حمزة كرزازي: الإنسان، والفاعل الجمعوي والاجتماعي

قبل أربعين يوما فارقنا بغتة وبدون استئذان، إلى الأبد، الرفيق حمزة كرزازي، وترك حرقة في قلوب عدد من رفاقه خاصة الذين عاشوا معه زمن الرصاص، وأصدقائه الأوفياء، وفراغا يصعب تغطيته في وسط أسرته الصغيرة والكبيرة.
حمزة صديق ومناضل سياسي محنك منذ نعومة أظفاره في صفوف حزب التقدم والاشتراكية مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، ونقابي سككي صلب خاض معارك صعبة لخدمة الطبقة العاملة المغربية وتحسين ظروف عملها وعيشها في إطار مركزية الاتحاد المغربي للشغل بالرباط. وتميز مساره بالجدية والانضباط كفاعل جمعوي أدى رسالته الاجتماعية والتربوية في إطار “جمعية المعرفة لمحاربة الأمية” بمدينة الرباط.
نقدم لمحات من مسار الراحل عبر بعض محطات عشناها معه تكريما للفقيد، وتنويرا للجيل الجديد من شباب حزب التقدم والاشتراكية، والشبيبة الاشتراكية ومنظمة الطلائع أطفال المغرب “عزيز بلال”، والكشاف الجوال وكذا شباب العائلة الكرزازية….وغيرها من التنظيمات الجمعوية….

1 – أحداث خطيرة رافقت مولد وطفولة حمزة بوجدة: مقتل فرحات حشاد ونفي محمد بن يوسف واعتقال المقاوم والده “الحاج بوفلجة كرزازي”

المرحوم حمزة من المخضرمين الذين ولدوا في نهاية الحماية الفرنسية والاسبانية والدولية التي فرضت على مغرب القرن 20، وتزامنت مع مولده وهو صبي رأى النور سنة 1952 أحداث تاريخية كبرى. ففي هذه السنة تم اغتيال المناضل النقابي التونسي فرحات حشاد، الذي كان له صدى ورد فعل تضامني قوي في المغرب عبر إضراب عام بالبلاد، وتلاه منع حزبي الاستقلال والحزب الشيوعي المغربي، وشرع نظام الحماية يخطط لنفي محمد بن يوسف “محمد الخامس” إلى خارج الوطن.
وارتباطا بالبيئة التي ولد وترعرع فيها المرحوم بالمغرب الشرقي، فقد باغتت أحداث 16 غشت 1953 بوجدة، في توقيتها وحجمها المستعمر الفرنسي، هذا الذي واجه فيها انتفاضة المتظاهرين بالحديد والنار، حيث استشهد عدد من المقاومين برصاص الجيش والبوليس. كما صعدت السلطات العسكرية والبوليسية من حملات الاعتقال لكل المقاومين الذين شاركوا في أحداث 16 غشت الدامية، والتي نظمت في تحد للمحتل من أجل استقلال البلاد، كرد مباشر على مؤامرة تنحية محمد بن يوسف من على عرشه، وتنصيب “بنعرفة” كدمية في يد المستعمر، بمؤازرة الخونة والأعيان الذين تآمروا مع المستعمر، فوقعوا على وثيقة خلع محمد بن يوسف، والتي انتهت بتنصيب “بنعرفة” مكانه بمدينة مراكش. هذا الحدث الخطير، حرك الشعب المغربي قاطبة في رد فعل على الميدان، غير مسبوق، انطلق من المغرب الشرقي بوجدة وبركان وتافوغالت، قبل نفي السلطان بأربعة أيام… ولذلك، كانت الاعتقالات والمحاكمات والسجن مصير كل المقاومين والمناضلين النشطين الذين أخبر بهم من بعض الخونة عملاء الاستعمار “البياعة”. وتشاء الأقدار أن يكون أحد هؤلاء المعتقلين أبوه الحاج بوفلجة وحمزة لا يزال رضيعا، فحوكم وسجن بعدما تم إلقاء القبض على كل أعضاء الخلية الحزبية المقاومة التي كان ينتمي إليها الحاج كرزازي بوفلجة. وتشاء الأقدار أن يعتقل والده ويقضي عامين في سجن “عين مومن” بمنطقة سطات، بعيدا عن أسرته وعن المولود الجديد “الصبي حمزة”.
سيحدث الانفراج بعد رجوع محمد بن يوسف “محمد الخامس” من المنفى مع أسرته إلى الوطن، وعودة المقاومين المعتقلين والسجناء الذين نجوا من الموت المحقق ومن بطش المستعمر ومنهم والده، فكانت بداية النهاية لمسلسل الحماية بالمغرب، وأولى ثمار الكفاح الوطني للمقاومة المغربية بصفة عامة، والمقاومة بالمغرب الشرقي بصفة خاصة، وأساسا، ثمار انتفاضة 16 غشت 1953 بوجدة وبركان وتافوغالت وفي كل أنحاء المغرب الشرقي، والتي أعقبتها انتفاضة 20 غشت بباقي الوطن 1953، التي تزامنت مع نفي محمد بن يوسف إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر. وقد ترجمت نتائج ذلك الكفاح والنضال والتضحيات في عودة محمد الخامس وأسرته من المنفى إلى الوطن مظفرا، ومعه عودة الوطنيين المخلصين من السجون إلى عائلاتهم وأهاليهم وجيرانهم، معززين ومكرمين، في الوقت الذي خرج فيه المستعمر من البلاد، وفشل مخططه ومؤامراته رغم تعاونه مع الخونة وبعض الأعيان الذين أصيبوا بخيبة كبيرة. منهم من صفي بالرصاص على أيدي الفدائيين، ومنهم من عاش مذلولا طيلة حياته. وسوف يعود الأمل لأسرة حمزة مع عودة أبيه لاحتضانه ورعايته إلى حين حصوله على البكالوريا بوجدة والتحاقه بإخوته إلى الرباط بجامعة محمد الخامس مطلع السبعينات.

