حكومة العبث والارتجال في الرواية المغربية

لا يمكن أن يصمتَ الخيال المغربي المكتوب قصة ورواية عن الأحداث العجيبة والغريبة منذ مطلع سنة 2012 إلى الآن، مع الحكومة الأولى أو الثانية وما تبدع فيه من أفعال تتجاوز المتوقع. وإذا كان الخيال الشعبي الشفاهي قد أبدع الشيء الكثير حول الموضوع من باب السخرية والنقد الأسود، فإن النص المكتوب ما زال محتشما.
وسأتناول نموذجا واحدا من الإصدارات الأخيرة اللافتة للانتباه، مع كاتب لم يخلف وعوده التخييلية منذ روايته الأولى “مساء الشوق”، وهو في أولى خطواته في عالم الرواية الذي لم يبدله تبديلا. وتجيء الرواية الأخيرة لشعيب حليفي “لا تنس ما تقول!” لتخطو بصمت في ثلاث طبعات صدرت في سنة واحدة، وتؤكد حس الانتقاد والسخرية في سرد متراكب ضمن معمار أفقي يثوي بداخله صعودا عموديا، وقد بلغ، في هذه الرواية درجة عالية جدا تسير على خط ساخن يُشتمُّ منه صوت الاحتكاك مع اليومي المتحكم في سيرورة الزمن المغربي ومعيقاته.
في هذا المعمار الذي يحكمه مسار المجتمع المغربي خلال العقد الأخير، تخرج الحكايات من عالم شخصيتين اثنتين، شمس الدين الغنامي وجعفر المسناوي، ومن مدينتين، الصالحية والقلعة الكبرى، ومن زمنين: الماضي والحاضر. وتصبح كل حكاية مرتبطة بهذه الثنائيات لتتحول إلى عنصر ثالث في كل ثنائية، ثم نكتشف أن جميع الحكايات هي حكاية واحدة عن الزمن المغربي في صوره المتقلبة. لكن المؤلف، خلال فترة الحجر الصحي، اختار حكايتين من الرواية وأعاد نشرهما في حلقات ضمن سلسلة “ألواح”، وهو اختيار يجعل القارئ يكتشف شيئا جديدا في هذين النصين بعد عزلهما عن باقي المتن الروائي. يكتشف أن المعاني التي كانت مخبأة بعناية شديدة تخرج عن طوعها لتقول شيئا كان مواربا خلف نص ترتبط معانيه بعضها ببعض.
تأتي حكاية القجايمي والمسرح الكبير موزعة في الرواية (الطبعة الثانية) على أربع فقرات متناوبة في السياق العام، وأعتقد أن التأويل يحيل على الحكومة الحالية التي تدبر السياسة المجتمعية بشكل عبثي استطاع الكاتب التعبير عنه من زاوية شديدة الدقة، بحيث اختار مجال الفن وشخصية القجايمي، وهو الذي يُضحك الناس، بفن اسمه القجمة، كما اختار فضاء واقعيا في الدار البيضاء وهو المسرح الكبير وجعل الأحداث فيه، رغم أنه لم يتم فتحه بعد. وهل لعبة يجيدها شعيب حليفي، بين ما هو كائن وما هو محتمل، في مزج ساعد على إنتاج نص ممتلئ بالتأويل والتلميح.
