونيو 2013، حيث لوحظ اهتمام واضح من قبل القضاة المصريين بشؤون السياسة فكثرت إطلالاتهم الإعلامية وتصريحاتهم السياسية وزاد انفتاحهم على وسائل الإعلام بشكل مفرط، جعل الكثير منهم يعبر علانية عن مواقف تكتسي صبغة سياسية، وبشكل فهم منه اصطفاف القضاة وراء تيارات سياسية بعينها، وهو أمر هدد بشكل خطير حياد واستقلالية السلطة القضائية في مصر، فخرجت عدة أصوات من داخل الجسم القضائي تطالب بضرورة التزام القضاة بواجب التحفظ في تصريحاتهم وعدم التعبير عن مواقف ذات صبغة سياسية،  والكف عن مناقشة القضايا المعروضة على انظار السلطتين التشريعية والتنفيذية حفاظا على هيبة السلطة القضائية، وهكذا فقد دعا المستشار محمد رفيق البسطويسي الرئيس الأسبق لمجلس القضاء الأعلى ومحكمة النقض إلى ضرورة تفعيل قرارات مجلس القضاء الأعلى التي تحظر على القضاة الاشتغال بالسياسة أو الظهور في الإعلام، مؤكدا أن القضاة محظور عليهم الانحياز أو الميل لحزب معين والظهور في الإعلام بشكل مبالغ فيه، وأن مجلس القضاء الأعلى أصدر عدة قرارات في هذا الباب، ومن جهته، أكد الرئيس الاسبق لمجلس القضاء الأعلى ومحكمة النقض المستشار فتحي خليفة، أن المقصود بمنع القاضي من الاشتغال بالسياسة لا يراد به مجرد منعه من الانضمام إلى الأحزاب السياسية، بل يدخل ضمنه المناقشة والتعليق على قرارات السلطتين التشريعية أو الحكومية‮ ‬مادام ذلك في‮ ‬غير خصومة معروضة عليه يختص بالفصل فيها كعمل قضائي، مضيفا ان عدم الخوض في معترك الحياة السياسية تفرضه الوظيفة القضائية التي تلزم شاغلها بالحياد والتجرد وعدم إبداء الرأي بتأييد أي من السلطتين صيانة لاستقلاله، وفي تصريح للمستشار أشرف زهران العضو السابق بمجلس إدارة نادي قضاة مص، قال إن حظر ممارسة القاضي للعمل السياسي وانتماءه لأحد التيارات السياسية لا يمنعه من التحدث في ما له علاقة بالمسائل الوطنية كالحقوق و الحريات، اما المفاضلة بين تيار سياسي وآخر فهذا محظور عليه تماما .
ونختم حديثنا عن مصر بحالة القاضي ن ش ، المعروف بقاضي الإعدامات نظرا للعدد الهائل من أحكام الإعدام التي أصدرها، ففي خرجة إعلامية لهذا القاضي بجريدة الوطن المصرية في منتصف دجنبر 2015 ، وصف فيها أحداث 25 يناير ب 25 خساير،  وهاجم أحزابا و كيانات سياسية وإعلاميين و سياسيين  ومثقفين، فتم تقديم شكوى ضده وتم التجريح فيه أمام محكمة الاستئناف بالقاهرة، والتي أصدرت قرارا بتاريخ 04/01/2016 قبلت فيه الشكوى المقدمة ضد القاضي وأمرت بسحب مجموعة من الملفات من يده تمهيدا لإحالته على هيئة التأديب، ورأت المحكمة ان القاضي المشتكى به قد خرج عن واجب التحفظ والأعراف القضائية وأدلى بتصريحات من شأنها التأثير على الأحكام التي يصدرها ، و أفصح عن رأيه السياسي في بعض الأحداث الدائرة بالبلد ، واستعمل لغة عدائية يجب أن لا تصدر عن قاضي يفترض حياده .
وخلاصة القول في هذا المقام، إن كل المواثيق الدولية والتشريعات ومدونات السلوك الاخلاقي قيدت حرية التعبير المكفولة للقضاة باحترام واجب التحفظ، وهذا الواجب يفرض على القاضي ممارسة حقه في التعبير مع استحضار مبدأ الحياد  والتجرد والاستقلالية والحفاظ على هيبة ورفعة منصب القضاء، و من هذا المنطلق، فإننا نعتقد أن حرية التعبير المكفولة للقاضي ينحصر مجالها في إبداء الرأي في القضايا المهنية المرتبطة بمنظومة العدالة بشكل عام، وأمور القضاء بشكل خاص ومناقشة القوانين المؤطرة لهذه المنظومة والمساهمة في تطويرها وتجويدها، وذلك في إطار الدفاع عن استقلال القضاء و صيانة الحقوق والضمانات المكفولة للقضاة، وبالمقابل، فإن هذه الحرية لا تشمل إبداء الرأي في القضايا السياسية  والقضايا التي تهم الشأن العام للدولة وكذا السياسات الحكومية  .
هذا وإنه اعتبارا لرفعة منصب القضاء وسمو مكانته في الدولة والمجتمع،  وحفاظا على هيبة القاضي التي هي عدته في أداء رسالته، فإنه يتعين على القاضي أثناء ممارسته لحقه في التعبير في إطار ما هو مسموح به قانونا ، أن يكون حكيما في عرضه لأرائه و أفكاره، ذكيا في اختياره للغة الخطاب و التعبير ، بحيث تعبر لغته عن سمو و رفعة منصب القاضي، بعيدا عن أسلوب التهجم والتجريح والتهكم والنيل من كرامة الآخرين، كما يتعين أن يتفادى القاضي الدخول في أي سجال من شأنه أن يجلب له الخصومات ويدفع به إلى منازعات تزعزع ما له من هيبة ومكانة، وفي كل الأحوال، يجب ألا يكون في تعبير القاضي عن رأيه ما يظهر منه أنه متحيز أو منتمٍ أو داعٍ بأي صورة لشخص أو جهة معينة لما في ذلك من إهدار لصفتي الحياد والاستقلال، ويبقى الأهم من هذا وذاك هو أن يجعل القاضي مسافة بينه و بين المؤسسات الدستورية للدولة من حكومة وبرلمان، وكذا الفاعلين السياسيين والحقوقيين  ورجال الإعلام و الصحافة، وهذا هو المفهوم الحقيقي لاستقلال القاضي وحياده، والذي لخصه جلالة الملك في رسالته السامية الموجهة إلى أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 12 أبريل 2004، والتي جاء فيها ” ولا يمكن للقضاء أن يحقق المكانة الجديرة به إلا حين يكتسب ثقة المتقاضين التي لا تتحقق إلا من خلال ما يتحلى به القضاة من نزاهة وتجرد واستقامة واستقلال عن أي تأثير أو تدخل .
إن استقلال القضاء الذي نحن عليه حريصون ليس فقط إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي يضمنه الدستور، ولكن أمام السلط الاخرى شديدة الإغواء، وفي مقدمتها سلطة المال المغرية بالارتشاء وسلطة الإعلام التي أصبحت بما لها من نفوذ متزايد وأثر قوي في تكييف الرأي العام سلطة رابعة في عصرنا فضلا عن سلطة النفس الأمارة بالسوء.”  

  * قاضي مستشار وزير العدل والحريات

Related posts

Top