2 – تركيبة حمزة النضالية: بذور وطنية موروثة عن عائلة مقاومة، وبوادر ثورية شبابية كتلميذ وطالب زمن الرصاص

لنا ذكريات لا تنسى مع أخبار حمزة التلميذ “المشاغب” بالمعنى الإيجابي بالثانوي. لقد كان يتصدر الصفوف الأمامية للمظاهرات التلاميذية بمدينة وجدة، ومنها مظاهرة كبيرة انطلقت من ثانويته ” ليسي عبد العزيز” بشوارع مدينة وجدة دفاعا عن مطالب التلاميذ وودادياتهم في مطلع السبعينات وهو تلميذ بالباكالوريا. ربما يعود حماسه النضالي العفوي إلى بيئة عائلته الصغيرة والكبيرة التي تربت في أحضان الحركة الوطنية وناضلت من أجل انتزاع الاستقلال، وتعرض عدد منه أفرادها للاعتقالات والتعذيب والنفي والسجن، كما حصل لوالده وعدد من أبناء أعمامه بالمغرب الشرقي الذين تعرضوا لرصاص المحتل في انتفاضة 16 غشت 1953 بوجدة.
لكن حمزة المراهق والشاب اليافع، سيختار تيارا “راديكاليا” عندما كان تلميذا في ثانوية عمر بن عبد العزيز، بوجدة، هذا التيار الذي كان متأثرا بانتفاضة باريس “ربيع الشباب بفرنسا سنة 1968” وكان له صدى بالمغرب وخاصة بالجامعة المغربية “جامعة محمد الخامس”، حيث ظهرت حركة شبابية تدعو إلى حمل السلاح والصعود إلى الجبال وإسقاط النظام الرجعي، وتجاوز الأحزاب الموجودة البورجوازية والإصلاحية .
في هذا السياق سينتقل “حمزة” إلى الرباط ملتحقا بأخويه وابن عمته، ليقطن معهم ويتابع دراسته الجامعية الحقوقية بجامعة محمد الخامس شعبة الاقتصاد، حيث تتلمذ على فطاحل الأساتذة ومنهم “عزيز بلال” أول دكتور دولة في علم الاقتصاد، والجامعي المرموق، وأساتذة آخرين منهم محمد لحبابي وعبد القادر برادة…وآخرين.
في مسكنه الجديد، بحي أكدال، سيتم تأطير حمزة بطريقة تلقائية من قبل خلية طلابية محظورة “حزب التحرر والاشتراكية PLS” كان ينتمي لها أخوه “علي”، وابن عمته موسى، ومناضلات “منهن الخياريات” ومناضلين آخرين “حسن لمباركي والدير محمد”، والتي ستتحول إلى خلية علنية بعد إعلان حزب التقدم والاشتراكية حزبا قانونيا في غشت 1974، وكان كاتبه الأول لناحية الرباط عزيز بلال بعضوية إسماعيل العلوي ومحمد مشارك وعمر الفاسي ثم المهدي بنشقرون وعلي كرزازي وأمينة لمريني….
كان المرحوم طالبا ذكيا متحمسا للنضال، له علاقات طيبة صادقة ومتينة مع مجموعة من أصدقائه وصديقاته اللواتي كان يعتبرهن بمثابة “صديقات-أخوات” حسب مصطلحات قاموسه الشبابي وهو عازب آنذاك” Amies-sœurs ” .
استشارني ذات يوم في شأن انخراطه الرسمي، عندما اقتنع بمبادئ حزب التقدم والاشتراكية، خاصة وأنه كان يقطن معنا في عشرة حميمية بمنزلينا المتجاورين بحي أكدال بالرباط “شارع تانسيفت” ، وكان المكان بمثابة فضاء جامعي حر يقصده عدد من المناضلين أغلبهم من حزب التقدم والاشتراكية لعقد اجتماعات حزبية خاصة بقضايا القطاع الطلابي الذي كان “كرزازي علي” أخ حمزة، مكلفا بالشباب في مكتب ناحية الرباط آنذاك “1975-1977″، وفي مقدمتهم الأستاذ إسماعيل العلوي، ومحمد مشارك وأحمد الغرباوي..ومصطفى لبراهمي، وفرحات إبراهيم وفتحي لخضر، وأمل برادة ومحمد كرين لاحقا…..وآخرين من أعضاء مكتب ناحية الرباط.