يرسم في واحد من المقاطع شخصية القجايمي الذي لا يهدأ من ممارسة القجمة والإضحاك.. تقول الرواية: »ويستشهدون بتاريخه قبل أن يصبح ممثلا مشهورا ورئيسا للفرقة. فقد اشتغل لسنوات حارسا بالمقبرة الكبرى، وهناك ربط علاقات مشبوهة مع فقهاء يستغلون المقبرة والموتى لأغراض في الشعوذة، كما كان يسهل بعض الممارسات الشيطانية للنساء في أيام معروفة من السنة.[ثم] اكتشف الأهالي خداعه فطردوه، وانتقل إلى الصالحية نادلا بمقهى القتلة، وبات يكتب التقارير بما يسمعه من قدامى المناضلين أثناء نقاشاتهم الساخنة. لم يستكمل السنة، حتى فطنوا إلى أفاعيله بوشاية من مخبر، كان في الأصل شيوعيا وتاب. فاستدرجوه ووضعوا له مخدرا بالشاي ثم دعوه بعد انتهاء نوبته، فلبى وشرب وهو سعيد بالجلوس إليهم. وبعد ربع ساعة، قام ورقصَ ورمى ملابسه وباح لهم بكل شيء. «
لمحة لتاريحه بين المقابر والفقها ثم وسط المناضلين واشيا، قبل أن ينتقل إلى رئاسة فرقة مسرحية بعدما أصدرت» الحكومة مرسوما، بعد الاتفاق عليه بالإجماع ومشاورات سابقة، يقضي بإنشاء فرقة وطنية للمسرح الكبير تعوض الفرقة الموسيقية، ودورها تمثيل البلد في الداخل والخارج وفي كل المناسبات الرسمية. وقد عهدت الحكومة إلى لجنة فنية، من خمسة أفراد، للعمل على تنفيذ المرسوم وقراراته التي توصي بأن كل حزب من الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي سيقترح خمسة ممثلين أو مشخصين وعشرة من الكومبارس، مع احترام تمثيلية النساء والشباب، وأن الحزب الحاكم سيكون ممثلا بضعف عدد الآخرين، ومنه يتم اختيار رئيس الفرقة وبطل المسرحيات ومخرجها، فيما سيتم توزيع باقي مهام الإضاءة والديكور والنجارة والحدادة والملابس وغيرها، على باقي الأعضاء. « 
ثم ينتقل الكاتب إلى إضافة درجة قصوى في سرعة الحكاية مما يدفع بالتأويل إلى الحدود العليا: “في السادسة إلا ربع، دخلت الفرقة الرئيسية كاملة. جلسوا جميعا على أرضية الخشبة في شكل دائري، ثم دلف خلفهم السيد مخلوف، المسؤول الإداري عن الفرقة والذي يسهر على متطلباتها في المسرح الكبير، يحمل كرسيين وضعهما في مواجهة نصف الدائرة. ثم وصل المُخرج الذي وضع على الأرض ثلاثة هواتف كان يحملها معه باهتمام كبير. تحدث إليهم بروح وطنية عالية عن دور المسرح في تربية النفوس وتطهيرها من الأحقاد والأوهام، وذكّرهم بأن مهامهم في الفرقة الوطنية للمسرح توازي مهام العلماء الأوفياء والأطباء المجاهدين.. (وأنتم أيها الدراويش، أرواحكم وكلماتكم وأبدانكم فداء للوطن والمرحلة). ثم تحدث عن رئيس الفرقة الذي هو بطلها الرئيس. بعد ذلك، أعطى تعليماته لبدء التدريبات، فقام الممثلون وعادوا إلى الكواليس في انتظار أداء أدوارهم” .
وبعدما تدربت الفرقة لمدة ستة وثلاثين يوما بلا انقطاع على مسرحية من فصلين. كان الموعد مع العرض الأول، وهي كلها أرقام ذات دلالة للمتتبع للشأن السياسي في تنصيب حكومة بنكيران:
«في الثالث من يناير، كان موعد عرض المسرحية الأولى للفرقة الوطنية […] ثلاث ضربات، تلتها دقات متسارعة للقلوب.[…] ارتفع أخيرا الستار عن ظلمة وغموض أفشيا رهبة غريبة، وشيئا فشيئا، استدارت الإضاءة نحو الخشبة فترآى لهم ديكور حيّ شعبي متهدم، يغصُّ بباعة يعرضون المتلاشيات وأشياء منتهية الصلاحية، بأثمنة تُعمي أبصار الساعين إليها. بيوت منحدرة تعلو سطوحها حبال عليها ملابس تبحث عن دفء الشمس، إلى جانبها مقاهٍ ضيقة وحوانيت ومحلات تنبعث منها روائح أكلات شعبية ورخيصة. ووسط هذا الحي، تتفرع أزقة أكثر ضيقا بها بيوت مغلقة، تنفتح، من حين لآخر، أمام رجال يدخلونها مسرورين، وتسمع منها مُفاصلات سريعة ثم ضحكات عارية لنساء بالداخل.
مرت ساعة كاملة أمام مِرآة هي أشبه برئة مشقوقة تنـز سعالا دائما، يشاهد فيها المتفرجون حياتهم كما هي وقد بقوا واجمين مندهشين. مشاهد تجري بلا كلام أو بطل معين. فقط الحياة كأنها نهر تتلاطم مياهه بأمواج على أحجار كبيرة ومُسننة، وسط رهبة الصمت وأبواق سيارات الإسعاف والشرطة، إلى جانب موسيقى خفيفة لا تعلو عن أصوات صاخبة وصراخ وألم وضحكات وشتائم وانكسار الزجاج وآذان متقطع.
استمر الصخب خلال ربع ساعة كانت فاصلا بين الفصلين، قبل أن تُسمع الضربات الثلاث، ثم يرفع الستار على نفس الحي الشعبي المتهدم، ولكن هذه المرة بلا صوت أو موسيقي، تهييئا لإنزال لوح خشبي من أعلى في شكل مصعد، يعتلي درجاته كل أفراد الفرقة المسرحية، والبالغ عددهم اثنان وثلاثون فردا، بألبستهم الملونة. ومع هبوطهم حملوا بناديرهم وشرعوا في الضرب عليها وهم يتصببون عرقا، كما انطلقوا في رسم دائرة كبيرة وبدأوا يرقصون رقصا غريبا قبل أن يرتفع إيقاع التوقيع على البنادير، ثم تنفتح الدائرة، ليظهر بطل المسرحية بلباس المهرج… فشرع جزء كبير من المتفرجين في التصفيق والصفير. رفع يده اليمنى إيذانا بتوقيف التصفيقات وكذلك الضرب على البنادير. جاؤوه بمنصة خشبية اعتلاها وقد التفّ حوله الممثلون وعدد من سكان الحي المتهدم، كما صعد بعض المتفرجين من القاعة، فأصبحت الخشبة ممتلئة يعلوها المهرج.
ـ (خاطبهم المهرج، بصوت ممتلئ جدية) كما رأيتم أيها السادة، لقد هبطتُ من السماء أنا وأصحابي لكي نخرجكم من الهمّ والحزن إلى السعادة.
عادت التصفيقات والصراخ والصفير والامتنان، لكن ممن كانوا فوق الخشبة فقط، بينما ظل المتفرجون واجمين، ينتظرون فهم ما يجري.
> أنا القْجَايْمي. هذا هو اسمي الذي أحب أن تنادوني به. سأحل كل مشاكل هذا الحي المتهدم بفن اسمه القُجْمَة، وهي فن قديم وإرث ثقافي محلي، مثل السحر.. هو شفاء يداوي الأعطاب في الأبدان والأرواح.
كانت قدرة القجايمي على الخطابة تبدو جديدة في هذا العالم، فقد جعل المتفرجين يضحكون ويبكون في آن. وبلغ في مسرحيته أن جعلهم يسخرون من عاهاتهم، وأقنعهم أن لكل مواطن أقنعة كثيرة عليه تسجيلها لدى مصالح الدولة، هذه الأخيرة انتبهت إلى الأمر وخصصت له بنودا في الدستور الجديد، وسيتم تحديد عدد محدد لكل مواطن، ومن تجاوزه يتعرض لعقوبات سالبة لكل الأقنعة.