كما كان منزلنا الطلابي البسيط مكانا للقاءات وفضاء بمثابة نادي للنقاشات السياسية والثقافية والأيديولوجية، بمساهمة عدد من المناضلين والطلبة من مختلف المشارب السياسية، لقاءات كانت بحق، بيئة للتكوين السياسي والإيديولوجي والثقافي الحر. في هذه البيئة تم اقتناعنا بمبادئ حزب التحرر والاشتراكية التي افتخر شخصيا، بأنني استكملت نصف قرن في هذا الحزب العتيد “1970-2020″، ولا زلت مستمرا فيه. وفي هذا السياق كنا الرعيل الثاني من عائلتنا الذي اختار توجها اشتراكيا يختلف عن آبائنا وأفراد عائلتنا الكرزازية التي كانت منخرطة في معظمها بخلايا حزب الاستقلال. فكان انخراطنا نحن الكرزازيين الثلاث ” حمزة، علي، موسى ” بمثابة تمرد سياسي وأيديولوجي لكنه سلمي، بالنسبة للعائلة. ولذا كان اختيار حمزة الانخراط الرسمي بحزب التقدم والاشتراكية اختيارا موفقا طبيعيا. وفي هذا المكان تكونت عدة أطر حزبية شابة، هي اليوم عماد الحزب، ومنهم الرفيقين سعيد سيحيدة، ومازوز عبد العزيز وآخرين وهم تلاميذ بالثانوي دون سن النضج.
لم تكن آنذاك أي إغراءات مادية أو من أجل “احتلال مناصب عليا”، للانخراط في هذا الحزب الذي كان محظورا في معظم مراحله، ومعارضا شرسا للنظام، وظل في خدمة الطبقة العاملة والمستضعفة والفئات المستغلة وصغار الفلاحين والمياومين بتأطير من نخبة آمنت بالتغيير، ولم تأبه بالتضحيات المادية وبالوقت الثمين أو التعرض للمضايقات، بل حتى الاعتقالات التي كانت تداهمها من حين لآخر…ومنهم المرحوم حمزة الذي تعرض هو الآخر لمثل هذه المضايقات، والاستجوابات في إحدى الكوميساريات من أجل التخويف لإبعاده عن النضالات في صفوف الحزب وفي منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب التي كانت تمر بظروف عصيبة. وهي طريقة منهجية كان يستعملها الحكم لإبعاد رفاقنا الطلبة عن الحزب.
من هنا يسجل التاريخ الذهبي لحمزة الطالب المناضل في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كعضو منتخب في تعاضدية كلية الحقوق، شعبة الاقتصاد، بجامعة محمد الخامس بالرباط، وعضو حيوي قيادي بالقطاع الطلابي التابع لحزب التقدم والاشتراكية منتصف السبعينات، في الفترة التي كان فيها لشكر “الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي حاليا” عضوا في نفس التعاضدية. وقد أبلى البلاء الحسن إلى جانب رفيقاته ورفاقه في التأطير الطلابي والنضالي لتحسين شروط الدراسة الجامعية وظروف عيش الطالب “منهم بنصر عبدالرحيم، سيحيدة سعيد عبد العزيز مازور، ولد حيدة، لشهب حسن، بالعوقدة، أمينة لمريني، ميري حميد، حياة الصاوي، وسعاد الصبيحي، وعبد الرحمان بلمام، وكرين امحمد، وأمينة وآخرين. ..”.

3 – تجربة جمعوية غنية لرفاقنا ومنهم المرحوم حمزة كرزازي

تذكرت حمزة الجمعوي الذي يؤدي رسالته التربوية والاجتماعية والفنية بتفان وإتقان في “جمعية المعرفة لمحاربة الأمية”، وهو يحارب الأمية ليلا ببعض مدارس الدولة بحي العكاري ويعقوب المنصور وحي المحيط. كما شارك في كل الرحلات بالاطلس والربف والمدن المغربية، منشطا فنيا فيها، ومساهما في النقاشات التي تدور كل ليلة بين المشاركين، حول مواضيع الساعة.
للتذكير، وتكريما لكل من ساهم في بناء أسسها وفي تأطير أنشطتها ومنهم المرحوم حمزة وآخرين، فهذه الجمعية الثقافية المهمة “جمعية المعرفة لمحاربة الأمية” كانت رافدا أساسيا من روافد التنظيم الشبابي الجديد، والتي كان يرأسها ويدعمها الرفيق المهدي بنشقرون، ويشتغل بمكتبها التنفيذي معظم الأطر الحزبية خلال فترة العمل السري الحزبي إلى حين منعها سنة 1977. وبالنسبة لتأطير مراكز محاربة الأمية بمدراس تابريكت وباب الخميس بمدينة سلا، كان يشرف على العمل رفاق سلا .
كانت المناضلة لطيفة اجبابدي، الطالبة بالجامعة آنذاك، من المدرسات المتطوعات المواظبات على محاربة الأمية بهذه الجمعية إلى جانب المرحوم الدكتور الزاوي علي، وأخته الزاوي زهرة، والرفيقة العمراني مريم، إضافة إلى رفيقات ورفاق من أحياء يعقوب المنصور والعكاري والتقدم وحي المحيط لأنهم كانوا يؤمنون بالعمل الجمعوي الجدي.
ويمكن التأكيد بأن الجمعية، في ظل الحظر المسلط على حزب التحرر والاشتراكية، كانت متنفسا للعمل الجماهيري بطريق غير مباشر لفائدته، كما اعتبرت رافدا غير مباشر لحزب التقدم والاشتراكية بالرباط بعد تأسيسه سنة 1974، ورافدا أساسيا كذلك لمنظمة الشبيبة المغربية للتقدم والاشتراكية، التي أسسها الحزب في 18 يناير 1976 “الشبيبة الاشتراكية حاليا”، وكذا “منظمة الطلائع أطفال المغرب عزيز بلال” التي أسست رسميا سنة 1984.
معضدين ومساندين من المرحوم حمزة وأخيه علي الذي كان عضوا في مكتبها، كنا في احتكاك مع التنظيم الشبابي الجديد” JMPS ” باعتبارنا أعضاء نشيطين في “جمعية المعرفة لمحاربة الأمية” بالرباط وسلا. فبهذه الجمعية كنت مسؤولا عن لجنة الرحلات، وظل المرحوم حمزة يؤازرني في كل خطوات تهيئ وتأطير الرحلات التي نظمناها بربوع البلاد. ونقلنا بمعية رفاق لنا في الجمعية، تجربتنا في تنظيم الرحلات واستثمار العلاقات التي ربطناها في إطار هذه الجمعية، لاحقا، إلى منظمة “شبيبة حزب التقدم والاشتراكية” و”الشبيبة المغربية للتقدم والاشتراكية” منذ 1976، منها تنظيم رحلات ناجحة للشمال والأطلس المتوسط والكبير ومدن كمراكش والجديدة، وزيارة مشاريع تنموية كمعمل السكر بسيدي بنور وسد أيت عادل، بل كذلك خرجات اصطياف وترفيه للشباب إلى شواطئ الرباط وسلا والهرهورة.