ضحكوا كثيرا لأن القجايمي كان يتكلم والدراويش حوله يرقصون. لكنه في الجزء الأخير من قُجْمته، بعد فاصل من الضرب على البنادير والرقص الجماعي، سيعتلي منصة الخطابة ويقول بأن جميع ساكنة هذا الحي، وكل المتفرجين الحاضرين توجد بداخلهم أشباح، وهي في النهاية جنيّ كافر، ذكر أو أنثى، يسكنهم ويتحكم في أهوائهم وأمزجتهم وأصواتهم، وهو سبب مشاكلهم. هو كائن ومخلوق صغير لا مرئي، له قدرة على التسلل إلى النفس والبدن. ثم اقترح عليهم أنه بإمكانه، رفقة مجموعة الدراويش المالكين لأسرار كثيرة، استخراج الجني واعتقاله وتخليص المواطنين من شرورهم. وقال لهم أيضا بأن القجايمي لا يخلف وعوده. ثم نزل عن المنصة ودنا من مواطني الحي وصاح فيهم: من يريد أن يجرب ويتحرر من أسباب البلاء والعطب؟
تقدم رجل في الأربعين من عمره، كان يتتبع المشهد منذ بدايته من المقهى، فقام نحوه والأدخنة ما تزال عالقة به وبثيابه ونظراته الهاربة.
ـ أنا يا فخامة القجايمي، أريد معرفة من بداخلي.. وجعلني معطوبا بلا أحلام أو أمل.
>تقدم أيها المواطن الشجاع .
ثم أخذه من ذراعه، ودفع به وسط حلقة الدراويش الذين شرعوا يطوفون بانتظام دائري، يرقصون ويضربون على البنادير ويتمتمون بكلام غير مفهوم، أما القجايمي فقد أخرج من أحد جيوبه الفضفاضة، أول الأمر، تعريجة صغيرة جعل ينقر عليها بأصابع يمناه نقرات قوية ومسموعة وهي بيُسراه على كتفه الأيسر، قريبة من عنقه. وبعد لحظات، وفي غمرة اشتعال الأصوات والضربات، في انتظار الوصول إلى جذبة خالية من الأفكار والتساؤلات. فقط ممتلئة بالمشاعر الحائرة. أخرج مزمارا قصبيا وضعه في فمه فطلع منه صوت مجروح بإيقاع الجذبة، فرمى نصف الدراويش بناديرهم وتحولوا إلى راقصين يسايرون برؤوسهم وأجسامهم إيقاع القصبة وتلوينات القجايمي العجيبة. ووسط هذا الحال الغريب، دخل السيد مخلوف سريعا ومرتبكا يحمل مِرآة مستطيلة بحجم متر طولا. وضعها على حامل خشبي بجوار الرجل المتطوع، ثم توسعت الدائرة وابتعدت ليبقى القجايمي وحيدا والرجل المتطوع والمرآة.
دنا القجايمي من المرآة فبدت صورته بحجم مُقزّم. وتقنيا، عمد المخرج إلى نقل ما تعكسه المِرآة على شاشة كبرى جانبية تُمكن الجميع من متابعة المشهد بشكل واضح. مِرآة عجيبة تُحول الأجسام إلى أقزام مشوهة.
طلب القجايمي من الرجل المتطوع أن يرفع رأسه، ويتابع دون تدخل منه. ثم التفت يخاطب الجني الذي يظهر في المِرآة:
> أيها الجني الكافر. من أنتَ ولماذا تسكن روح وبدن هذا الرجل المسكين؟
> أنا جني قرين هذا الرجل المسكين.. يسمونني في عالم الجن بأسماء كثيرة. أسكن روحه وبدنه لأساعده على التفكير.
> لسنا في حاجة إليك. نحن مسؤولون عنه وكفى.
> هل صرتم مثلنا. تريدون طردنا لتدخلوا مكاننا.
> سأحرقك إذا واصلت اللعب معي.هل فهمتني …( قال القجايمي غاضبا، وقد أخرج من جيبه مزمارا صُنع من قرن الثور).