وكان للجمعية إشعاع قوي لمحاربة الأمية بالعدوتين الرباط- سلا، ساهم فيها المرحوم بعزيمة وقوة. فاستفاد الحزب بطريق غير مباشر من مردودية الرفيقات والرفاق العاملين بها، لجديتهم وتفانيهم في تعليم الكبار القراءة والكتابة والحساب، بحيث تخرج عدد من أفواج المستفيدين من محاربة الأمية بحصولهم على الشهادة الابتدائية. بل أقرض بعضهم الزجل، وسال دمع الرفيق فتحي لخضر “الذي غادرنا هو أيضا قبل سنة 2020″، أحد أعمدة هذه الجمعية ورئيسها لاحقا، خلال حفل أقيم بمقر الجمعية الكائن بزنقة لندن “قرب الكنيسة ” حي المحيط بالرباط، عندما كان يستمع إلى أحدهم وهو يثني على عمل الجمعية وأطرها التي أخرجتهم من ظلمات الجهل “لأنهم كانوا عميا لا يبصرون” إلى النور “المعرفة”. أمام هذا الفوز المبين للقوى التقدمية، لم يهدأ بال الرجعية المحلية التي وقفت بالمرصاد لعمل الجمعية بغرض إقبار هذه التجربة الفريدة في العاصمة وسلا. وهو ما أدى بها إلى التآمر مع بعض أفراد السلطات المحلية، وإغلاق المدارس التي كانت قد وضعتها وزارة التربية الوطنية رهن إشارة الجمعية ليلا لتشتغل فيها، وعددها ست مؤسسات تعليمية بالرباط “يعقوب المنصور، العكاري، التقدم” وبسلا “مدرستين بباب لمريسة وتابريكت”، وذلك بإيعاز من أحد أعيان المدينة المرشحين للانتخابات التشريعية بدائرة الرباط- حي المحيط لسنة 1977 ويدعى ” عبد الكامل الرغاي”. فقد أنزعج هذا المرشح لعدم استجابة مسيري الجمعية لطلبه فتح مقر الجمعية لمعاونيه من أجل خوض حملته الانتخابية التشريعية لسنة 1977 بحي المحيط، في أحضان مقر الجمعية ضمن دائرة ترشحيه بالرباط، ومنهن الرفيقة خديجة الجمالي التي تصدت لفريق حملته. علما بأن رفاقنا كانوا يشكلون أغلبية أعضاء مكتب هذه الجمعية ، ومع ذلك لم يستعملوا مقرها في الحملة الانتخابية، احتراما لمبدأ احترام العمل الجمعوي، بعدم استغلال مقر الجمعية لأغراض حزبية.
لقد تذكرت الفقيد، نقابيا محنكا في وسط السككيين مدافعا صادقا عن الطبقة العاملة. وتذكرت حمزة السياسي والقيادي بحزب التقدم والاشتراكية، والمناضل القاعدي المنضبط بخلية السككيين مع مشارك محمد وإبراهيم فرحات والعيسي نورالدين وآخرين…
ولكن لن أنس حمزة الفنان الرهيف الإحساس، الذي لا يفارقه عوده، كهواية للفن الأصيل. لقد استمتعنا بأغانيه الأصيلة التي أطرب بها جمهوره في الجمعية والشبيبة ومحيطه القريب وأسرته وأصدقاءه ورفاقه لأنه أحب الحياة، واتخذ الفن الأصيل غذاء روحيا وهوايته المفضلة.

4 – حمزة المتشبع بالمبادئ النبيلة، والأخلاق السامية في معاملاته وسلوكه اليومي

اختتم مقالي الذي هو شاهد على العصر في مدة نصف قرن من الزمن، من خلال معاشرتي للمرحوم حمزة واحتكاكي به كمناضل سياسي ونقابي وجمعوي وصديق حميم، وأذكر الشباب الصاعد بخصلة مرتبطة بنبل أخلاقه وزهده في جمع المال والجري وراء تحقيق المصالح المادية. أذكر فقط بسجله المهني والإداري النقي. لقد رفض تلقي رشوة مغرية من أحد الزبناء، مع بداية ترقيته رئيسا لمصلحة الصفقات، بمديرية السكك الحديدية؛ بل هدد الراشي، بأنه سيعرض نفسه للعقاب إذا عاود هذا الفعل المشين معه. ورفض الرشوة وهو “غلاف مالي” مغري لعديمي الضمير.
هذا هو حمزة من خلال عصره الذي عاش فيه مناضلا صادقا، مضحيا بالنفس والنفيس، دون انتظار مقابل. فقط، كان يسعى مع رفاقه ومن عملوا معه على تحقيق عدالة اجتماعية يسعد بها كل الموطنات والمواطنين، وخاصة الكادحين والمستضعفين، ووطن حر ومستقل يأخذ قرارته بعيدا عن كل تبعية للخارج.
هذا ما جعل أصدقاءه ورفيقاته ورفاقه يعبرون بكل الوسائل المباشرة والغير المباشرة وحضورهم بالمقبرة لوداعه الأخير، معبرين عن حزنهم العميق لفراقه ومواساتهم للعائلة، منذ انتشار نعيه في الموقع الرسمي لحزب التقدم والاشتراكية، وبجريدة “بيان اليوم” و”البيان”. وكان في مقدمة المعزين والمواسين للعائلة الصغيرة والكبيرة، الرفيق إسماعيل العلوي، ونبيل بنعبدالله، ومحتات الرقاص، وكل الرفيقات والرفاق والنقابيين “هيتوم، سليك، ..” والجمعويين وأقارب وأصهار المرحوم وأصدقاءه الأوفياء، وجيرانه، كل واحدة وواحد باسمه وصفته، لأن حمزة، كان محبوب الجميع.
الخلاصة أنه لا يبقى بعد رحيلنا، إلا العمل النافع الذي قدمناه لمجتمعنا ووطننا وللبشرية جمعاء، والذرية التي تخدم الصالح العام. و فقيدنا نموذج للمناضل الجدي الذي خدم وطنه وشعبه وترك أسرة متزنة “أرملته مينة ياسين التي ظلت وفية لزوجها” وذرية صالحة “وفاء ووديع أطال الله في عمرهما وفي عمر أحفاد حمزة”.
رحم الله فقيدنا حمزة ، الذي تعيش روحه معنا باستمرار. لأنه محبوب لرفاقه وعائلتة الصغيرة والكبيرة ولأصدقائه الأوفياء وللمجتمع الذي خدمه. وعاش فيه بكرامة وعزة نفس، وغادره بدون أن يؤذي أو يتعب أو يضر أحدا.