ارتبك الجني وانحنى معلنا التوبة.
> أنا تائب وافعل بي ما تشاء.
>عفونا عنك وعن أفعالك الماضية. ستكون عبدا ضمن فرقتنا.. وسنجد لك عملا تتلهى به.
قام الرجل المتطوع يصرخ سعيدا، ثم عمت الزغاريد وتقدم السكان في طوابير ينتظرون دورهم، وقد تحول المسرح الكبير إلى غرفة انتظار تسع الجميع وأكثر، وسط ضرب الطبول والبنادير ونقر التعاريج وأصوات المزامير.
انتهت المسرحية بعد ثلاث ساعات من الفرجة. خرجوا ثم تفرقوا دون أن ينبس أحدهم بكلمة واحدة، كأنهم خائفون«. 
ثم يقفز السرد خمس سنوات، وهي مدة انتداب القجايمي رئيسا للفرقة، ولكنه سيعود ويفوز بالرئاسة لولاية ثانية، لكن أحداثا لم يكن يتوقعها، أفشلت هذا الأمر وجعلت صديقه يتولى رئاسة الفرقة في تطورات صاغها الكاتب ضمن منظور فني متعدد الاحتمالات والقراءات:
«مرت  خمس سنوات كأنها مشهد سريع في ليل شتائي بارد. أضحى معها القجايمي بطلا وطنيا بمسرحياته التي أضحكت الملايين، ومنحتهم فرصة أخرى لم تكن من قبل، لنسيان جراح قديمة برأت وهم يضحكون. فقد سكنهم بعدما أقنعهم أنه أخرج منهم الجن التي كانت تسكنهم وتُنغص عليهم حياتهم.
انتهت الفترة الزمنية، وفاز مرة أخرى برئاسة الفرقة الوطنية للمسرح، وخطب في عشاق فنه خطبة المنتصر حينما نعتهم بـ “يا أمة القُجم”، وأعلن عن بدء تشكيل فرقته المسرحية لموسم آخر، بمسرحية قال إنها ستكون شكلا متطورا في مسار التراجيديا. لكن الذي حدث، أن عددا من الممثلين ممن اقترحهم ليشكل بهم فرقته، رفضوا، وبقى المسرح الكبير مغلقا، فنسي المتفرجون حلاوة الكوميديا، وانقسموا إلى ثلاث فئات؛ منهم من يعتقد أن الأمر برمته جزء من المسرحية التي وعدَ بها، ومنهم من فهم أن الممثلين الرافضين طلبوا منحهم مساحة أكبر لأدوارهم، بعدما كانوا في ما مضى، مجرد كومبارس؛ أما الفريق الآخر، فيعزو التوقف لاختلاف إيديولوجي فني على المداخيل المالية وطريقة توزيعها.
وقد أصدر رفاق يوسف البوّاب، من “مقهى القتلة”، بيانا عنيفا، من توقيع ستة أسماء، يدينون فيه القجايمي وفرقته المسرحية، ويتهمونه بأنه أفسد العباد بالكذب، وألهاهم عن حياتهم وسرق أحلامهم العاقلة، واستبدلها بالأوهام.
أما الممثلون الرافضون، فقد عمدوا إلى الاعتصام بملابسهم القديمة، أمام بوابة المسرح الكبير، والذي سُدّت مداخله. وفي هذه الظرفية، كثُر الحديث بين عشاقه المبتلين بالكوميديا، عن استحالة العيش دون فرقة وطنية للمسرح؟.
وهكذا تروي الرواية نهاية مرحلة القجايمي وصعود واحد آخر ممن كانوا في الكومبارس، من أصدقائه وأتباع بعد ستة أشهر وعشرة أيام كانت عسيرة وعبثية:
 «أحس القجايمي بأن رياحا عاتية تقتلعه من الأرض، ولم يستطع لذلك صبرا، فقام بتوزيع أشرطة قصيرة مصورة، يردّ فيها على المنتقدين لفنه وأساليبه، والمتهمين له بإفساد الذوق الفني وخداع المتفرجين. في كل شريط مصور، ينعت أصحاب البيان بـ “أهل الفتن والبهتان من الكفرة والزنادقة والغربان”.