*شهادة تكريم واعتزاز بالرفيق والصديق المخلص المرحوم حمزة

***

الانتفاضة الشعبية لـ 29، 30 و31 يناير 1944

يخلد الشعب المغربي ومعه نساء ورجال الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير أيام 29، 30 و31 يناير 2021 الذكرى 77 للانتفاضة الشعبية لـ 29، 30 و31 يناير 1944، التي اندلعت تأييدا لحدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، واستنكارا لحملات القمع والتنكيل والاعتقالات التي أقدمت عليها سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية لاستهداف زعماء وقادة الحركة الوطنية ومناضليها وعموم أبناء الشعب المغربي إثر تقديم هذه الوثيقة التاريخية المجسدة لإرادة العرش والشعب والميثاق التاريخي لنضالهما البطولي في سبيل الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية.
ففي مثل هذه الأيام من سنة 1944، خرجت حشود الجماهير الشعبية من قلب مدينة الرباط منددة بإقدام سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية على اعتقال زعماء الحركة الوطنية، وقد بلغ صدى هذه المظاهرات ولي العهد آنذاك جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه وهو بداخل المعهد المولوي، فتخطى سوره والتحق بصفوف المتظاهرين.
وقـد عبر جلالته طيـب الله ثراه عن ارتساماته عن ذلـك اليوم بقوله: «هناك تاريخ مضبوط ظل عالقا بذاكرتي هو 29 يناير 1944. في ذلك اليوم، اكتسح جمهور من المتظاهرين شوارع الرباط، مرددين شعارات المطالبة بالاستقلال، وبلغني صدى هذه المظاهرات وأنا داخل المعهد المولوي، فتخطيت سوره، والتحقت بالمتظاهرين. وأضاف رحمه الله مبرزا الأثر القوي لهذا الحدث التاريخي حيث قال: «لقد ترك يوم 29 يناير بصماته بعمق في ذاكرتي، كان معي يومئذ ثلاثة من رفاقي في المعهد، وكنا نصيح بصوت واحد: سنحصل على الاستقلال».
وأمام حملات القمع والملاحقات والمضايقات للسلطات الاستعمارية التي تلت حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ألح بطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس قدس الله روحه على الإفراج عن المعتقلين جميعهم، لكن سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية استغلت مقتل أحد الأوروبيين لتطوق المدينة وتقوم بإنزال قواتها، وأطلقت النار على المتظاهرين الذين دافعوا عن أنفسهم بكل شجاعة واستماتة، مما خلف شهداء رووا بدمائهم الزكية شجرة الحرية والاستقلال، ومعتقلين صدرت في حقهم أشد الأحكام وأقساها.
وكان لمدينة سلا دور بارز في هذه الانتفاضة العارمة التي اندلعت في مواجهة الغطرسة الاستعمارية، وتأييدا لمبادرة تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ودفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية، حيث هب وطنيون أفذاذ من هذه المدينة في انتفاضة تاريخية عارمة، مخترقين شوارعها، متحدين قوات الاحتلال وهجومها الشرس عليهم والذي أدى إلى سقوط شهداء أبرار وهبوا أرواحهم فداء للوطن، تغمدهم الله بواسع رحمته، وأسكنهم فسيح جناته.
واتسعت دائرة هذه الانتفاضة الشعبية، وامتدت المظاهرات لتشمل سائر المدن المغربية، كفاس التي شهدت سقوط عشرات الشهداء والجرحى، ومكناس ومراكش وازرو وغيرها من المدن. وتسارعت الأحداث لتحتدم المواجهات بين القصر الملكي وسلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية، إذ أقدمت سلطات الحماية في 20 غشت 1953 على نفي بطل التحرير والاستقلال وأسرته الشريفة في محاولة يائسة لإخماد الروح الوطنية، مما أجج شعلة الكفاح الوطني لتنطلق المقاومة المسلحة والمظاهرات العارمة وعمليات جيش التحرير إلى أن تحققت إرادة العرش والشعب، وعاد رمز المقاومة والتحرير جلالة المغفور له محمد الخامس قدس الله روحه مظفرا منصورا، من المنفى إلى أرض الوطن في 16 نونبر 1955، رفقة شريكه في الكفاح والمنفى جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه والأسرة الملكية الشريفة، حاملين بشرى انتهاء عهد الحجر والحماية وإشراقة شمس الحرية والاستقلال.