مرت ستة أشهر وعشرة أيام، اقتنع خلالها القجايمي، بأن الممثلين المضربين كانوا يجربون تمثيلية تراجيدية، وأنه لن يُقدّر له لعب مسرحيته، فجرى البحث عن مخرج يقضي بتعيين ممثل صديق له، قليل الدراية بالتمثيل، ولا يملك كل حيل الخداع. لكنه شرع في الإعداد لتمثيليته التاريخية، وقد اختار فيها دور الرجل الصامت بأمر الله، وهو الدور الذي سيلازمه في باقي أدواره الأخرى. أما القجايمي، فقد اختلفت الروايات حول تواريه، لكنه بعد فترة، عاد يظهر عبر الأشرطة المصورة في اليوتوب، ساردا مذكراته عن مسرحياته السابقة وكواليسها، وفي نهاية كل شريط يختم كلامه قائلا: ورغم كل ذلك، لم أفهم كيف نجحتُ فوق الخشبة وفشلتُ في الواقع؟ «
لكن المؤلف عاد إلى القجايمي لتقديم صورة له من زاواية أخرى عن نهايته:
«خرج القجايمي، وشاع أنه اختلى لثلاثة شهور في جبل خارج الصالحية. لبس الدربالة وأطلق لحيته، زاهدا في الدنيا يرعى أربع عنزات وعددا من الدجاجات.
وبعد انصرام المدة، عاد من خلوته. توجه إلى القائد الحبجاب وتسلم الحافلة. وكلما توقفت بسبب عطب من أعطابها المزمنة، تحول إلى بهلوان يُضحك الركاب ويُلهيهم إلى حين تدبُّر إصلاحها، وقد بات يوهمهم، إثر كل توقف، أن العطب في الركاب وليس في الحافلة، فصدقوه وهم يضحكون. وبعد فترة انتبهوا إلى خداعه فغضبوا وهجر الحافلة عدد كبير. فاقتنع بفشله في إقناعهم، ثم عاد ليعترف أن العطب، فعلا ليس في الحافلة، ولا في الركاب، ولكنه في السائق«.
استطاعت رواية »  لا تنس ما تقول!  «أن تجمع قطع المرآة المكسورة وتعيد تركيبها بطريقة فنية تحيل على المعلوم والمجهول في آن.

آن.مرت  خمس سنوات كأنها مشهد سريع في ليل شتائي بارد. أضحى معها القجايمي بطلا وطنيا بمسرحياته التي أضحكت الملايين، ومنحتهم فرصة أخرى لم تكن من قبل، لنسيان جراح قديمة برأت وهم يضحكون. فقد سكنهم بعدما أقنعهم أنه أخرج منهم الجن التي كانت تسكنهم وتُنغص عليهم حياتهم.
انتهت الفترة الزمنية، وفاز مرة أخرى برئاسة الفرقة الوطنية للمسرح، وخطب في عشاق فنه خطبة المنتصر حينما نعتهم بـ “يا أمة القُجم”، وأعلن عن بدء تشكيل فرقته المسرحية لموسم آخر، بمسرحية قال إنها ستكون شكلا متطورا في مسار التراجيديا. لكن الذي حدث، أن عددا من الممثلين ممن اقترحهم ليشكل بهم فرقته، رفضوا، وبقى المسرح الكبير مغلقا، فنسي المتفرجون حلاوة الكوميديا، وانقسموا إلى ثلاث فئات؛ منهم من يعتقد أن الأمر برمته جزء من المسرحية التي وعدَ بها، ومنهم من فهم أن الممثلين الرافضين طلبوا منحهم مساحة أكبر لأدوارهم، بعدما كانوا في ما مضى، مجرد كومبارس؛ أما الفريق الآخر، فيعزو التوقف لاختلاف إيديولوجي فني على المداخيل المالية وطريقة توزيعها.