وقد حظيت هذه الملحمة الوطنية العظيمة والمحطة التاريخية الخالدة في مسيرة كفاح الشعب المغربي من أجل الحرية والاستقلال، بعناية موصولة واحتفاء دائم ومستمر، ومن ذلك تنظيم مهرجان كبير بمناسبة الذكرى الخمسين لها تحت الرعاية الملكية السامية حيث تفضل جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، فأناب عنه سمو ولي العهد آنذاك، جلالة الملك محمد السادس، لإزاحة الستار يوم 29 يناير 1994 عن اللوحة التذكارية المقامة تخليدا لأحداث يوم 29 يناير 1944 بساحة مسجد السنة بالرباط، والترحم على الشهداء الميامين لهذه الملحمة الخالدة، وتكريم أسمائهم إكبارا لتضحياتهم الجسام وخدماتهم الجلى دفاعا عن عزة الوطن وكرامته.
وإن أسـرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيـش التحرير، إذ تخلـد الذكـرى 77 للانتفاضـة الشعبيـة لـ 29 و30 و31 يناير 1944، في أجواء من الحماس الوطني والتعبئة الشاملة لتؤكد على واجب الوفاء والبرور بالذاكرة التاريخية الوطنية وبرموزها وأعلامها وأبطالها الغر الميامين. وهي في ذات الوقت، تحرص على إيصال الرسائل والإشارات القوية وإشاعة رصيد القيم والمثل العليا ومكارم الأخلاق في أوساط وصفوف الشباب والناشئة والأجيال الجديدة والقادمة لتتشبع بأقباسها وتغترف من ينابيعها، ما به تتقوى فيها الروح الوطنية وحب الوطن والاعتزاز بالانتماء الوطني لمواصلة مسيرات الحاضر والمستقبل تحت القيادة المتبصرة والحكيمة لجلالة الملك محمد السادس لبناء وإعلاء صروح المغرب الجديد، مغرب الحداثة والديمقراطية والتنمية الشاملة والمستدامة والتضامن والتكافل الاجتماعي.
والمناسبة سانحة لأسرة المقاومة وجيش التحرير لتعبر عن اعتزازها الكبير وثقتها الموصولة في القيادة الحكيمة والمتبصرة والمقدامة لجلالة الملك محمد السادس، وما أثمرت من إنجازات تاريخية وتحولات إستراتيجية تشهدها قضيتنا الوطنية الأولى، قضية الوحدة الترابية المقدسة، أسفرت عن إعلان القرار التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراف بالسيادة التامة والكاملة للمملكة المغربية على صحرائها، والذي يُشكل لحظة حاسمة ومفصلية في مسار النزاع الإقليمي المُفتعل والذي يسعى خصوم وحدتنا الترابية إلى تأبيده ضدا على الحقائق التاريخية التي تشهد على أن الصحراء كانت مغربية وستظل مغربية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كما ترحب بقرار الولايات المتحدة الأمريكية القاضي بفتح قنصلية لها بمدينة الداخلة تضطلع بمهام اقتصادية من أجل تشجيع الاستثمارات الأمريكية والنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لفائدة ساكنة أقاليمنا الجنوبية، بما من شأنه تعزيز الدينامية الديبلوماسية بفتح العديد من القنصليات بالصحراء المغربية والبالغ تعدادها إلى اليوم 19 قنصلية، 9 منها بمدينة الداخلة و10 بمدينة العيون؛ وفتح آفاق جديدة كفيلة بتعزيز وتقوية الموقف المغربي في الأوساط الدولية، يزيد من عزلة خصوم الوحدة الترابية، ويسهم في مواجهة مناوراتهم ومؤامراتهم الرامية إلى التشويش ومحاولة النيل من الحقوق المشروعة لبلادنا.
واحتفاء بهذه المناسبة الوطنية الخالدة بما يليق بها من مظاهر الاعتزاز والإجلال والإكبار، ستنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، يومه الجمعة على الساعة الرابعة والنصف عصرا بفضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بسلا، احتفالية رمزية، ستلقى خلالها كلمات حول هذا الحدث التاريخي الخالد والطافح بالدروس والعبر التي يتوجب استحضارها لتنوير أذهان الناشئة والأجيال الجديدة بمضامينها وعظاتها ورسائلها النبيلة في مسيرات الحاضر والمستقبل.
كما سيتم تكريم صفوة من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير المنتمين لعمالة سلا وتوزيع إعانات مالية واجتماعية على عدد من أفراد أسرة المقاومة وجيش التحرير المستحقين للدعم المادي والرعاية الاجتماعية.
وسيتم قبل ذلك، على الساعة الثالثة بعد الزوال، تنظيم وقفة ترحم على أرواح شهداء انتفاضة 29 يناير 1944 أمام اللوحة التذكارية المخلدة لحدث 29 يناير 1944 بساحة مسجد السنة بالرباط وبمقبرة سيدي بنعاشر بسلا .

موسى كرزازي

Related posts

Top