وقد أصدر رفاق يوسف البوّاب، من “مقهى القتلة”، بيانا عنيفا، من توقيع ستة أسماء، يدينون فيه القجايمي وفرقته المسرحية، ويتهمونه بأنه أفسد العباد بالكذب، وألهاهم عن حياتهم وسرق أحلامهم العاقلة، واستبدلها بالأوهام.
أما الممثلون الرافضون، فقد عمدوا إلى الاعتصام بملابسهم القديمة، أمام بوابة المسرح الكبير، والذي سُدّت مداخله. وفي هذه الظرفية، كثُر الحديث بين عشاقه المبتلين بالكوميديا، عن استحالة العيش دون فرقة وطنية للمسرح؟.
وهكذا تروي الرواية نهاية مرحلة القجايمي وصعود واحد آخر ممن كانوا في الكومبارس، من أصدقائه وأتباع بعد ستة أشهر وعشرة أيام كانت عسيرة وعبثية:
 «أحس القجايمي بأن رياحا عاتية تقتلعه من الأرض، ولم يستطع لذلك صبرا، فقام بتوزيع أشرطة قصيرة مصورة، يردّ فيها على المنتقدين لفنه وأساليبه، والمتهمين له بإفساد الذوق الفني وخداع المتفرجين. في كل شريط مصور، ينعت أصحاب البيان بـ “أهل الفتن والبهتان من الكفرة والزنادقة والغربان”.
مرت ستة أشهر وعشرة أيام، اقتنع خلالها القجايمي، بأن الممثلين المضربين كانوا يجربون تمثيلية تراجيدية، وأنه لن يُقدّر له لعب مسرحيته، فجرى البحث عن مخرج يقضي بتعيين ممثل صديق له، قليل الدراية بالتمثيل، ولا يملك كل حيل الخداع. لكنه شرع في الإعداد لتمثيليته التاريخية، وقد اختار فيها دور الرجل الصامت بأمر الله، وهو الدور الذي سيلازمه في باقي أدواره الأخرى. أما القجايمي، فقد اختلفت الروايات حول تواريه، لكنه بعد فترة، عاد يظهر عبر الأشرطة المصورة في اليوتوب، ساردا مذكراته عن مسرحياته السابقة وكواليسها، وفي نهاية كل شريط يختم كلامه قائلا: ورغم كل ذلك، لم أفهم كيف نجحتُ فوق الخشبة وفشلتُ في الواقع؟ «
لكن المؤلف عاد إلى القجايمي لتقديم صورة له من زاواية أخرى عن نهايته:
 »خرج القجايمي، وشاع أنه اختلى لثلاثة شهور في جبل خارج الصالحية. لبس الدربالة وأطلق لحيته، زاهدا في الدنيا يرعى أربع عنزات وعددا من الدجاجات.
وبعد انصرام المدة، عاد من خلوته. توجه إلى القائد الحبجاب وتسلم الحافلة. وكلما توقفت بسبب عطب من أعطابها المزمنة، تحول إلى بهلوان يُضحك الركاب ويُلهيهم إلى حين تدبُّر إصلاحها، وقد بات يوهمهم، إثر كل توقف، أن العطب في الركاب وليس في الحافلة، فصدقوه وهم يضحكون. وبعد فترة انتبهوا إلى خداعه فغضبوا وهجر الحافلة عدد كبير. فاقتنع بفشله في إقناعهم، ثم عاد ليعترف أن العطب، فعلا ليس في الحافلة، ولا في الركاب، ولكنه في السائق«.
استطاعت رواية »  لا تنس ما تقول!  «أن تجمع قطع المرآة المكسورة وتعيد تركيبها بطريقة فنية تحيل على المعلوم والمجهول في آن.

> بقلم: سناء السامري

Related posts

Top